اولاً وقبل كل شيئ اعتذر شديد الإعتذار من القاضي والفيلسوف ابن رشد لإستعارتي بعض مفردات عنوان كتابه المعروف " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال " الذي حاول ان يفند فيه اطروحات بعض فقهاء عصره حول بعد الفلسفة عن الدين والفصل الكامل بينهما . لقد جعل ابن رشد من الفلسفة التي سماها الحكمة في كتابه هذا نهجاً يصب في ذلك النهج الذي يسلكه الدين وذلك من خلال تقارب المحتوى الفكري الذي لم ينظر له الفقهاء بتلك النظرة الثاقبة التي نظر فيها الفلاسفة ، لذلك فإن تأويلات رجال الدين جاءت بعكس ما يريده الفكر الفلسفي في معالجته للمسائل الدينية التي يواجهها الإنسان .

وموضوعنا هذا اليوم لا يختلف كثيراً في توجهه لمعالجة مسألة تتعلق بالنظرة الدينية الفلسفية ، إلا انها مقتصرة هنا على رموز هذه النظرة وموقع هذه الرموز في عبادات الأديان التي تتعامل مع هذه الرموز.

الرمز الأول يتعلق بالبقرة التي اكتسبت مرتبة مقدسة في الديانة الهندوسية تطورت بوتائر مختلفة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. وقد وردت تفسيرات كثيرة لهذا التقديس اهمها يتعلق بالعطاء الذي توفره البقرة للإنسان والمتمثل بالحليب وتوظيفه للمنتجات الغذائية الأخرى . الغور في هذا الموضوع يقود الى ضرورة التعمق بفلسفة تقييم البقرة في الديانة الهندوسية ، وهذا ليس مجال حديثنا الآن . ان ما نريد الخوض به في هذا الموضوع هو مسألة الدور الجديد الذي تكتسبه الجِمال في المجال الديني ومساهمتها في تأدية بعض العبادات والشعائر الدينية ، خاصة في المناسبات الدينية الشيعية في العراق.

لقد عشت شخصياً بعض مظاهر هذا الدور للجِمال في احدى المناسبات الدينية المُقامة في الكاظمية  حينما دخلت مواكب الجِمال الى بغداد متجهة الى مرقد الإمام تاركة وراءها مخلفاتها على الشوارع ، دون ان يشكل ذلك ادنى اهتمام لأصحاب العلاقة من منظمي هذه المواكب وبالتالي لا يعنيهم طبعاً ما ينشأ من مناظر للشوارع التي تمر بها هذه الجمال بكل ما تحمله من اشخاص او متاع .

ويبدو ان ظاهرة استخدام الجِمال كجزء من ممارسة الشعائر الدينية الشيعية اصبحت غير مقتصرة على الإحتفال بمولد او وفاة إمام معين ، بل انها اصبحت جزءً من الشعائر الدينية الحسينية يجري توظيفها في اهم مناسبة دينية لدى الشيعة في العراق والمتمثلة بالعشرة الأولى من شهر محرم ويوم العشرين من شهر صفر.

لقد توالت مواكب الجِمال على كربلاء في الأيام الماضية وبهيئات مختلفة والوان يغلب عليها اللون الأخضر تيمناً بهذا اللون الذي يشير الى قدسية من عليه عمامة كانت او غطاء رأس آخر. الجمال المقدسة التي تقبعت بالأخضر تتدلى النقود من على رقابها كنذور من البائسين الى قادة هذه الجمال ليجعلوا منها اكثر قدسية واروع مظهراً قدسياً في المناسبات القادمة ، ومناسبة الأربعين ليست بعيدة عنا.

قدسية الجِمال عندنا ، في وطننا العراق المليئ اليوم بكل ترهات الإسلام السياسي وتجار الدين ولصوصه، اصبحت تضاهي ، لا بل وتتغلب على مقومات قدسية البقرة في الهند التي لم يربط الهندوس قدسيتها بولي او قديس بقدر ربطها بالفائدة المادية التي يجنيها الإنسان منها واعتبارها ، استناداً الى هذا العطاء ، بمثابة الأم التي تساعد على الحياة . وهذا ليس بصعب على فقهائنا حينما يضاهون التراث الهندوسي فيضفون على قدسية الحيوان بعيراً كان ذلك الحيوان ام ذبابة ام حماراً وغيرها مما خلق الله من أنعام .

فالبعير الذي يجتاح ارض كربلاء اليوم لينشر الخشوع والبركات في مناسبة دينية يعتبرها الشيعة من اهم مناسباتهم سبق وان مارس هذه القدسية في مناسبات اخرى تجلت بشكل اكثر وضوحاً في شوارع بغداد والكاظمية في شهر نيسان الماضي من هذا العام. إلا ان لهذا البعير عطاءات اخرى تفوق عطاءات الأبقار الهندية . فبول البعير اكتشفته المختبرات العالمية على انه يحتوي على المقاومات الحيوية التي لا يقف مرض صامداً حيالها مهما كانت شدة تأثيره على جسم الإنسان . لذلك اصبح التبرك ببول البعير وشربه والإغتسال به من الممارسات التي جعلت مجتمعاتنا تنعم بالصحة التي لا تضاهيها صحة اكثر شعوب العالم تقدماً . وقبل البعير برزت عندنا الذبابة التي تحمل الشفاء من الأمراض في احد جناحيها الذي لابد من تغطيسه وعصره في السائل الذي وقعت فيه الذبابة للحصول على المادة الشافية . اما الحمار عيفور او طيفور كما تسميه بعض المراجع العلمية العالمية فقد فاق كل حيوانات الأرض حينما تكلم مع راكبه مؤيداً رسالته التي اخبره فيها ابيه عن جده عن ابيه بالحديث المعنعن المشهور عن هذا الحمار. ولا نريد ان نُكثر من المقدسات التي لا تقتصر على البقرة ، كما في الهند ، فحيواناتنا لها قدسية خاصة لأنها إضافة الى منافعها المادية ، كما في بقرة الهند ، فإنها تحتل موقعاً  إعجازياً لا تقدر عليه كل ابقار الهند مجتمعة . فها هي البومة التي كانت تعيش كطير عادي كبقية الطيور تتمتع بالأشجار والطبيعة، فحولت حياتها الى السكن في الخرائب حزينة كئيبة لأنها لم تتحمل نفسياً مأساة ما حدث في كربلاء عام 61 للهجرة فتوارثت اجيالها هذا الحزن الذي لم يسمح لها بترك الخرائب والحياة على الأشجار كبقية الطيور . وها هو العصفور الذي اصبح مثلاً مُنذراً لكل الحيوانات التي ترتكب المعاصي في حياتها ، فقد كان اسمه الحقيقي فور وحينما عصا ربه وانبياءه وأولياءه قيل عنه عصا فور التي تحولت بمرور الزمن الى عصفور تسهيلاً للفظ . وهكذا يمتلئ قاموس حياة المسلمين بتلك الحيوانات التي لا تضاهي قدسيتها ومقدرتها على المعجزات اي حيوانات اخرى خارج المجتمعات الإسلامية حتى وإن كانت بعضاً لبعض ظهيرا. نعم فنحن خير امة أُخرجت للناس.

 

عرض مقالات: