في ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي ، كنا نسكن في بيت كبير "جدا"، رغم أنه بمساحة (144م ) فهو كبير اذن! غرفة صغيرة في المقدمة، تقابلها غرفة اخرى بحجمها أو أكبر قليلا وثمة مجاز صغير بعرض نصف متر يؤدي الى بوابة البيت، وبجوار الغرفة الصغيرة ثمة غرفة اصغر اتخذتها أمنا مطبخا.
جلوسنا في الصيف والربيع وبعض من أيام الخريف يكون في الفضاء المتبقي من الـ 144 م. الفضاء الترابي المشبع بروائحنا وبصمات اقدامنا الحافية.
كنا ننحشر في ايام الشتاء الباردة في الغرفتين الصغيرتين يدفىء أحدنا الأخر بالحكايات والاحلام. رغم اننا كنا عائلة كبيرة، لكن خالي كان يواظب على المجيء من العمارة في الصيف للعمل في بغداد، يختار هذا الفصل لانه يعرف كساد العمل في الشتاء، كان لا يجيد شيئا سوى حمل الطابوق او طاسة الجص، يبقى في بيتنا اكثر من شهرين يجمع فيها مبلغا من المال، كان يدس الدراهم كل يوم في يد أمي، التي تصرها اليه وتخفيها في مكان آمن، طبعا في المحمل الخشبي المطرز بصورة بنت المعيدي، وقبل ان يغادر، يخبرها فتخرج له ما جمعه وكان قليلا جدا مقارنة بما كان ينفقه على شراء السكائر لانه كان مدخنا شرها، ويصر على ان يجلب ما يستطيع ان يجلبه من الصمون وقطع الفلافل والعمبة، يضعها أمامنا رغم احتجاج أمنا، يأخذ المبلغ ويغيب عنا لشهور، ثم يعاود غزوته الصيفية الى بغداد.
في احدى زياراته سمعته يقول لأمي ، انه ينوي هذه المرة ان يشتري قمصان "ابو المسطرة وبياخة كبيرة وبنطرون جارلس"!
بدأ يعمل في نقل الجص والطابوق، لم يكن العمل وفيرا في تلك الايام، فكان يسحب ما وفره لدى أمنا لشراء السكائر. وبقي يتحدث بحرقة عن قميص أبو المسطرة والجارلس كأنهما حل سحري لكل مشاكله، وبعد عمل متواصل لأيام طالت ليس حسب العادة جمع مبلغا استطاع ان يشتري فيه من الباب الشرقي "سوق اللنكة" ثلاثة قمصان أبو المسطرة والياخة الكبيرة واحد أحمر والآخر أصفر والآخر أبيض وبنطرون جارلس. سلم الصرة الجارلسية والقمصان لأمي كي تغسلها، وفعلا رأينا على الحبل ثلاثة قمصان بألوان صارخة وهي تتراقص مع الريح على الحبل المشدود من ناحيتيه بمسامير.. وقبل أن ننام أخبر أمي بأنه سيسافر غدا، طلب منها أن تجلب القمصان والبنطرون.
"أخاف أنساهن خويه"!
وضع الصرة قرب وسادته ونام ...
بعد أربعين عاما "هي المسافة الفاصلة بين الأمنية الكبيرة التي حققها في تلك الليلة حينما وضع القمصان قرب الوسادة" رحل كاظم حسين ربيط وهذا هو اسمه. في مجلس فاتحته لا اعلم لماذا وكيف انهمرت في عقلي وذاكرتي صورة تلك القمصان الثلاثة ـ ابو المسطرة والياخة الكبيرة وبنطرون الجارلس ـ وهي تتراقص على حبل الغسيل؛ والتي ارتداها كاظم في العمارة.. وكما اخبرنا فيما بعد:
ــ احسست أنني كمن يطير في الهواء...
رحمة الى روحك البريئة التي كان يسعدها قميص من اللنكة... جاهدت جهادا طويلا حتى تشتريه!

عرض مقالات: