الحديث عن السوق في حياتنا اليومية، هوالحديث عن تبادل القيم والأفكار، وليس عن تبادل السلعة فقط، ولا عن التسوق وعرض المنتجين محاصيلهم ، فالسوق بمفهومها الشامل جزء من نظام اقتصادي معرفي ثقافي، لقد كان منذ عصر اليونان المركز الذي نشأت حولة المجمعات السكنية، ويشير الباحث الدكتور فالح عبد الجبار، إلى أن سوق الشيوخ بنيت على طراز مدينة أثينا. لذلك يشمل مفهوم السوق حرية التجارة ودورها في حياة الناس اليومية، كما يشمل علاقات السكن، واتصالها بالجانب االعلائقي اجتماعيا واقتصاديا.  إنَّ ميدان الحرية لا يخص البضاعة فقط، إنَّما يخص القيم التبادليَّة بمفهومها الإجتماعي والمعرفي العام. إنَّ ما يجعل السوق جزءًا من تبادل الحريات، هو القيم التي قامت عليها، ومنها تصور الناس طبيعة النظام السياسي، وللكيفية التي تهيمن فيها الفئات الطفيلية على السوق؛ بضاعة ومعرفة وثقافة. إنَّ شمول البضاعة ميادين أوسع من السلعة، وارتباط معنى الشمولية بمفهوم الطبقات الإجتماعية المهيمنة، هو الذي يحرك مشاعر الناس القديمة ومعارفهم في ظل التبدلات الاقتصادية  "لقد جعلت البرجوازية من الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادليَّة، وقضت على الحريات الجمَّة، المكتسبة والممنوحة، وأحلت مَحلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية القاسية لا تشفق ولا ترحم".

 ويشخص ماركس مفهوم السوق في ظل الرأسمالية ؛ بأنه الكيفية التي تتحول القيم الاجتماعية فيها إلى بضاعة تبادليَّة. ولقد كانت السوق في العصور العباسية ميدانا لتبادل السلع والآراء والمواقف فشكل مكانها الشعبي ميدانا للتبادل.

عندما نذهب إلى السوق نتطلع أولا إلى قائمة الأسعار، فالسعر يحدد ثلاثة جوانب من عملية التبادل: الدخل، ونوعية السلعة، والفائدة. ومن يتمعن في العلاقة بين المستهلك والبضاعة يجد أنَّ الكثير منا ليس بمقدوره تلبية كل حاجات العيش، ولكنه يستطيع عبر الخبرة أن يفرز بين البضائع،  فجزء من علاقة العيش مرتبطة بالخبرة، ويتساءل مارشال بيرمان في كتابة حداثة التخلف عن فحوى هذا التطلع الذي أشار إليه ماركس، حين تمتزج قضايا الشرف والجدارة والصدق والجودة والحقيقة بحاجة المواطن إلى البضاعة الضرورية، "فيقول ما هو الجدير، ما هو الشريف، ما هو الحقيقي"؟ ويستخلص بيرمان من تساؤل ماركس "إنَّ الانماط القديمة من الشرف والكرامة لا تموت بل يجري إدماجها بالسوق وتحمل لصاقات عليها أسعارها كما تكتسب حياة جديدة بوصفها سلعًا"، ويعيد السوق مقولة القيم التبادليَّة إلى الأذهان، من أن الإنسان نفسه يمكن أن يتحول إلى سلعة، - تجارة العبيد والرق مثلا-، - تنافس الشعراء في العصور القديمة - لأنَّ سائر القيم تتحول في السوق إلى "مجرد قيمة تبادليَّة"، بمعنى أن البرجوازية وآلتها الإقتصادية لا تمحو البنى التبادليَّة القديمة، ولا أشكال عرضها، وفي الوقت نفسه ليس بمستطاعها منع الافكار المناهضة لها من أن تعرض أمام الناس أيضًا. فمفهوم السوق الحديث هوعرض لتنوع الأفكار والمعارف، والبضاعة ليست هي مايتصل بالملبس والمأكل فقط، بل هي أيضًا القيم، والأخلاق، والتقاليد، والعلاقات، والمبادئ، والأفكار. لذلك لا يختلف الميدان الثقافي عن القيم التبادليَّة التي يتعامل بها السوق.  فالتنافس الحر يشمل الإنتاج الثقافي كما يشمل المعرفة بصنوفها، وعندما تهيمن قوى اقتصادية عشوائية طارئة على السوق من أجل جني الأرباح، لاتعير اهتماما لجودة المنتج الثقافي، لذلك نجدها تعود إلى الماضي الذي تدعي ملكيته بدون حق، وتقدمه في السوق الثقافي كما لو أنه من إنتاجها، أو هويتها الايديولوجية، عندئذ سيكون السوق المعرفي مفتوحًا للمعارف التقدمية أيضًا، وعندئذ سينشأ نوع من التنافس، وسيكون الناس بحكم آلية العرض والطلب على بينة أكثر بنوعية الأفكار التي يتعاملون معها.

عرض مقالات: