تواصل اطراف  عراقية ودولية عدة تقديم مبادرات واقتراح خرائط طريق، للخروج بالبلد من الازمة الراهنة التي دفعت القوى المتنفذة بلدنا إليها.

ومن المؤكد ان لا أحد يريد إلحاق المزيد من الضرر والاذى بالوطن، لا سيما وان الشعار الاساسي الذي رفعه المنتفضون هو " نريد وطن" تجسيدا لمعاناة الجماهير الواسعة وغربتهم في بلدهم.

وبعد الاول من تشرين الاول 2019 بوجه خاص تعمقت الهوة وازداد عدم الثقة بين المواطن والسلطات خاصة منها التنفيذية، جراء الاستخدام السلطوي الواسع للقمع ولمختلف  اساليب ووسائل تكميم افواه المواطنين وخنق حراكهم الاحتجاجي، ومن ذلك "القنص" واستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغازات المسيلة للدموع التي أثير العديد من التساؤلات بشأنها، كذلك حملات الاعتقال والاختطاف وملاحقة الناشطين والتغييب القسري،  وتهديد الطلاب والمعلمين والموظفين بالفصل.

ان ما نُفذ من حمامات دم لا بد ان يكون  حاضرا عند الحديث عن اي مبادرات، ولا بد من الانطلاق اولا وقبل كل شيء من تحديد المسؤولية عما جرى. فمن غير الممكن التعامل مع هذه الدماء الزكية المراقة ظلما بالخفة ذاتها التي أريقت بها، والحق في الحياة بالنسبة للإنسان هو المقدم على كل شيء، وسيبقى اهل الضحايا وشعبهم يطالبون بكشف  المسؤول عن أزهاق هذه الارواح البريئة!

نعم، لن يمكن  التغاضي عن ذلك والقفز عليه، حسب طريقة "عفا الله عما سلف"، كما يطالب البعض !

وما من شك في ان الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة هما المسؤولان عما وقع ، وهما من فقد ثقة المواطنين ولا بد لأي معالجة جادة ان تبدأ من تحديد هذه المسؤولية السياسية والاخلاقية والمعنوية وحتى الجنائية.

ان الكثير من القضايا التي قدمت باعتبارها حزما اصلاحية، هي مستحقة منذ وقت طويل، ولم نكن بحاجة الى هدر دم (320) شهيدا واصابة اكثر من (15) الف مواطن، كي تقتنع القوى المتنفذة الماسكة بالسلطة والحكومة، بأن وقت تقديمها قد حان. فهي الآن حزم اصلاح  تنزف دما ! 

نعم، المواطن المنتفض ونحن معه يريد  اصلاحاً شاملاً يفضي  الى تغييرات عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي المقدمة منها اصلاح النظام السياسي والقضاء على المحاصصة ومنظومة الفساد. ولكن ثبت بالتجربة ان من الصعب، وقد يكون اقرب الى المستحيل، ان تتحقق حزم اصلاحية مقبولة عموماً بأدوات ووسائل واشخاص هم رموز للازمة والفشل، وتحوم حول العديد منهم شبهات الفساد وتلاحقهم في حلهم وترحالهم، تضاف الى ذلك مسؤولية هذا القتل العمد .

اننا لا نريد ازهاق المزيد من الارواح ولا الحاق اي ضرر بالاقتصاد الوطني او بقوت الناس ومصادر عيشهم ، ولكن لا يمكن القبول بعد الآن بالحلول الترقيعية والمسكنة، والهادفة الى احتواء الازمة وتدويرها بدل تقديم الحلول الجادة لها، وان يتلمس الناس فاقدو الثقة بمؤسسات الحكم، النية الصادقة للحل عبر اجراءات ملموسة. فكيف للمواطنين  ان يطمئنوا الى اجراءات الحكومة وغيرها من السلطات، مع استمرار القتل العمد والتهرب من المسؤولية  بحجج لا تصمد امام الواقع العنيد. وان ما يوثق  كل يوم من احداث يدلل  على النية المسبقة  لإغراق الانتفاضة السلمية بالدم، حتى لم يعد ذلك سرا مع وجود كم التصريحات والمواقف المعلنة، التي تشير  بوضوح الى ذلك .

ان المبادرات التي تقدم تحمل مطالب وقضايا تعد من المستحقات، ولكنها عموماً تبقى تحوم حول اصل المشكلة والعقدة التي يتوجب الاقتراب منها، ونعني قضية الحكومة الحالية ومسؤوليتها عما وقع. وبالتالي فان  نقطة البدء لا بد ان تكون هنا، وعبر قيام حكومة جديدة بديلة توضع في الاعتبار عند تشكيلها الحقائق الجديدة التي افرزتها الانتفاضة، وان تكون بعيدة عن المحاصصة والفاسدين والفاشلين، وان تتشكل من شخصيات  وطنية كفوءة ونزيهة. كذلك ان تنفذ مهام حكومة انتقالية، وتعد مستلزمات اجراء انتخابات مبكرة، بما في ذلك اقرار قانون انتخابي جديد عادل ومنصف، وتشكيل مفوضية جديدة للانتخابات خارج سيطرة الاحزاب والكتل السياسية ، مفوضية مستقلة حقا ومحايدة ومهنية.

ان الرهان على تعب المنتفضين وعلى شق صفوفهم وإدخال " المندسين "  والاستخدام الواسع للقمع والتفنن فيه، يزيد من حالة الانسداد التي يضاعفها ويعمقها الاصرار على التشبث بالسلطة، فتنفتح  الابواب واسعة على مختلف الاحتمالات، وبضنها الاسوأ، ويفتح كذلك شهية مختلف الاطراف الخارجية على الامعان في التدخل بشؤون وطننا.

وقد أصبح واضحا الآن أن طريق اختصار المحن والكوارث وحقن الدماء والبدء بمرحلة جديدة، انما يمر عبر اقالة الحكومة ان لم تستقل، والسير قدما على طريق تحقيق مطالب الشعب والمنتفضين.