وداعا ولك المجد في سيرة حياتك الكفاحية الثرة

نعم نشعر بالألم فقد غادرنا الى الأبد الرفيق جبار حسن محمد (أبو سركوت)، وهو من مواليد السليمانية 1934م، فعمره عمر الحزب الشيوعي العراقي، وعطاؤه ليس له حدود، أحب هذا الحزب ومبادئه وأفكاره، ولد وسط عائلة بسيطة، والده من عشيرة زنكنه من ريف كركوك، كان متطوعا في الجيش العراقي الحديث التكوين، وتعلم القراءة والكتابة بدون مدرسة، وتوفي سنة 1962م، أما أمه فهي من سادة برزنجه، كانت مناضلة لعدة عقود في صفوف رابطة المرأة العراقية، رغم أنها أمية، بل وكانت مراسلة جيدة لنقل البريد الحزبي السري، وقد توفيت سنة 2002م في أربيل عن عمر يناهز الـ 86 سنة، انتقلت العائلة بعد ولادة جبار بسنة من السليمانية إلى بغداد ومن ثم إلى كركوك فالموصل بسبب تحركات الوحدة العسكرية لوالده، دخل المدرسة الابتدائية في ناحية زيبار مبكرا، ومن ثم في زاخو وبعدها في كركوك وأربيل، ومنذ سن مبكرة وجد نفسه وسط زحمة النضال الوطني، ففي مرحلة الصف الثاني المتوسط  سنة 1949 أعتقل في كانون الثاني بسبب اشتراكه في مظاهرة ضد حكومة نوري السعيد، وحكم عليه بسنتين سجن وفصل من المدرسة، وليعود إليها سنة 1958م ضمن الدوام المسائي.

 في باكورة نشاطه السياسي في كركوك شارك في احتفالات النصر على الفاشية، وتحدث لي كيف كانوا يسيرون مع الطبل والزرنا في العربات في شوارع كركوك، وفي المظاهرات لمساندة العوائل البارزانية التي هجرت من قراها قسرا، ومساهمته في احتفالات عيد نوروز، منها الحفل الذي أقيم في قرية "سيدان" في العراء، حول لهيب النار، وكان الرفيق الشهيد جمال الحيدري هو من يدير الحفل، ومجموعة من الشباب تنشد نشيد لوروز، كان معه "عمر دزه يي" المغني المعروف، وجمال خزندار(أخ الدكتور معروف خزندار).

حكى لي عن النشاطات التي لها أثر في حياته آنذاك، قيامه مع الفقيد عمر خزندار بمساعدة عمال السكك الحديدية التي بدأت بمد سكة حديد خط أربيل- كركوك- ، حيث أضربوا مطالبين بتحسين الأجور وظروف العمل، وساعدوهم في توقيع عريضة تتضمن مطالب العمال وذهبوا معهم نحو المتصرفية وهم يهتفون بموت مستر كويل الذي يمثل الشركات الانكليزية للمشروع،  كانت هذه النشاطات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وعن بداية انتمائه للحزب قصة سردها لي، فبعد أن أبلغه الطالب أحمد عثمان أبو بكر وهو شقيق حميد عثمان بأنه نال شرف العضوية في حزب التحرر الوطني، وكان عمره آنذاك 14 عاما فقط. فشعر بفرح وزهو كبيرين، وانتظم في حلقة صغيرة يديرها محسن محمد أمين دزهئي، وكان يتم تثقيفهم بكراس فهد "مستلزمات كفاحنا الوطني"، ويستطرد قائلا  ((وفي مقهى "مجكو" المشهور في أربيل تعرفت على الشهيد عادل سليم وأسعد خضر (أبو نجاح)، وغيرهم وكانوا يطالعون جريدة الأساس أو يتناقشون في أمور سياسية، وفي تلك الفترة جرت محاكمة الرفيق فهد فخرجت تظاهرة صبيحة يوم 21 كانون الثاني/يناير 1949م في الشارع الرئيسي في أربيل المواجه للقلعة، شارك فيها الطلبة والعمال والكسبة وهم يهتفون بسقوط حكومة نوري السعيد، وتستنكر إعادة محاكمة قادة الحزب الشيوعي العراقي، وكان الفقيد أبو سركوت في المقدمة، فحضرت قوة كبيرة من الشرطة مزودين بالهراوات، فتبادل الشرطة والجمهور الضرب واللكمات وأصيب في مؤخرة رأسي ووقع على الأرض والدم يسيل من رأسه، واقتادوه إلى مركز الشرطة ومن ثم إلى المستوصف، وبعد التداوي البسيط أعادوه للمركز والناس تنظر له بإعجاب ويهمسون (أنه صغير السن فكيف يضربوه ويوقفوه)، ويقول ((انني كنت فرحا جدا بمقاومتي للشرطة،  خصوصا عندما علمت ان الانتفاضة اندلعت في عدة مدن عراقية))، جرى تسفيرهم إلى معسكر الوشاش في بغداد، وقدموهم إلى محكمة عسكرية برئاسة النعماني، وحكم عليهم وكانت حصته بسنتين، ونقلوا إلى السجن المركزي قسم الفرن، الذي كان مليئا بالمساجين منهم إسماعيل رسول، خليل عزيز الخياط، سمكو خياط، رشاد علي، محمود كانبي، جمال ديبكه، نافع خوشناو، توما شابا، بابكه حنا وحسين علي غالب،  وكان مكانه مع مجموعة في القسم العلوي من الفرن، مع د. معروف خزندار، ئازاد محمود شوقي الرسام، موريس يعقوب المحامي،نافع خوشناو، حمه ى بكر المغني الكردي، وعمر حباو، وكان هناك الشهيد سلام عادل وسليم الجلبي، وفي الأسفل كان الرفيق آراخاجادور الذي طلب منه عمل تمثال رأسي من عجين لب الصمون، لرأس تشبه هيئة الرفيق فهد، وعندما أحس مسؤولي السجن بذلك، أجروا تحقيق أنكر آرارا  الأمر.

 كما تم في السجن تعليم اللغة الفرنسية لمن يرغب من قبل الرفيق كريكور الساعاتي، وكان هناك عبد الجبار البيروتي من بعقوبة، وكان ذو صوت جميل، وكان هنالك شاعر شاب أشقر أسمه عبد الحسين كان يعلمهم نشيد "الشعب ما مات يوما"، يقول ((كنا ننشده بحماس وقوة))، و يتذكر ((طعامهم وهو عبارة عن شوربة اللوبية الحمراء مع الصمون، وكيف كانوا يصتادون حبات اللوبيا، ويتذكر مجئ مجموعة من طلاب الكلية العسكرية من ضمنهم الرفيق عبد الوهاب طاهر، ويتذكر ليلة إعدام ساسون دلال، الذي كان محبوسا في الغرفة الانفرادية، حيث كان ينشد بصوت عال الأناشيد الحزبية قبل إعدامه.))

بعد الخروج من السجن والفصل من المدرسة عمل بعدة مهن، وبسبب اعترافات بعض العناصر الحزبية، (مثل، بلال عزيز، هادي سعيد، جان بولص)،  أضطر مرارا الانقطاع عن العمل الحزبي، وتعرض بسبب تلك الاعترافات إلى الاعتقال منها أثناء أنتفاضة فلاحي دزه ئي سنة 1953م، ومرة أخرى بعد اعتقال بهاء الدين نوري، وأضرب مع السجناء عن الطعام لمدة ستة أيام في التحقيقات الجنائية، فأخلوا سبيلهم، وكذلك أوقف أيام العدوان الثلاثي على مصر.

 بعد ثورة 14 تموز المجيدة، عمل ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي الطلابية ومن ثم مع المثقفين مع المهندس هاشم عبد الله والفنان سليمان شاكر.

وبتكليف من الحزب الشيوعي العراقي عمل مع تنظيم الصائغ، وواجه مشاكل عديدة ومؤذية، خصوصا من الرفاق الذين لا يعلمون بذلك ويتهمونه بالانتهازية أو الخيانة.

وبعد الانقلاب الفاشي عام 1963م ، التحق بحركة الأنصار، وكانت المطاردة من قوات السلطة البعثية والمضايقات من حدك في كردستان آنذاك، لأنهم كانوا في فترة هدنة مع السلطة الجديدة، حتى أنهم طاردوه كثيرا، مما أضطره ورفاقه الصعود إلى قمة جبل"آوه كرد" وقاموا ببناء عدة قاعات من الحجر والطين لإيواء الرفاق الملتحقين بعيدا عن أعين السلطات، وكان رفاق كويسنجق يخاطرون بحياتهم من أجل إيصال بعض المواد الغذائية والأغطية، لأن البرد والثلج الكثيف بعلو المتر، جعل الأمر عسيرا جدا، ويستذكر الرفاق الأبطال الرفيق حسن كاكه والشهيد مام نادر، حيث كانوا يعملون الخبز على الصاج لحين تسنى لهم بناء تنور حجري، ويأكلون شوربة العدس والتمر اليابس "المدود" والماش والبلوط فقط، بعدها نزلت مجموعة منهم إلى سهول وقرى أربيل بقيادة الرفيق أسعد خضر "أبو نجاح"، وكان هو معهم، من أجل معاودة تنشيط العمل بعد مجيء حكومة عبد السلام عارف، وتمكن من الالتقاء بالأهل والذين تعرضوا للاعتقالات والمضايقات وصعوبة الوضع المعاشي.

كان العمل الحزبي بين السرية والعلنية في تلك الفترة، عند قيام إضراب 1965م في كردستان، كان هنالك  تعاون بين الحزب الشيوعي العراقي وحدك، وكان هو والرفيق الفقيد قادر رشيد "أبو شوان" من المنسقين مع حدك ونجح الإضراب في أربيل.

بعد عودة البعث سنة 1968، وعقد اتفاقية 11 آذار سنة 1970م، ومفاوضات الجبهة الوطنية، بدأت آفاق العمل الحزبي تتوسع ونشط العمل الجماهيري رغم مضايقات البعض في حدك الذين كانوا يفكرون في احتكار العمل لصالحهم هناك، وبعد إعلان الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، أفتتح مقر لها في أربيل وكان الشهيد عادل سليم ودلزار ممثلي الحزب الشيوعي العراقي فيها، بعدها تم سحب الرفيق دلزار لمهام أخرى تم تكليف الرفيق أبو سركوت لعضوية الجبهة.

 وذكر لي أنه، أثناء تأزم العلاقات بين البعث والبارتي سنة 1974م، حاول البعث إشعال الخلافات بيننا وبين البارتي، وحصلت بعض المشادات التي تمت تهدئتها، لحين توقيع اتفاقية الجزائر بين المجرم صدام وشاه ايران، وتراجع الحركة المسلحة الكردية وقام رفاقنا بتقديم المساعدة لبعض أعضاء البارتي مما جعل مسؤولي البعث يتهمون رفاقنا بالتستر على أعضاء البارتي.

بعدها بدأ العد العكسي للجبهة بازدياد المضايقات على عمل الحزب الشيوعي العراقي خصوصا بعد منع المنظمات الجماهيرية كإتحاد الطلبة والشبيبة ورابطة المرأة، وحاولوا إغراء العديد من الرفاق منهم رفيقنا جبار بعرض منصب قائمقام، وعند رفضه جرت المضايقات له ولرفاقه وكانوا يطرحون ذلك باجتماعات الجبهة، لكن دون جدوى.

 

بعدها لجـأ الحزب الشيوعي العراقي إلى الكفاح المسلح، وقاموا بمساعدة العديد من الرفاق بالوصول إلى كردستان، ثم سنحت له الفرصة للخروج من أربيل والوصول إلى إحدى قواعد الأنصار، يوم 30 نيسان 1979م، وأحتفل معهم بعيد الأول من آيار، عيد العمال العالمي، بعدها التحق بقاعدة "ناوزنك" على الحدود مع إيران، وكلف مع بعض الرفاق (عبد الرحمن قصاب وعادل سفر) بالإدارة، وكان يسافر إلى سرده شت لشراء المواد التموينية والاحتياجات الأخرى بواسطة الحيوانات، وبسبب صعوبة العمل تعرض للإصابة بالجلطة القلبية ونقل للعلاج في إيران، عاد بعد العلاج إلى تنظيم أربيل للعمل مع الرفيق ملا حسن "فتاح توفيق" وكان يتابع معه تنظيم المناطق، في "خوشناوتي" و "باله كايه تي" وغيرها، لحين تدهور صحته فتقرر إرساله للعلاج عن طريق إيران، حيث كان بضيافة رفاق توده في مهاباد، وحصل اشتباك بين حراس الثورة وبيشمركة حدكا، وأخذت طائرات السلطة تقصف المدينة، ومن ثم دخلت قوات حراس الثورة المدينة وجرت حرب شوارع، وعند هدوء القتال خرجوا من المدينة واختفوا فترة لحين الوصول إلى طهران، ومن ثم السفر إلى الخارج.

في موسكو وبعد خضوعه للعلاج، أكمل المدرسة الحزبية، وعاد إلى دمشق ليساعد الرفاق في العمل الأنصاري، بعدها سافر إلى المانيا الديمقراطية ومنها إلى السويد عام 1988م. وهو منذ ذلك الوقت واصل نشاطه الحزبي بين صفوف الحزب الشيوعي العراقي الذي تربى فيه وأخلص لمبادئه.

أستذكر في لقائي معه بعض طرائف الأمور، بعد الانقلاب الفاشي 8 شباط 1963م، خرج في مفرزة إلى قرى دشت أربيل، بقيادة الرفيق محمود عدو عضو محلية أربيل، فتشاور بعض الرفاق في المفرزة فيما بينهم من أجل قتله كونه كان عضوا في حزب الصائغ الذي خان الحزب الشيوعي العراقي، وفاتحوا الرفيق محمود عدو الذي نهرهم وأوضح لهم الأمر، كونه كان مكلفا من الحزب بذلك.

وعن بعض الرفاق والأصدقاء في عيون الرفيق الفقيد أبو سركوت وكان لهم أثر في حياته:

الشهيد جمال الحيدري: قال ((كان ينصحني وأخوانه بالقراءة والمطالعة والتعلم، هادئا رزينا، يجعل من يلقاه مندهشا من قوة شخصيته)).

الشهيد عادل سليم: قال ((كان ثوريا في عقله وقلبه، هادئ مؤدب، يستمع إلى محدثه بهدوء، لم أراه يوما عصبيا مع إنسان)).

مهيب الحيدري: قال ((كان يقود الطلبة في بداية ثورة 14 تموز، كان يشجعني على الصمود أمام تطاولات بعض الرفاق عليّ بالكلام بسبب انضمامي مع الصائغ)).

كريم أحمد: قال عنه ((شخصية تتصف بالتواضع، يستمع وينصح المقابل، يحب المعاشرة والمجاملة مع الرفاق، يرجم الآخرين بمسبات محببة)).

شيخ محمد محمد شيخه شه ل، قال ((كان مدافعا جريئا عن الحزب الشيوعي العراقي، تأثرت به في بداية احتكاكي مع الطلبة)).

شيخ علي البرزنجي: وهو عضو ل م،  أستتذكر أنه ((كان يقوم بمهمة حزبية في مخمور وعند عودتنا معا، صادفتنا نقطة للتفتيش، فدققوا طويلا في هوياتنا لأنهم شكوا بنا، ولكن مظهرنا كان يوحي بأننا أولاد أغوات فتركونا نمر)).

عزيز محمد: قال عنهى ((سياسي لبق، شعبي الطبع، معتز بقوميته وأمميته، التقيته في مناسبات عديدة، خلال حياتي)).

كان هذا مجمل لقائي مع الرفيق قبل ثمان سنوات من فقدناه بمناسبة الذكرى ال 76  لميلاد الحزب الشيوعي العراقي، واليوم نودعه ونحن على أبواب الأحتفال بالذكرى الـ 84 وهو عمره الذي صادف ان يكون بنفس العام.

 للفقيد أبو سركوت المجد والخلود والذكرى العطرة، نودعه ونعاهده على المضي في طريق المبادئ والقيم  

عرض مقالات: