تعوّدت أن أتبضع منه منذ عشر سنوات متواصلة، وهو يعرف زبائنه حق المعرفة، ويعرف رغباتهم وحجم متطلباتهم. يعرف كيف يُسعدهم ببضاعة تناسب دخلهم. ويعرف كيف يخبئ شيئاً غالي الثمن لزبونٍ بعينه دون أن يجرح مشاعر باقي زبائنه من ذوي الدخل المحدود بأن يعرض أمامهم بضاعة لا يستطيعون دفع ثمنها.
إدارة هذا البقال العراقي حاجات زبائنه هي إدارة ناجحة بكل المقاييس، والدليل استمرار أكثرهم بالتبضع منه لسنوات.
وفي أيّام شحّة الطماطم، أو أي منتج رئيس آخر، يعرف صاحبي البقّال كيف يرضي زبائنه بأن يجلب نوعية وسيطة (لا هي الغالية المستوردة، ولا هي المحلية الرديئة الرخيصة). عملياً، هو يطبق كل متطلبات الإدارة العلمية لرغبات السوق دون أن يدرس حرفاً واحداً منها في أي مدرسة أو كلّية متخصصة في الاقتصاد، بل هو لا يعرف من الكليات سوى الكلّية التي تدرس فيها ابنته والتي تستعد لتكون كيميائية في التحليلات المرضية والبايولوجية.
سألته ذات مرّة،"في رأيك كيف يمكن أن نحل مشكلة البطاقة التموينية التي لا تصل الى الناس؟".
سألته وأنا أعلم أن إجابته لن تكون عبر لغةٍ بلاغية أو خطابية، إنما سينطق بالحلول كما يراها . وكما يفكر بها .
قال:"استاد، بس طلعوها من وزارة التجارة، وخلّوها على المناطق، هيّة الناس تعرف تدبيرها، ونعرف يا منطقة توزّع مضبوط، ويا منطقة يصير بيه ليك(يقصد ثغرة للسرقة)..".
يعني بعبارة أخرى، اكتشف هذا المواطن(البقّال)بالخبرة العامة أن وضع سلّة غذاء العراق بأكمله لتكون من مسؤولية وزارة مركزية تخضع للمحاصصة والمزايدة والجر والعَر السياسي، سينتهي ببساطة الى تبخّر الحصّة التموينية. وربما سيخرج علينا نائب متبجّح ليقول ان العراقيين لم يعودوا بحاجة الى الحصة التموينية، أنظروا إليهم يحملون موبايلات غالية!.
ويتناسى، مثلما يتناسى الجهاز الحكومي أن أكثر من 28في المائة من الشعب العراقي هم تحت خط الفقر عملياً، هؤلاء يوجب العُرف والدستور والمعايير الأخلاقية أن تزودهم الدولة بالحد الأدنى من متطلبات كرامتهم الإنسانية عبر البطاقة التموينية.
وبعد أن مضت مثلاً على ألسن الناس أنها حسابات(بقّال)، أصبحنا نتحسّر اليوم كي تحسب الدولة حساباتها الإقتصادية مثلما يفعل صاحبي البقّال! وياليتهم أفلحوا في هذا.

عرض مقالات: