ترفع رواية مروج جهنم للكاتب حازم كمال الدين القارئ للوهلة الاولى الى عالم غرائبي صادم حيث الحياة الرتيبة على خط النار ، ويبعد المؤلف في هذه الرواية المؤثرات الانسانية التي تضعف الاحساس بتلك الحياة وتقطع وشائج الارتباط بالحياة العادية التي يعيشها الناس . وغالبا ما يجنح الناس الى اضافة الوان على حياتهم تغطي لون اللوحة الاصلية ويتناسون ما يمر بهم على بعد امتار . لم تكن السجون في العراق وفي معظم الدول بعيدة عن اماكن السكن والعبادة ، وقد يفصل في بعض الاحيان حائط بين من يمارس الحب وبين غرف التعذيب الرهيبة ، فجاءت الرواية لتسقط هذا الحائط وتدمج المنظرين فيتبادل الناس الادوار في فعل غرائبي يفتح حصون العقل على واقع قريب تمحى به الحدود ، فما الذي يفصل الطفل النحيف الحافي السائر على انابيب البترول الغليظة ، انه  الاحساس بهذه الصورة وتقدير المسافة الفاصلة بين قدمه الساخنة الجافة وجريان ذلك السائل البارد الذاهب الى بلاد بعيدة .

الرواية قصيرة لكن الكثافة والغزارة والتركيز تجعلك تعيد الجمل وتقرأها مرة اخرى ، ليس بسبب  ضبابية المعنى وخفاء الصورة بل ان القراءة الثانية تبيح لك  معرفة واكتشاف صورة اخرى لنفس النص ، وتجد فيه مقاربات حقيقية لأشخاص واحداث ونظم مرت في عموم المنطقة ، وتتفاجأ باكتشاف جارك او زميلك القديم شاخصا في احد ابطالها ، فترى نفس معانيه وحركات يده وتصرفه العام  ، فتتباطأ اكثر لاكتشاف ما خفي داخل النص والصورة .

لم يكن اسلوب الكتابة روائيا فهو يميل الى الكتابة المسرحية اكثر . فقد جمع الكاتب ادواته وعدته في مساحة صغيرة لا تتجاوز مساحة خشبة المسرح ، وقدر تلك المساحة اقتصادا بالديكور والمكان،  وجعل الاحداث كلها تدور فيه ، فتنازل عن غرفة نوم العقيد

والغاها ليدمجها بغرفة واحدة فقط هي غرفة الولادة والاسر والرقص والتحقيق وممر للولادات الجديدة ، وبسبب ازدحامها الشديد لم يخصص الكاتب كرسيا لجلوس العقيد ولا مكانا لاستراحة الراقصة والغى كل ما يمت للأكل والشرب والنوم ، وجعل القراء يقفون امام هذا المشهد والغى فرصة الجلوس لاخذ قسط من الراحة يتنفسون به بحرية وافواههم مغلقة ، فكانت اشواك الاحداث الكثيفة المخيفة  المركزة تدمي مؤخراتهم لو فكروا بالجلوس  .

كما ان اللغة الثنائية المعتمدة على الضد والضد الاخر كانت احد اسباب ضعف الرواية وقوتها ، فقد علقنا الكاتب بالضد وجعلنا نفكر ونتساءل هل من الممكن التخلص من الضد الاخر نهائيا ؟ . لقد اعتمد الكاتب على خلفيته الفلسفية في وحدة وصراع الاضداد منهجا في معظم كتاباته من الكباريت الى المياه المتصحرة . وقد تلبس الدور واصبح يمثل في حياته اليومية ، ويتخذ الاسماء المختلفة وينظر للشفاه وهي تتحرك ناطقة بها بطريقة مختلفة فيكسبه ذلك متعة التغيير والخروج من القوالب المجتمعية والسياسية التي جثمت

على صدره . ان الاحساس باسم مختلف ينعكس بعض الشيء على الشخصية ، ويجعل برخت حاضرا بينها فيوحي هذا الامر بغرابة الموقف والشخصية . انت تتوقف على اسماء الشخصيات ليس بشكل عابر ) ابوسفيان الموسوي .. ومنه السفياني ( فكل واحد منهم يحمل معنى متعارض لا يمكن ان يجتمع في شخص واحد ، وان اجتمعت فان تلك الشخصية تكون عرضة للذوبان والتبخر والصعود  الى غرائبية سماء الرواية .

ان مشكلة الاعتماد على الضد والضد الاخر هو ارتهان الضدين كل منهم للأخر، وتصبح قضية اجتماعهما باواصر شديدة البأس قضية يستحيل منها الفكاك  ، ويفضي ذلك بالتالي الى الياس في العبور الى الجانب السعيد مادام هذا الجانب مرتبط بالجانب الحزين ، فكيف يمكننا الفصل التام بين ابي سفيان والموسوي ، وكيف يمكننا الفصل بين صالة الولادة وجبهة الحرب وقاعة التعذيب والموت ، وكيف يمكنك المرور على الرعب والشناعة والقبح والخوف لخلق مفاهيم الاطمئنان والالفة والراحة والامن . لقد أغلقت' الرواية مرات عديدة رغبة في التنفس بعيدا عن اجوائها التي مرت علينا بصيغة الغزوات وداعش والبعث والحرس القومي ، ويبدو اننا  استعرنا قلوب السمك لتناسي ما مر بنا رغبة  في البقاء احياء نرزق.. ورغبة في التقليل من وتيرة الجنون في واقع ينتمي اليه .

انت ترى نساء اسيرات .. جهاديات .مسافحات. ماجدات .. يروين سيرتهن ورحلتهن الطويلة في هذه المأساة التي تمر في مناطق عديدة من العالم ، يرسمن وشما على اجسامهن ويخططن حركة مرور الدكتاتورية على خريطته ، ويبررن ذلك بجهاد النكاح وبأمرأة

وهبت نفسها للنبي خالصة من دون المؤمنين . لقد رسمت المرأة نفسها في هذه الرواية كشيء لا ينتمي للإنسانية ، فتسالم على ممارسة هذا الدور الغزاة وسلاطين الاديان والدكتاتوريات والرسل والسير العطرة المعطرة .. لقد بخلت الرواية بسعة المكان وقلصته  الى مساحة اصغر من خشبة مسرح ، واصبحت تدور  بالحقيقة على جسد المرأة فقط ، وعليه مر العسكر ولحى الفسق والتعاويذ والدبابات وخطوط النار ومبضع المحقق وصالة الاعدام .. وانطقوها اخيرا وشوهوها آخرا للدفاع عن شرف العقيد في تشابه فريد مع تلك الروايات المحسنة التي توصف شوق صفية بنت حي بن اخطب في تلك الليلة التي قتل ابيها وزوجها واخيها  لملاقاة النبي .

ان الرواية تذكرني بمحمود درويش الذي يقول : هل يستطيع المرء ان يقرأ ان يكتب في دبابة ؟  ،.. هل يستطيع المرء ان يطير  الحمام في دبابة ؟ .. 

 هل يستطيع المرء ان يغرس الاشجار في دبابة ؟ يتزوجون .يطلقون ..يسافرون .. ويولدون .. ويعملون ويقطعون العمر في دبابة ..

نعم لقد استطاع الكاتب ان يحصرنا في هذا المضيق ويجعلنا نتكدس ونفغر افواهنا دهشة ورفضا ونقف رافعين السقف لكي لاينهار

 الواقع على رؤوسنا .. لقد وضعتنا الرواية في حلم المرعب جدير بالتفكير به مليا  لانه رؤيا صادقة .