الفكر ليس له وطن، ولا يمكن أن يظل حبيس الأرض أو البيئة التي أستنبتته، بعكس المروجين لنظرية الأفكار المستوردة والهدامة.
كان الفيلسوف الألماني "ماركوزه" قد وضع إصبعه على الجرح، الذي تعاني منه أوربا الطامحة إلى نمو وتقدم تبجح بهما الإيديولوجيون الرأسماليون، لكنهما أنتجا (إنساناً ذا بعد واحد) حيث استبدلت دكتاتورية الفاشيين والنازيين، بدكتاتورية ناعمة، تستغل الإنسان، وتحوله إلى مجرد ترس في ماكنة الرأسمالية. بل أن الحياة برمتها تحولت إلى بقاء عامر بالأزمنة الميتة حسب تعبيره.
لو ان "ماركوزه" ظل حياً إلى الآن، ورأى، أو سمع، أو قرأ عن الزعماء العراقيين، لما تردد لحظة واحد، في كتابة مؤلف جديد، ربما يحمل نفس عنوان كتابه الشهير (الإنسان ذو البعد الواحد) مع تغيير بسيط، لا يزيد عن استبدال كلمة الإنسان بـ (الزعيم ذو البعد الواحد). وهذا رغم اختلاف الميدان، وانتقاله من التكنولوجيا وتنميط الإنسان إلى التشبث بالسلطة وتحطيم الإنسان. وسوف يأخذه العجب، و يصاب بالذهول والحيرة، وهو يرى قادة سياسيين، أتخموا العراق بالمشاكل المستعصية، وبنوا جبالاً من الخراب والدمار الشامل، طيلة الخمس عشرة سنة الماضية. ومع ذلك ظلت عيونهم ترنو إلى السلطة، ولم تصب حتى بالقذى!
حتى الذين يدعوّن تمثيلهم مكوناتياً، وبعد أن عاقبهم الشعب العراقي في الانتخابات الأخيرة، تمهيداً للفظهم كما تلفظ النواة، مازالوا مصرّين إلى حد الغثيان، على السعي لتصدر المشهد السياسي، وتكوين الكتلة الأكبر، املاً منهم في اعتلاء خيول الحكومة من جديد، والانطلاق بها نحو حفرة الطائفية واللصوصية، وتخريب ما بقي من الذات العراقية؟
ان على القوى العراقية التي أحيت الأمل، وبذلت جهوداً مضنية لتعليق مشكاة لا يخبو ضوؤها في نهاية النفق، وفازت في الانتخابات وفي عدد الأصوات، أن لا يفارقها الذكاء في عزل هؤلاء الفاسدين، الذين لا يرى البعض منهم معاناة الشعب العراقي وماَسيه التي قل مثيلها في عالم اليوم، بل ينظر إلى خارج الحدود، ويفتح أذنيه على سعتيهما، ليسمع ما يريده الآخرون، فيسرع إلى تنفيذه، وان كان يتقاطع مع مصالح شعبه وبلده.
هناك فرصة تاريخية لتشكيل الكتلة الأكبر، وتأليف الحكومة العراقية الجديدة من القوى والقوائم والأحزاب المعتدلة، القادرة فعلاً على قطع الطريق امام من يريد العودة إلى المستنقع الآسن، وتماسيحه التي إبتلعت الأخضر واليابس.
ولا بأس من التساهل مع قوى تريد تبرئة ذمتها والتعويض عما فاتها، ولديها الاستعداد الكافي للعودة الى حضن الوطن، وتحقيق ما يصبو إليه العراقيون، وإن كان جزئياً. فالمرحلة تتطلب توحيد الجهود والطاقات، وتعزيز اللحمة الوطنية، على أساس برنامج واضح لا غموض ولا لبس فيه، يلبي في الأقل الحد الأدنى من طموح العراقيين. وفي ذات الوقت إبعاد من يجري في دمه الفساد والفشل، وإلحاق الأذى بالعراق شعباً ووطناً، ولا يستطيع أن يتغير أبدا.
السؤال الذي يتصدر كل الأسئلة الحارقة هو هل يتحقق الأمل ونعيش حياة أقرب إلى الآدمية؟ أم ان "الشيف" الأجنبي سيكون قادراً على اعادة إنتاج الطبخة المسمومة التي برع فيها سابقاً؟

عرض مقالات: