الإسلام السياسي بمفهومه الحديث الذي تبلور بعد تشكيل حركة ألأخوان المسلمين في مصر على يد السيد حسن البنا في اواخر عشرينات القرن الماضي والذي اقترنت ولادته بالمخابرات البريطانية ( راجع على سبيل المثال لا الحصر : 

https://www.youtube.com/watch?v=03tnNoZq2Ps

هذا الإسلام السياسي الإخواني المنشأ خاض تجارب عديدة في مناطق مختلفة من العالم أراد من خلالها تحقيق هدفه ألأساسي المتمثل بالدولة الدينية . لقد إختلفت الرؤى وتعددت المفاهيم حول ماهية هذه الدولة بعد أن إختلفت وتعددت التنظيمات التي إنسلخت عن التنظيم ألأم وبعد أن برزت أحزاب وتنظيمات في المجتمعات الإسلامية وضع كل منها برامجه وتصوراته حول المحور الذي ترتكز عليه هذه الدولة والذي لم يتجاوز الدين الإسلامي الذي فسره كل على هواه ووظفه كل على ما يرى فيه من تحقيق لمآربه السياسية أو نزواته الشخصية أو الحزبية التي كثيرآ ما إبتعدت عن جوهر الدين وتعاليمه التي يروجون لها على الأقل . لقد أتبتت هذه التجارب الدينية جميعآ وبدون إستثناء بأنها غير مؤهلة لتحقيق النظم السياسية التي يمكنها التعامل مع الواقع اليومي الذي يمر به العالم اليوم , ناهيك عن التجاوب لطموحات الجماهير التي تريد التجمعات الدينية المختلفة التحكم بها من خلال فرض مفهومها للدين عبر قوانين بدائية جائرة , إذ أنها جعلت من حقول تجاربها مناطق تعيش ضمن الخصوصية التي إكتشفها على حين غرة دهاقنة الخطاب الديني فأثبتوا بذلك مدى تخلف خطابهم الذي جاء بفشل تجاربهم هذه كحصيلة حاصل لتوظيف الدين وإستغلاله.

سنحاول التطرق لبعض هذه المشاريع الفاشلة لا لتعليل ومناقشة أسباب فشلها , إذ أن مثل هذا ألأمر لا يحتاج إلى جهد وعناء للوقوف على هذه ألأسباب التي لا تتعدى التجارة بالدين التي مارسها تجار يجهلون حتى ماهية البضاعة التي يتاجرون بها , بل لنرى حتمية هذا الفشل الذي صاحب هذه المشاريع بالرغم من تباين المنطلقات والتوجهات في توظيف الدين لتحقيق النظام السياسي الذي يتطلع إليه منفذو هذه المشاريع . بعبارة اخرى يمكن القول بكل تأكيد ان مجرد وضع الدين كموجِه للسياسة امر مكتوب له الفشل الأكيد حتى وان تعددت المناهج الدينية التي تدعوا الى مثل هذه المشاريع ، والتاريخ العالمي يرينا ذلك بكل وضوح.

وللتوغل في هذه الفكرة أكثر نحاول مناقشتها من زوايا مختلفة حسب القناعات التي فرضتهاالجماعات الدينية المختلفة محاولة تطبيقها على الواقع العملي كنظام سياسي . فلقد لعب الإنتماء المذهبي لأحد المذهبين الكبريين في الدين الإسلامي , المذهب السني , بجميع مدارسه وتشعباته, الذي يمثل الغالبية العظمى من التعداد السكاني ألإسلامي العالمي والمذهب الشيعي , الذي تشعب هو الآخر, والذي يمثل الأقلية الواضحة بين مسلمي ألأرض كافة , لعبت هذه الإنتماءات دورآ أساسيآ في تحديد معالم النظام ألإسلامي الذي تبنته وعملت على تحقيقه القوى المنضوية تحت هذه الإنتماءات وفي مناطق مختلفة من مناطق ألإنتشار السكاني ألإسلامي . وربما نستطيع القول " رُبَّ ضارة نافعة " حينما نرى فشل جميع هذه التجارب , إذا ما أخذنا بالمفاهيم العالمية الحديثة لتحديد الفشل والنجاح لأي نظام سياسي في عالم القرن الحادي والعشرين.

لقد قامت دولة الطالبان في أفغانستان كدولة لها توجهاتها الدينية الإسلامية ضمن الثوابت السُنية التي تنطلق منها هذه الجماعة والتي جعلت منها نظامآ سياسيآ لا يمكن وصفه , من خلال ما حققه طيلة سنين تسلطه على رقاب الشعب الأفغاني , إلا بالهمجية والبدائية التي عطلت قدرات وقابليات هذا الشعب الذي بدى للعالم وكأنه يعيش في غياهب قرون ما قبل التاريخ . لقد أجبر هذا النظام التسلطي الرجعي البدائي في أفغانستان حتى تلك القوى التي ساهمت بتأسيسه ودعمه ماليآ وعسكريآ والمتمثلة بالمخابرات المركزية الأمريكية ونظام آل سعود في شبه الجزيرة العربية ،على التخلي عنه حيث لم تستطع هذه القوى حتى من إيجاد مبرر إيجابي واحد لإستمرارية وجود هذا النظام تستطيع التلويح به ولو من بعيد ضمن سياق دفاعها عنه. لقد قامت دولة الطالبان على نظرية الوقوف بوجه المد السوفيتي آنذاك وبتوجيه وتمويل من المخابرات السعودية والأمريكية. وسقط هذا النظام الإسلامي السُني على يد من أقاموه ومولوه كنتيجة حتمية لإنتهاء دوره الذي وضعه له مؤسسوه في محاربة الشيوعية في المنطقة إنطلاقآ من محاربة التدخل السوفيتي في أفغانستان آنذاك أولآ, ولعدم إستطاعة هذه القوى التي جاءت بهذا النظام ترويض وتجميل الهمجية التي واكبت جميع تصرفاته واقترنت بجميع قراراته محليآ وعالميآ ثانيآ , بحيث أصبح من المستحيل ألإشارة إلى سبب إيجابي واحد لإقناع ألآخرين باستمرارية وجوده ولجزع الشعب الأفغاني , ثالثآ , من تسلط عصابات الطالبان التي قننت, ضمن ضوابط شريعتها, كل تحرك في المجتمع الذي بدى وكأنه لا ينتقل من ظلمة إلا ليقع في أخرى أكثر سواداً وأشد تخلفآ . فسقط غير مأسوف عليه وسقط معه هذا المشروع المؤسس لدولة دينية إسلامية ضمن التوجه العام لمشروع الإسلام السياسي.

وكما فشل المشروع الأفغاني السُني فشل قبله المشروع ألإسلامي الجزائري الذي تبنته القوى ألإسلامية الجزائرية التي إنطلقت من ثوابتها ألإسلامية السُنية أيضآ , بالرغم من إختلافها عن ثوابت المدرسة التي يمثلها ألإسلام السياسي لدى حركة الطالبان . لقد أدى هذا التوجه ألإسلامي الجزائري الذي ظل يخطط لقيام الدولة ألإسلامية في الجزائر إلى أن يتكبد الشعب الجزائري مئات ألآلاف من الضحايا التي شملت جميع طبقات المجتمع الجزائري ولم يفرق " المجاهدون المسلمون " بين الشاب والشيخ أو المرأة والرجل أو الرضيع والصبي في عمليات الذبح التي كانت ترافقها صيحات التكبير والتسبيح بحمد الله . لقد كان هذا المشروع مرتبطآ بالجريمة التي وجد لها منفذوها مختلف الفتاوى والتبريرات الدينية التي نسجوها وفق مقاسات فهم عقولهم الضامرة, إلا أن ذلك لا يتعارض ووضع هذا المشروع الإجرامي ضمن محاولات ألإسلام السياسي الداعي لتأسيس الدولة الدينية ألإسلامية .

وليس ببعيد عنا ذلك التوجه الهمجي لدولة الدواعش التي استنسخت التجربة الجزائرية الفاشلة محاولة اضفاء همجية ووحشية اكثر على مقومات الدولة الإسلامية في العراق والشام .

وقد رأينا مؤخراً كيف اطاح الشعب السوداني بدولة البشير التي تنهج النموذج الإسلامي لبناء الدولة التي اوصلت الشعب السوداني الى اسوأ ما عاشه من تردي لكل مفاصل الحياة واستغلال خيرات البلد للدكتاتور الإسلامي وحاشيته الذين حاولوا لثلاثة عقود من تاريخ السودان فرض الإسلام السياسي بثوابته السنية أيضآ من خلال التبجح بتطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية التي إتخذت منها ذريعة لقتل أبناء الشعب السوداني في الجنوب وفرض القوانين المجحفة المنافية للحياة الإنسانية في عموم القطر السوداني . وكلنا عاش التصرف الهمجي ضد الصحفية السودانية لبنى وزميلاتها بسبب أرتدائهن للبنطلون..

أما في الصومال الذي جعلت منه المحاكم الصومالية السنية الثوابت أيضآ ساحة للإقتتال ليس بين أبناء الوطن وحسب بل بينهم وبين جيرانهم أيضآ بغية خلق مبررات القهر والإضطهاد والتحكم برقاب الناس بالعزف على وتر الدفاع عن الوطن ، فلم يكن نصيبه من التخلف والإنحطاط والسير بالبلد نحو الفقر والمجاعة والإضطهاد باحسن مما آلت اليه الإنظمة الدينية التي سبقته.

وسنة واحدة من حكم الأخوان المسلمين في مصر كانت كافية لأن تبين بوضوح كيف يستغل الإسلاميون المبادئ الديمقراطية ، بالرغم من التشوهات التي يدخلونها عليها ، للوصول بواسطتها الى قمة السلطة السياسية ليضربوا بعدئذ هذه المبادئ عرض الحائط من خلال التسلط الدكتاتوري للإنفراد بالسلطة التي رفضها الشعب المصري طارداً هذه الدولة الدينية من على ارضه التي اصر شعبها على صيانة جميع حقوقه وعلى مختلف المجالات من عبث الإسلاميين وجرائمهم.

ولا تنتهي هذه السلسلة من اخفاقات الدولة الدينية بالتوجه السائد على ارض منشأ الإسلام فيما يسمى اليوم بالمملكة العربية السعودية التي لا حاجة لشرح طبيعة الحكم الهمجي فيها والذي يستند بكل مفاصل الدولة ومؤسساتها على توظيف الفكر الديني كمنهاج ثابت للدولة التي اصبحت بمرور الزمن تشكل رمزاً من رموز العصور الوسطى التي يسعى فيها البعض لتحسين قباحة النظام ببعض ما يسمونه من الإصلاحات التي لا تخرج عن الإطار الديني الذي يعمل بموجبه هؤلاء المصلحون ايضاً.

هذه المشاريع الفاشلة للإسلام السياسي السني التي لا يرتبط فشلها بالمدرسة التي يتبنى ثوابتها هذا المشروع أو ذاك , بل بتوظيف الدين ذو الطبيعة الروحية التأملية العبادية التي تتغلب عليها الخصوصية الشخصية أكثر من تلك العمومية التي تجعل الدين رهينة لتقلبات وضع سياسي أو إقتصادي معين أو لمزاجات شخص أو مجموعة ما . هذه المشاريع التي رافقتها الجريمة وأشاعت مبدأ القتل وشرعنت إستعمال العنف حتى بدى وكأنه العلامة الفارقة لمثل هده المشاريع , لا ينبغي أن يرتبط فشلها بتوجهها السني , بل بإرتباطها بتوظيف الدين لخدمة أهدافها السياسية وفشلها في هذا التوظيف الذي ربطته بالعنف دومآ , إذ أن التوجه الديني الآخر الذي خطط ويخطط لتأسيس مشروع الدولة الدينية إنطلاقآ من ثوابت الإسلام الشيعي لا يقل بؤسآ وهمجية ووحشية وتوظيفآ فاشلآ للدين عن نظيره السني ولا تتحقق له فرص نجاح أكثر منه , حيث إرتبط هذا التوجه أيضآ بعامل العنف المؤدي إلى الجريمة متنكرآ هو ألآخر لكل أساليب ألإقناع التي تشكل القاعدة ألأساسية لأي فكر بما فيه الفكر الديني. وخير مثال صارخ على فشل هذا التوجه الطائفي الشيعي يتجلى في نظام ولاية الفقيه الذي سنناقشه في القسم الآخر من هذا الموضوع ، إضافة الى مناقشة ما يتفاخر به ادعياء الدولة الدينية من ذلك الهجين المشوه للدولة في بعض الدول ذات الأغلبية الإسلامية والتي تدعي انها تؤسس لدولة مدنية حديثة بتوجه اسلامي كتركيا والباكستان مثلاً  ، او المجتمعات الخليطة ذات المذاهب المختلطة التي تؤسس لهذا الهجين من الدول ، حيث يعتبرها الإسلام السياسي نماذج ناجحة . إلا ان الفشل الذريع الذي يرافق مثل هذه الدول لا يمكن لكل ذي بصر وبصيرة انكاره، وهذا ما سنتطرق اليه في القسم الثالث من هذا الموضوع.

ارحلوا ـ القسم الثالث

لم يكن فشل الدولة الدينية الذي رافق النماذج السنية، التي تطرقنا اليها آنفاً ، يقتصر على التبعية المذهبية السنية ، فولاية الفقيه التي تبناها مشروع ألإسلام السياسي الشيعي في أيران أثبتت بعد مرور اربعة عقود على تاسيسها مدى تخلف القائمين على هذا النظام عن الركب العالمي ومدى كذب الأطروحات الدينية التي يُسوقها مشايخ وملالي هذا النظام الدكتاتوري الهمجي الذي لم يكسب طيلة هذه العقود الأربعة غير العزلة العالمية التي يفتخر بها أحيانآ حينما يقرع على طبول خصوصيته ألإسلامية التي ما إنفكت تردد ذلك النغم النشاز الذي لم يتوقف عن التأكيد على نظرية المؤامرة على ألإسلام والمسلمين, وذلك كلما دخل أزمة محلية أو عالمية لا يستطيع الإفلات منها إلا من خلال أحكام جائرة وسياسات عقيمة لم تجلب للشعب ألإيراني ، ذو التراث الحضاري الموغل بالقدم ، غير المتاهات والتخبط والدكتاتورية . لقد تظاهر الشعب الإيراني في كثير من المدن الإيرانية ، خاصة الكبرى منها ،  وفي مناسبات كثيرة انتخابية وغير انتخابية ، والتي قابلتها عصابات ولاية الفقيه بكل قسوة وهمجية سقط بسببها عشرات القتلى والجرحى ، ودلَّ ذلك كله  ، على مدى أكاذيب هذا النظام بادعاءه الديمقراطية ومدى تخلف هذا النهج الذي يسمونه دينياً حتى عن المبادئ الدينية التي يروجون لها انفسهم على انها ترفض الظلم والجور والإضطهاد.

إن من دلالات فشل هذا النظام الملائي بروز حركة اصلاحية من صلب هذا النظام الذي اعترف بعض دعاته بفشله في سنينه الأولى مطالبين باصلاحه ، إلا ان حتى هذه الحركة الإصلاحية جوبهت بالقمع والتنكيل بالرغم من انطلاقها من مؤشرات دينية تمثل نفس الطائفة التي اسس لها دعاة ولاية الفقيه.

لقد نشأت هذه الحركة في رحم النظام الإيراني الثيوقراطي وولدت وترعرعت فيه كرد فعل على ممارسات الهيمنة التي مارسها المتربعون على سلطة هذا النظام والذين حاولو من خلالها التنكر لما بدأت تشعر وتفكر به الملايين من بنات وأبناء الشعب الإيراني ، خاصة تلك الفئات الشابة التي تشكل الغالبية العظمى من هذا الشعب . لقد دلت جميع الإحصائيات الأخيرة على ان أكثر من ثلثي الشعب الإيراني هم تحت سن الثلاثين من العمر ، وبنفس الوقت دلت الكثير من الإحصائيات على ان هذه الفئات من المجتمع التي لم تعش عصر الشاه بوعي أو لم تعشه أصلاً ، تقف ضد سياسة الإكراه الديني الذي تمارسه المجاميع المسلحة على شوارع المدن الإيرانية والمتعلق بالملبس والمأكل والمشرب والموسيقى والفن وكل ما يتعلق بما تطمح إليه حياة شباب القرن الحادي والعشرين . لقد جاءت الحركة ألإصلاحية من صلب هذا النظام الثيوقراطي لتنقذ هذا النظام من المزالق الخطيرة التي إنزلق إليها والتي ستؤدي بالمحافظين والإصلاحيين على السواء فيما إذا تحول هذا الرفض الشعبي إلى حركة ثورية ديمقراطية حقاً تؤمن بحرية الإنسان وتحترم إنسانيته أيضاً وليس دينه أو معتقده أو قوميته فقط . لقد غيبت دولة ولاية الفقيه كثيراً من الأصوات الرافضة لنهجها في السلطة ، كما انها لم تسمح للمئات من المرشحين سواءً في مجال الإنتخابات البرلمانية أو الإنتخابات الرئاسية ليرشحوا انفسهم باعتبارهم من غير المؤمنين بالخط السياسي الذي يتبناه ساسة ولاية الفقيه. إن هذه الترشيحات والإنتخابات تُذكر العراقيين بتلك الترشيحات والإنتخابات التي كانت تنظمها دكتاتورية البعثفاشية ، حيث كان لا يُسمح لأي مرشح بتقديم أوراق ترشيحه ما لم يوقع على قناعته بمبادئ الحزب والثورة والتزامه بتطبيق هذه المبادئ في عمله . وظل العراقيون يتندرون على هذه السياسة الخرقاء كونها تأتي بمنتسبي حزب البعثفاشية مهما طالت أو عرضت وتشعبت الدعاية الإنتخابية للمرشحين المختلفين فإن الفائزين ينتمون إلى طينة واحدة . وعلى هذا الأساس وصف العراقيون إنتخابات دكتاتورية البعثفاشية على أنها تنطلق من سياسة الإختيار بين الأرنب والغزال ( تريد أرنب أخذ أرنب ، تريد غزال أخذ أرنب) وهذا ما تحاول كل الأنظمة الدكتاتورية السير عليه ، خاصة بعد أن إشتدت الطلبات الجماهيرية إلى التغيير ، حيث عمدت هذه الأنظمة إلى ترقيع قباحاتها باقنعة سمتها إنتخابات أرادت من ورائها إعطاء أنظمتها سحنة من سحنات الديمقراطية ، إلا أنها مخلوطة بنَفَس دكتاتوري تسلطي قمعي .  إن التزمت الملائي الذي قذف بالمجتمع الإيراني إلى دياجير التفكك والإنحلال من خلال إنتشار المخدرات والعلاقات الجنسية التي صبغوها بصبغة دينية ، كزواج المتعة مثلاً  ، وانتهاك حقوق الإنسان بتنفيذ عقوبات الإعدام والرجم التي وضعوها هي الأخرى في اطر دينية جاءت بها تأويلاتهم للنص الديني ليقضوا بها على معارضيهم أو ليشبعوا بها نزوات بعض معمميهم ، وليقمعوا اية حركة تحرر نتشد العدالة الإجتماعية والحريات السياسية والثقافية ، كما يحصل الأن للقوميتين العربية في الأحواز والكوردية في كوردستان الشرقية ، وليؤججوا ، كسابقتهم البعثفاشية ، ألأجواء العالمية بقرع طبول الحرب من خلال إستغلال بعض القضايا المركزية على الساحة السياسية الشرق أوسطية والمتاجرة بها ، كالقضية الفلسطينية التي تتاجر بها السياسة العربية منذ اكثر من سبعين سنة ، فلم تات إلا بالنكبات تلو النكبات لأصحاب القضية انفسهم، للشعب الفلسطيني ، ولينشروا مآسي هذا النظام الدكتاتوري ، نظام ولاية الفقيه ، من خلال دعم الإرهاب وتمويل المنظمات الإرهابية ونشاط عملائهم ، على اراضي ألأقطار المجاورة . وكلنا يعلم ما عانى ويعاني منه وطننا العراق من هذه السياسة الحمقاء التي يساهم في تسويقها على الساحة السياسية العراقية بعض أحزاب الإسلام السياسي ورموزه التي ترى وجودها على قمة السلطة العراقية من خلال الدعم المادي والعسكري والمعنوي الذي تتلقاه من معممي ولاية الفقيه . هذا بالإضافة إلى توجه سياسة ولاية الفقيه إلى خلق سياسة المَحاور في منطقة الشرق الأوسط لتأجيج العداء والتناحر وذلك من خلال التاثير على سياسة بعض الدول بالطرق المختلفة وتوظيف اموال الشعب الإيراني من العائدات النفطية لتحقيق هذه السياسة الخرقاء.

ألصراع الذي يدور اليوم بين رافضي نظام ولاية الفقيه ، ليس في ايران فقط ، ومؤيديها انعكس على التشرذم الذي تعاني منه احزاب الإسلام السياسي العراقية ، وهو صراع على السلطة ضمن هذه التشكيلة الرامية إلى تحقيق معتقداتها الدينية في دولة يسمونها إسلامية تضمن لهم مقومات هذه السلطة ، كما تضمن لبعضهم مقومات ألإثراء اللامشروع من خلال سيطرتهم على بعض المرافق الإقتصادية المهمة في الدولة الإيرانية ، وفي اي مجتمع آخر يتبوأون فيه مراكز القيادة السياسية ، كما في العراق مثلاً.

ولا نريد إطالة الحديث حول دكتاتورية دولة ولاية الفقيه التي ستؤول الى الفشل حتماً كما آلت اليه كل الدول الدينية على مر التاريخ ، بل نكتفي بالقول ان كل ما تدعيه هذه الدولة من مظاهر الديمقراطية والحرية يمكن الشطب عليه بشكل مباشر وسريع بجرة قلم من المرشد الأعلى الذي جعله دستور هذه الدولة الحاكم بامره رغم انف البرلمان او اية مؤسسة تنفيذية اخرى.

إلا أن محاولات تبني مشاريع الإسلام السياسي لم تقتصر على المجتمعات ذات الأغلبية السكانية لهذا المذهب أو ذاك , بل تجاوزتها إلى المجتمعات ذات التوزيع السكاني المذهبي المتقارب , أي في تلك المجتمعات التي يتواجد فيها أتباع هذا المذهب أو ذاك بنسبة قد تجعل منه يفوز بفارق بسيط أو ليس كبيرآ جدآ على أتباع المذهب الآخر. لقد أظهرت مجريات ألأحداث في مثل هذه المناطق التي يمثلها العراق ولبنان أحسن تمثيل مدى فقر ألإسلام السياسي إلى وضوح المنهج وإمكانيات التعامل مع الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والعلمي الذي تمر به الجتمعات التي يتواجد فيها , بحيث أدى به إلى أللجوء إلى العنف لتصفية الحسابات الشخصية والعائلية والمناطقية والعشائرية ليس داخل أتباع المذهب الواحد فقط , بل وبين أتباع المذهبين أيضآ وكل يحمل راية ألإسلام ويكَبِر ويذكر إسم ألله على منحر ضحيته التي تستقبل الموت بالتكبير ايضاً ، والكل مسلمون والحمد لله.

إن ما يجري بالعراق اليوم لا يشذ عن هذا النمط الذي أصبح قاعدة ترافق هذا النوع من التوجه السياسي الذي يربطه مؤسسوه بالدين ألإسلامي . فأحزاب ألإسلام السياسي والمنظمات ألإسلامية داخل السلطة وخارجها أثبتت من خلال الوضع الذي تبلور عن سياستها على الساحة العراقيه بأن تحقيق مشروعها السياسي مرتبط بالعنف والجريمة والفساد ،وإن القائمين على هذا المشروع لا يختلفون في تخلفهم عن أشباههم من القائمين على مشاريع الإسلام السياسي ألأخرى خارج العراق , حتى وإن إختلفت أساليب القتل والعنف والنهب والسلب من مشروع إلى آخر. إنهم جميعآ يدّعون إنتسابهم إلى ألإسلام ولا يكفون عن تكرار مقولة وحدة ألإسلام أينما وُجد أتباع هذا الدين في مشارق ألأرض ومغاربها , إلا أنهم عاجزون تمامآ عن تحقيق وحدة أبناء الوطن الواحد ، لا بل المذهب الواحد ، المرتبطين ببعضهم البعض ليس إرتباطآ دينيآ وحسب , بل وإرتباطآ عائليآ واجتماعيآ ومهنيآ وقوميآ أيضآ . إن عجز ألإسلام السياسي هذا عن تحقيق أبسط مفاهيم الدين الذي يريد تمثيله على مختلف ألأصعدة الوطنية والمتمثلة بوحدة الهدف إنطلاقآ من القناعة بوحدة الدين, إن دل على شيئ فإنما يدل على كذب ونفاق ودجل جميع القائمين على تحقيق هذا المشروع حينما يجعلون الدين طريقهم لقتل أبناء الدين الواحد الذي يتبجحون بالإنتماء إليه , ويبين بما لا يقبل أدنى شك بأن هدفهم ليس دينيآ, بل سياسيآ بحتآ ألبسوه اللباس الديني ليمرروا تحايلهم عبر الدين على كثير من الناس في مجتمع كالمجتمع العراقي الذي عانى عقودآ من الإضطهاد والحرمان والقهر والتعتيم المعرفي وغياب الإنفتاح ألإعلامي الذي جعله التسلط البعثفاشي المقيت كالغريق الذي يتشبث بكل ما تقع عليه يداه . لقد أثبت القائمون على تنفيذ مشروع ألإسلام السياسي بالعراق أن المكاسب الشخصية البحته من مال وجاه ومميزات لم يكونوا يحلمون بها تأخذ الموقع ألأول ضمن أولوياتهم , يلي ذلك وضمن المرتبة الثانية من هذه الأولويات ألأهل والأقارب والعشيرة , أي صلة الرحم , مبررين ذلك دينيآ أيضآ بمقولة ألأقربون أولى بالمعروف , إذ شرعنوا سرقة أموال الوطن وأباحوا التلاعب بمقدرات الرعية من قبل القائمين على هذه الرعية للتمتع بها شخصياً أو لتوزيعها على ذوي القربى وجعلوا ذلك يقع ضمن أعمال المعروف , حسب فتاواهم . ثم يلي ذلك وفي المرتبة الثالثة من أولوياتهم الحزب أو الجماعة التي أوصلتهم إلى هذا الموقع بغض النظر عن سلوكية وتاريخ وأخلاق أفراد هذه الجماعة التي تضمن لصاحب الجاه هذا أمنه وحمايته ونفوذه مقابل الجماعات الأخرى المنافسة , نعم المنافسة في توظيف الدين . وهنا لا تلعب حتى الطائفة أي دور ولا يفرز حتى ألإنتماء الطائفي أي عامل يحدد إستعمال الوسيلة الناجعة للتخلص من هذا الخصم أو ذاك قتلآ أو إختطافآ أو أية وسيلة مشابهة أخرى ، المهم في ألأمر أن تؤدي هذه الوسيلة إلى ملئ خزانة الحزب لتكون عصاباته المسلحة مؤهلة في أي وقت للتخلص من منافسيه ألآخرين سواءً من الطائفة نفسها أو من خارجها من التنظيمات ألإسلامية ألأخرى , وجوزوا شرعآ إستعمال هذه الوسائل ضد التنظيمات غير ألإسلامية أيضآ . وفي المرتبة الرابعة من ألأولويات يقف ألإنتماء الطائفي ليشكل العامل المشترك مع الشركاء الآخرين في النهب والسلب والقتل والإختطاف . فبإسم الطائفة تقام حفلات النصر على أعداء الدين والمذهب وبإسم الطائفة تُخلق المناطق المُغلقة ويجبر الجار على التنكر لجاره والصديق لصديقه والزميل لزميله وربما الزوج لزوجته أو بالعكس , فللدين الطائفي هذا ضرورات تبيح المحذورات حسب الفقه المعمول به لدى فقهاء هذا الإسلام السياسي عمومآ , فلماذا لا يجري سحب العام على الخاص وكفى ألله المؤمنون ألإيمان بالطائفة دون سواها . وفي سياق هذه الأولويات تفتش عن شيئ إسمه الوطن وقد تجده أيضآ , ولكن كمن يجد ألأوراق المهملة في سلة المهملات , قد يمكن ألإستفادة منها يومآ ما كما يُستفاد من ألأوراق المهملة كمسوَّدات تُستعمل في ظرف إنتخابي طارئ أو نقاش تجاري عابر أو لأي غرض آخر شريطة أن لا يمس بجوهر ألأولويات التي ليس لمصطلح الهوية العراقية موقع فيها , وإن تجرأ أحد على النطق بها أمام دهاقنة ألإسلام السياسي فما هو إلا عَلماني كافر أو متآمر على الدين وأمته أو مجنون يهذي بمصطلح لا يقره الدين الذي لا وطن له ، حسب تأويلاتهم وما ينشره خطابهم.

ألا يجعل كل ذلك من شعار ارحلوا عن العراق ، ارحلوا عن هذا الوطن الذي تراجع من خلال سيطرتكم عليه طيلة السنين الست عشرة الماضية ، ألا يجعل من هذا الشعار ضرورة حياتية ملحة ما على العراقيين إلا العمل الدائب والنضال العسير لتحقيقه ؟ غير ان تحقيق هذا الشعار ورحيل زمر اللصوص عن ارض وطننا يفرض علينا ، نحن رواد الوطن والمواطنة ، ايجاد البداءل لهذا الوطن المنكوب ، وهذه البداءل ستكون موضوع حديثنا القادم .

 

عرض مقالات: