بعد التغيير جرى التوجه نحو سياسة اقتصادية جديدة مبنية نظريا على اتباع نظام اقتصاد السوق الحر، وهذا ما دفع بالقائمين على ادارة الاقتصاد الى اهمال كلي للقطاع الحكومي وتحريك دينامية الخصخصة دون توفر رؤية واضحة وعملية لهذا التوجه الجديد، خصوصا في ظل غياب قطاع خاص فاعل، وفي نفس الوقت الاعتماد على الريع النفطي كمورد رئيس في الموازنات السنوية خارج قطاعات الانتاج الاخرى.
لكن الانخفاض المريع في اسعار النفط في منتصف 2014 اعاد التفكير في نهج اقتصاد السوق الى المربع الاول، ولكن مثل هذا المنهج كشف بشكل جلي عن عجز الحكومة في ادارته كما ينبغي بدون الاستعانة بالمؤسسات المالية الدولية، وفي المقدمة منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهنا ظهرت الحاجة الى التنسيق مع هذه المؤسسات، لهذا صادق المكتب التنفيذي لصندوق النقد الدولي في 7 تموز عام 2016 على اتفاقية (ترتيبات الاستعداد الائتماني) التي تجسدها الملاحق المرافقة لها، التي قدمها العراق، وهذه الترتيبات تهدف كما هو معلن الى غلق فجوة مالية تزيد على 50 مليار دولار خلال السنوات 2016—2019 فضلا عن تسهيل ائتماني بمبلغ 5,3مليار دولار بواقع 13 قسطا ابتداء من منتصف تموز 2017 بفائدة 1,5—2,5وبفترة سماح لمدة ثلاث سنوات ومدة القرض خمس سنوات لكل قرض.
ويبدو من كل هذا ان هذا الاتفاق لا يتحدث عن عملية تنمية كما يصرح المسؤولون العراقيون، بل توفير مظلة مالية تزيد على 20 مليار دولار بصورة قروض ميسرة يقدمها البنك الدولي والبنك الاسلامي للتنمية ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى بما فيها القرض الامريكي، اضافة الى التسهيلات التي يقدمها صندوق النقد الدولي ومن ضمنها تأجيل تعويضات دولة الكويت.
ان النتائج المترتبة على هذه الاتفاقية حتى هذه اللحظة قد اقتصرت على ابرام قروض تضع العراق في مقدمة قائمة الدول المقترضة، بالإضافة الى خطوات اجرائية تتعلق بمتابعة تنفيذ الموازنة على شكل تقارير فصلية تقدم الى مجلس الوزراء على وفق تقديرات الموازنة المتعلقة بتخفيض العجز الافتراضي دون التعرض الى الرواتب والبطاقة التموينية والرعاية الاجتماعية، لكن هاتين الاخيرتين فقدتا جوهرهما في تقديم الدعم المعيشي للمواطنين، فقد قلصت مواد البطاقة التموينية والغيت رواتب الرعاية الاجتماعية للمئات من العوائل الفقيرة، سواء عن قصد او عن طريق الخطأ، وتردت بشكل مريع الخدمات الصحية والتعليمية، ولم نلمس شفافية كافية بشأن الاموال المنفقة على الرئاسات الثلاث التي شملتها توصيات صندوق النقد الدولي. كما لاتزال عمليات غسيل الاموال التي اكدت عليها الاتفاقية والزمت البنك المركزي بمعالجتها، فاعلة.
ويبدو ان الاصلاحات الاقتصادية التي تحدث عنها رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في العراق كريستيان جوز في تصريحاته في باكو عاصمة اذربيجان في كانون الاول عام 2017 ليست الا عبارات مسطرة على الورق، الا اذا كان يقصد بها الاستقطاعات المفروضة على الموظفين والمتقاعدين الواردة في قانون موازنة 2017 والرسوم المفروضة على المواطنين في كافة الوزارات الخدمية من دون حساب او رقابة.
ان النصائح التي يريدها العراقيون تتطلب التركيز على عمليات التنمية الاقتصادية في غير القطاع النفطي، وان تنصب القروض التي اصبحت عبئا على الموازنة العراقية، على اعادة تأهيل وتشغيل المصانع والمعامل المتوقفة واعادة تشغيل القوى المنتجة وعودة الحياة الى قطاع الانتاج، لا الى استمرار سياسة الاستيراد العشوائي الذي يستنزف العملة الصعبة المتأتية من موارد النفط، وكل ذلك من اجل استيعاب العمالة العراقية العاطلة وتوفير الكهرباء والخدمات الاساسية الاخرى للعوائل العراقية التي تواجه الصيف القائض وتتعرض الى الامراض الفتاكة وتلوث البيئة والامية التي تنتشر بين 8 ملايين عراقي وعراقية .
ان صندوق النقد الدولي واخواته مطالبون بدراسة حياة العراقيين خارج الغرف المغلقة، بل في الفضاء الواسع، ولديه الكثير من ادوات الاستطلاع للوصول الى اقتصاد متوازن يضع العراق على اعتاب مرحلة جديدة من البناء والتنمية.

عرض مقالات: