فوق الأرصفة وبين زحام السيارات نرى يوميا مئات الباعة المتجولين على اختلاف احوالهم ومستوياتهم العلمية والثقافية. فمنهم الامي، ومنهم من حصل على شهادة الاعدادية، أو نال البكالوريوس. كل هؤلاء اضطرهم واقع البلد وترديه من النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية، إلى رمي احلامهم جانباً والبحث عن سبيل لكسب قوتهم وقوت عائلاتهم، بعد ما تبدد أملهم في أن تتكفل الدولة بمستقبلهم، وتوفر لهم فرص عمل كريمة.
في لقاء لي مع بائع متجول في الثلاثين من العمر، كان يبحث عن رزقه في أحد تقاطعات بغداد. وجهت له بعض الأسئلة، منها ما شعورك وانت تتجول للبحث عن لقمه العيش؟ فأجابني قائلا: "شعور قاسٍ. فقد اضطرتني الظروف المعيشية الصعبة، وغياب سبل العيش، وانقطاع الأمل في الحصول على وظيفة تناسبني باعتباري خريج كلية الآداب، إلى العمل في هذه المهنة المتعبة". وأضاف قائلا "حاولت الحصول على وظيفة حكومية، لكن دون جدوى. فذلك يتطلب اليوم وساطات أو دفع مبلغ مالي لأحد الوسطاء، وأنا لا أمتلك كل ذلك. فلم أجد وسيلة أخرى أؤمّن من خلالها لقمة عيشي، سوى أن أخرج إلى الشارع حاملا إبريق شاي، واناء يحتوي على الكعك، لعلي أبيع شيئا ما أسد بمردوده البسيط رمق أولادي الصغار".
ويعبر البائع المتجول عن أسفه على سني الدراسة التي ضاعت، وعن يأسه من الحصول على فرصة عمل حكومية في ظل المحاصصة الطائفية.
وعلى بعد بضعه خطوات يقف طفلٌ اختفت براءة وجهه ومعالم طفولته، نتيجة جهد العمل ومشقته. فقد بات وجهه كقطعة فحم تبرز منها ضحكة "ثلجية" لعل هناك من يستعطفها ويشفق عليه.
سألته: ما الذي أتى بك إلى هذا المكان؟ وبماذا تشعر وأنت تحمل قطعة قماش وعلبة مملوءة بالماء، لتمسح زجاج السيارات؟ فأجابني بعفوية: "الحاجة إلى المال. فأمي تنتظرني لأعود وقت غروب الشمس، جالبا معي مبلغا مهما كان بسيطا، حتى تشتري لأختي الرضيعة علبة حليب!".
هذا الطفل الذي يبلغ من العمر ست سنوات، فقد والده في حادث إرهابي، وبقي هو وامه التي كانت حاملا بطفلة، وبعد أن وضعت طفلتها لم تجد من يعيلها، خاصة انها لم تحصل على تعويض أو راتب تقاعدي من الدولة، فاضطرت إلى دفع صغيرها نحو العمل، ليواجه الظروف والتعب والمشقة، ويقف وقفة رجل في رعايتها ورعاية اخته الرضيعة.
الطفل شكا لي شعوره الدائم بالإرهاق والجوع جراء ركضه خلف السيارات، عسى أن يدعوه سائق إلى مسح زجاج سيارته ويمنحه مبلغا ماليا بسيطا.
هكذا، وبين الأعمار والثقافات والمستويات العلمية المختلفة في بلد الثروات، يولد ألف وجع ووجع، وتتبدد الآمال، وتندثر طموحات الأجيال.