طريق الشعب
مرت قبل أيام الذكرى الثلاثون لجريمة الأنفال البشعة التي إرتكبها نظام الفاشست ضد شعبنا الكردي وضد فصائل المعارضة الوطنية، وفي مقدمتها فصائل أنصار حزبنا الشيوعي وبيشمركة الحركة التحررية الكردية، تلك الجريمة التي راح ضحيتها الآف الأبرياء وأحرقت فيها مئات القرى وتشردت فيها الآف العوائل. وإذ يجدد شعبنا بكل مكوناته المتآخية اليوم إدانته للمجزرة ويطالب بمعاقبة مرتكبيها وتعويض الضحايا، ينحني إجلالاً للشهداء الأبرار ويشمخ عالياً بالمآثر التي إجترحتها فصائل الأنصار والبشمركة البواسل، وفي الصميم منها فصائل أنصار الحزب الشيوعي العراقي، سواءً في التصدي للفاشست وحماية المدنيين أوفي مساعدة العوائل والضحايا.
وفي ذكرى المجزرة، التقينا بأحد شهود العيان والمشاركين في التصدي لقوات النظام المباد، الرفيق النصير علي حسين (عادل رش)، وكان لنا معه هذا اللقاء.

 ماذا ارادت الدكتاتورية من الإقدام على تلك المجزرة؟
الرفيق عادل:
نقف في مثل هذه الأيام امام ذكرى حدث كبير، حدث كان يراد منه إقتلاع جذور كل قوى المعارضة الوطنية، وتخفيف ضغط الأزمة التي أخذت بخناق الدكتاتورية. فلم تك تمضي سوى ايام معدودة على انتهاء الحرب العبثية بين العراق وإيران بالتعادل، حتى واجه الطاغية ونظامه مهمة تبرير تلك الحرب وما سببته من كوارث، وذلك لتجنب غضب الجيش المحطم الذي إضطر النظام لسحبه مثقلاً بالجراح من جبهات القتال، والذي كاد أن يلعب دوراً مهماً في إسقاط الدكتاتورية، كما هو الحال في العديد من التجارب المماثلة. ولم يجد الفاشيون من مخرج لتحقيق كل ذلك سوى في تصعيد حربهم الإجرامية ضد الشعب، وخاصة في كردستان، حيث إعتقد النظام بأنه يمتلك، من خلال عملائه ومرتزقة الأفواج الخفيفة، قاعدة بيانات ومعلومات حول طبيعة قوى المعارضة وامكانياتها وصراعاتها وإختلاف رؤاها، مما يمكنه من القضاء المبرم عليها. وفي هذا الصدد كان لابد من أن يشمل الهجوم السكان العزل لانهاء البيئة الحاضنة والداعمة لقوى المعارضة وفصائلها المسلحة، سكان القرى الذين طالما وفروا دعما لوجستياً وإستخدمت مناطقهم معبراً للدخول الى مدن الوسط والجنوب ناهيك عن المحافظات الكردستانية.

لماذا أطلق النظام إسم الأنفال على مجزرته؟
الرفيق عادل:
إعتقدت الدكتاتورية بإن توجيه المدافع صوب كردستان سيلهي القوات المسلحة بمعركة سهلة ترضي غرورها المجروح في حرب الثمان سنوات. ولإستكمال فصول المأساة ونشر الوهم أطلق الفاشست إسم سورة قرآنية على الهجوم، موحية بأنها حرب "الإسلام" ضد "أعدائه"!

 كيف كان حال المعارضة والمنطقة بشكل عام؟
الرفيق عادل:
أدت العلاقة المتذبذبة بين عموم أطراف المعارضة منذ بدايات الحركة الأنصارية، والتي تمثلت في تشكل وتفكك العديد من التحالفات والجبهات، وفي سلسلة صراعات دموية داخلية (مثل المعارك بين الحزبين الديمقراطي والأتحاد الوطني وكالهجوم الغادر على مقراتنا في بشتاشان)، إضافة الى التفاهمات السرية المؤقتة مع النظام والتي لجأ لها البعض أحياناً، والتعاون غير المبرر مع القوات الإيرانية التي تمكنت من احتلال مناطق في كردستان إبان الحرب، الى عدم تطور الزخم الكبير الذي عاشته هذه الفصائل في نضالها البطولي ضد الدكتاتورية. فرغم النجاحات التي تحققت كتحرير المدن والقرى، وتنفيذ العديد من النشاطات الجماهيرية والسياسية والعسكرية بين المواطنين وبمشاركتهم، ورغم تعبئة الناس وتحسن سبل حمايتهم وكف يد الدكتاتورية وجلاوزتها عنهم، الا إن تلك النجاحات لم تتطور لقيام التنسيق والتفاهم الضروري بين الفصائل نفسها وتعميق علاقاتها مع جماهير المنطقة، وكانت هذه من أهم الأسباب التي إعتمدها النظام في التخطيط للمجزرة وتوقع الإنتصار في معاركها. ورغم قيام الناس بتناقل الأخبار عن عزم السلطة شن هجوم شامل، يراد منه افراغ المنطقة من السكان والانصار، الا إن عموم قوى المعارضة لم تكن تصدق ذلك، وربما إعتقدت بأن أخبار الهجوم ليست سوى إشاعة نشرتها السلطة كجزء من الحرب النفسية. على العموم لم تتوفر المعلومات الكافية لدى اطراف المعارضة عن شمولية الهجمات والى اي مدى يمكن أن تستمر. للأسف لم يكن لدى قوى المعارضة تقديرات دقيقة لحجم الهجوم و مدياته الممكنة!

متى وكيف بدأ الهجوم، وما هو مصير الأنصار؟

الرفيق عادل:
شرعت بعض الوحدات والفرق العسكرية بالتجمع اولاً ثم توزعت، فتوجه بعضها صوب سوران والبعض الاخر صوب بهدينان، وراحت تتموضع وتبني السواتر ومواقع الدروع والاليات المختلفة. استغرقت هذه الاستعدادات اياما قلائل، أمام ترقب الناس وقلقهم، بل وربما هلعهم وخوفهم!
كنا نعمل في مناطق دربنديخان و قرة داغ وصولا الى مناطق كرميان كركوك و هاولير. ومن قرية سيوسنان والقرى المحيطة، بدأت حمم النار تنهال على مناطق تواجد الانصار، في قصف مدفعي مركز، شاركت فيه الدبابات ايضا، وقد تم تمشيط المنطقة بالكامل بحيث ألقيت قنبلة واحدة على الأقل في كل متر مربع! كانت قواتنا الانصارية في قاطع سليمانية وكركوك قبل و خلال هجوم الانفال موزعة على اربعة افواج هي الفوج الخامس عشر/ قرة داغ والفوج التاسع/ شاربازير والفوج السابع/ حلبجة وهورامان والفوج الرابع/ كرميان كركوك. والى جانب قوى انصار الحزب الشيوعي كانت هناك مفارز وقيادات التنظيم المدني للحزب، والذي تولى الاتصال و التنسيق مع تنظيم الحزب داخل المدن وعموم الوطن. كما كانت هناك قوات بيشمركة الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني والحزب الاشتراكي.
سعت هذه القوات للتنسيق فيما بينها لصد الهجمات، غير إن الجيش والقطعات الاخرى لم تتقدم للإشتباك بل واصلت القصف المركز من بعيد، بالمدفعية والطائرات، وخاصة على القمم، التي كنا نستخدمها كمواقع عصيّة على تقدم الجيش. أذكر على سبيل المثال قمة صغيرة لا تتجاوز مساحتها عدة امتار مربعة، خالية من اي تضاريس للحماية وعارية حتى من الاشجار، صعدنا وإنتشرنا فيها قبل النهار، بإنتظار الإشتباك مع الجيش. وما ان بزغ الفجر حتى سقطت علينا مئات القنابل وبمعدل 5 قذيفة في الدقيقة، دون أن يتقدم الجيش للأشتباك بنا، مما إضطرنا الى الإنسحاب منها دون أن نتكبد أية خسائر.
وبسب من غياب التكافؤ في العدة والعدد، والتكتيك الجديد الذي إعتمده الجيش في المعركة، لم يكن مجدياً إعتماد إسلوب المعارك الجبهوية، فعمدنا الى حرب العصابات والحركة السريعة، والتي نجحت في تأخير الهجوم وتكبيد العدو خسائر جدية، كما كان لابد من تقديم القرابين، فإستشهد رفاقنا الرائعون، الذين لا يمكن أن ننساهم، كالشهيد سامي و ابو يسار والشهيد سعد و قاسم الطيب الحنون وعمار وماجد وغيرهم. كما استشهد لنا بعض الرفاق غدرا حين ساومت السلطة بعض الافراد من القوى الأنصارية الاخرى على أن يسلموا الأنصار الشيوعيين مقابل حفظ حياتهم!
لم تكن الحركة سهلة، بل ربما كانت مستحيلة! فقد عالج العدو بالمدافع والمروحيات أية حركة لنا يتمكن من رصدها، لاسيما ولم تك تضاريس المنطقة كافية لإخفائنا، حيث الأرض واسعة ومكشوفة وخالية من اية عوائق لتقدم اليات العدو. وإشتدت الظروف تعقيداً حين خلت المنطقة من سكانها وضعفت أو إختفت المساعدات اللوجستية التي كانوا يقدمونها لنا. وهكذا لم يكن أمام قواتنا الا الإنسحاب من المنطقة والإختفاء في مجاميع صغيرة جداً والانتشار على الحدود.

 هل من صور أخرى من تلك المأساة؟

الرفيق عادل:
هناك عشرات المواقف التي تعبق بالامل و الحياة، وهي حقاً موضع فخرنا واعتزازنا بالمثل العليا التي آمنا بها، مُثل الحزب، الكيان المتجدد حيوية وعنفوانا دوما. مرة أنهك التعب رفيقنا سلمان، الهادئ الوديع الذي يتألم لألم اي رفيق، جراء مسيرة ساعات طويلة، مما جعله يغط في نوم عميق بعيداً قليلاً عن مكان إستراحة مفرزته. وفجأت تعرضت المفرزة لهجوم الجيش فقاتلت وهي تنسحب، دون أن يصحو الرفيق سلمان ويلتحق بها، فوقع أسيراً بيد العدو. تظاهر الرفيق بأنه أصم وابكم وإنه من أهل القرية، فأودعوه مع عوائلها. ومن هناك هرب الرفيق سلمان وتمكن من العودة لمدينته، وتسلل ثانية منها الى مقراتنا، التي أعدنا بنائها بعيد المجزرة!

 هل من كلمة أخيرة؟

الرفيق عادل:
في هذه الذكرى المؤلمة، لابد لي من أن أوجه كل أيات الحب والتقدير، لكل من سطّر تلك البطولات في التصدي للفاشست وحماية السكان، لتلك الملحمة في التآخي بين مكونات شعبنا وهي تقاتل عدوها المشترك، الدكتاتورية ومرتزقتها، لكل من أحب الحياة والناس وقدم جهده، بل وحتى حياته، لتحقيق مستقبل أفضل للبشر.. وللشهداء المجد، فهم خالدون شموعاً تنير لنا الطريق.