في سبعينات القرن الماضي ، وحينما كنت طالباً في الاعدادية ، كنت أعمل خلال العطلة الصيفية كأجير يومي (عمّالة) في شعبة الهندسة المدنية لشركة النفط. كانت اجرتنا اليومية 500 فلساً نستلمها كل خميس بعد انتهاء الدوام ، لهذا تجدنا فرحين مستبشرين يومها ، نبدأ العمل بهمّة ونشاط لأننا سنستلم الراتب كما كان يحلو لنا أن نسميه وقتها .
كنت اشتري كتباً ومجلاتٍ من احدى المكتبات الاهلية ــ كانت في قضاء الفاو ثماني مكتبات ــ كنت اشتري منها بالدَين ، حيث اسدد ما مطلوب كل خميس عصراً بعد انتهاء الدوام عند عودتي للبيت .
ذات اسبوع أصيب مسؤول الشعبة بوعكة صحية ألزمته الفراش مجازاً ، فبقينا ننتظر المحاسب لكنه لم يحظ بتوقيعه كي يصرف لنا ، ثارت ثائرتنا وتجمعنا في باب الشعبة نطالب بصوتٍ عالٍ بأجرتنا للأسبوع المنتهي ، ونشرح للمحاسب التزاماتنا وما مطلوب منّا ، فطلب المحاسب منّا الانتظار عصراً لحين ذهابه الى بيت مسؤول الشعبة والحصول على توقيعه بإذن الصرف. انتظرنا حتى أطلّ علينا وقت المغرب حاملاً حقيبته ليسلّمنا اجورنا كي نعود بعدها الى أهلنا حاملين ما استطعنا شراءه من كتب وملابس وفاكهة !!
تذكرت تلك الايام وأنا أجلس الان أفكّر بالراتب الشهري الذي تأخر كثيراً ، ما جعل زملائي الموظفين يتذمرون ويلعنون كل شيء ، وبالتأكيد من حقهم جداً ، لأنهم أصحاب عوائل وعليهم التزامات ومسؤوليات كثيرة لابدّ أن يوفوا بها. عدت الى نفسي لأجدني مثقلا بعبء اكبر مما أحتمل ، حيث مصاريف البيت اليومية والأولاد ومدارسهم والإيجار والمولدة والانترنت وغيرها !!
كيف سأحلّها والشهر قارب على نهايته دون راتب وكأننا نعمل بالسخرة ؟!
تساءلتُ : هل فكّر مسؤولٌ ما بنا ؟! ماذا سيقول البرلماني اذا تأخر راتبه مثلي ؟! وماذا سيقول المسؤول ايضا ؟!
أعتقد انهم لم يهتموا ابداً ، لأن ما موجود تحت ايديهم اكبر وأكثر من الراتب حتما ، لهذا أظلّ أنا الموظف المسكين بين مدٍّ وجزر ، بين موافقة المالية وتأخير اقرار الموازنة ، وكأنني لم أنتمِ لهذا البلد ، وجيء بي من أقاصي الارض كالرقيق لأعمل بالسخرة ، ولا يحقُّ لي أن أفكّر بالراتب وتحسين المعيشة وكيفيتها ؟!
أقول وبملء الفم نصيحة لمن يريدها : لا تؤخروا رواتب الموظفين والعمال والأجراء اليوميين لأن صبرهم اذا نفد لات ساعة مندم !!
الانتماء الحقيقي للوطن والناس هو الشعور بهم وبمعيشتهم وأحوالهم الصحية وسكنهم في كل لحظة ، لا الكلام والشعارات التي لا تسمن ولا تغني عن جوع