بالارتباط مع حادث انفجار ميناء بيروت، تناولت وسائل الإعلام وشخصيات مختلفة تنتمي إلى تيارات سياسية مختلفة الكثير من المقالات والتحليلات. وبغض النظر عما إذا كان هذا الحادث متعمداً أو غير مقصود، فإن الوضع في لبنان في السنوات الأخيرة يتطلب اهتماماً دقيقاً وغير مشروط.
بعد شهور من الاحتجاجات في الشوارع ضد فساد الحكومة وعدم كفاءتها، استقال سعد الحريري في كانون الثاني الماضي وتشكلت حكومة جديدة برئاسة حسان دياب. ومن المعلوم أن رئيس الوزراء الجديد شخصية كاريزمية لا تنتمي إلى المكونات العرقية-القبلية في البلاد. وبغض النظر عن الوضع في العراق الخاضع للنفوذ الأمريكي والإيراني، فقد أمكن الوصول إلى حل وسط بين المجاميع المختلفة على رئاسة الحكومة اللبنانية.
إن التناقضات والقوى صاحبة النفوذ في هذا البلد هي أكبر بكثير مما عليه في العراق. وتشمل هذه القوى كل من إسرائيل وإيران وحزب الله، وتشمل القوى السياسية والعسكرية الدخيلة في لبنان وفرنسا وسلاطين ومشيخات الخليج والولايات المتحدة، وبريطانيا التي تتدخل سراً وبشكل دائم.
في البداية، بدأ حسان دياب خياراً مناسباً لجميع الفرقاء. وأعلن رئيس الوزراء الجديد بعد أسبوعين من توليه المسؤولية، أنه سيتعين على لبنان تسديد ديونه الخارجية أو توجيه أقساط ديونه للأهداف الاجتماعية والخدمية في البلاد.
وفي الخامس والعشرين من شباط، أعلن حزب الله أن لبنان لن يقبل الأساليب الإمبريالية لصندوق النقد الدولي في إدارة البلاد. وفي التاسع من آذار، فشلت الحكومة في تسديد 1.2 مليار دولار من ديونه الخارجية، وأنفقت المبلغ نفسه على الاحتياجات الاجتماعية، مما يمثل أول تحد سيادي للبلاد أمام الدائنين الخارجيين.
في ظل هذه الظروف، انتشرت بسرعة أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة. وأصبح ثلث مواطني البلاد عاطلين عن العمل. ومنذ بداية العام، تراجعت قيمة العملة اللبنانية بنسبة 85٪ والواردات بنسبة 40٪.
وقال فلاديسلاف راشكفان نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي إن لبنان ليس لديه أموال لشراء السلع الأساسية. ولا يستطيع البنك المركزي في البلاد دفع العملات الأجنبية لشراء القمح. وارتفع التضخم إلى نسبة 11.4% في شباط و 56 % في أيار. وزاد انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع لدرجة أن تعطلت إشارات المرور. وفي الأشهر الخمسة الأولى من العام، زاد عدد جرائم القتل بنسبة 50 في المائة. وارتفعت أعداد سرقة السيارات بسرعة. وتقدر الخسائر الاقتصادية هذا العام بنحو 70 مليار دولار. وفي الواقع، إن البنك المركزي للبلاد مفلس فعلياً.
في الثلاثين من نيسان، أجرت الحكومة محادثات مع كريستالينا جورجيافا، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي. وتمت الموافقة على خطط مواجهة الأزمة، وكان على صندوق النقد الدولي أن يقرر ما إذا كان سيسدد القرض للبنان أم لا. ودعا مصرفيون حكومة دياب إلى إجراء إصلاحات لإعادة الاستقرار إلى البلاد وضمان النمو الاقتصادي.
كان حسان دياب يأمل في اقتراض ما بين 10 إلى 15 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وبعد ثلاثة أشهر، زار مراقبو الصندوق إلى بيروت نيابة عن مستثمرين عالميين لمراجعة استعداد بيروت للصفقة وتقرير عن كيفية إجراء الإصلاحات.
هذه المرة، أوكل دور وسيط القرض إلى وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف دريان، البالغ من العمر 73 عاماً. فقد عمل دريان وزير دفاع فرنسا كدبلوماسي خاص خلال رئاسة هولاند. وشملت مهامه مراقبة انسحاب القوات الأفغانية من أفغانستان وإرسال قوات فرنسية إلى الجزء الشمالي من مالي. ودعم إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية، وعينه ماكرون وزيراً للخارجية تقديراً له. خلال فترة عمله في وزارة الدفاع الفرنسية، وقّع داريان صفقة أسلحة بلغت مليارات الدولارات مع مصر وقطر والهند، بالإضافة إلى صفقة غواصات بقيمة 40 مليار دولار مع أستراليا. في الوقت نفسه، توجه الجيش الفرنسي إلى سواحل وسط إفريقيا وسوريا والعراق. وبهذا السجل الحافل، وصلت هذه الشخصية إلى ساحة الحداد في لبنان لـ “مداواة جراح” هذا البلد.
وصرح جان إيف داريان لدى وصوله إلى بيروت في الثالث والعشرين من حزيران للأصدقاء اللبنانيين ووزير الخارجية اللبناني: “أتيت إلى لبنان للمرة الثانية كوزير للخارجية الفرنسية بناء على طلب الرئيس ماكرون للتأكيد على أن فرنسا كانت دائما وستقف إلى جانب الشعب اللبناني. وفي الواقع أن الأزمة اللبنانية لا تخفى على أحد، والخيار الوحيد للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هو إبرام اتفاقية قرض مع صندوق النقد الدولي من قبل المصارف اللبنانية. تم التعبير عن تطلعات أبناء البلد في الحركات الاجتماعية الشعبية التي بدأت في أكتوبر عام 2019”. واضاف “إذا كان لبنان يريد الخروج من الازمة الاقتصادية فليس أمامه من خيار سوى الذهاب الى صندوق النقد الدولي”.
إن مشروع تقديم القرض إلى لبنان هو على النحو التالي: يستثمر صندوق النقد الدولي والمصرفيون من ذوي النفوذ في أوروبا في البلد على شرط أن يتم تدقيق حسابات البنك المركزي اللبناني من قبلهم، ونقل ملكية صناعة الكهرباء إلى المقرضين. وإلا فلن يكسبوا شيئاً من وجودهم في الميدان. علماً أن حزب الله يفتقر أيضا إلى الموارد المالية ولا يمكنه تقديم المساعدة المالية، كما أنه يخضع لعقوبات من الدول الغربية.
باختصار، دخل الثعلب إلى عش الدجاجة ليلقن دروس الأخلاق للفراخ، وتبقى الثعالب الأخرى في الفناء لتقوم بتمزيق الدجاج إلى أشلاء.
هناك قضايا تحتاج إلى التأمل. فعائلة الحريري هي التي بنت بيروت الحديثة. في الوقت نفسه، استحوذت البنوك الأوربية على البلاد، إلى درجة أن ديون لبنان اليوم وصلت إلى 90 مليار دولار، بالإضافة إلى طلب لبناني جديد يتراوح بين 10 إلى 15 مليار دولار أخرى. في هذا الوضع الراهن، ماذا ستفعل لو كنت مكان المسؤولين اللبنانيين الذين يحاولون إخراج البلد من الفوضى بأحدث التسهيلات؟ أحد الحلول هو أن تطلب السلطات اللبنانية من الناس المساعدة في الحفاظ على وحدة البلاد، ويبدو أنهم سيحصلون على رد إيجابي. فالمواطنون يسعون لجمع أكبر قدر ممكن من فئة العشرة دولارات وعشرين أو مائة دولار لإعادة الإعمار ومعالجة الأضرار التي سببها الانفجار الرهيب في بيروت وإعادة إعمار البلاد. حتى الآن، قدمت دول مختلفة بما في ذلك روسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وتركيا وإيران وإسرائيل وقطر والعديد من الدول الأخرى المساعدة لبنان.
لذا، إذا ما أطلق أصدقاء لبنان حملة لمساعدة ضحايا البلد، فمن الممكن أن يتم إحياء هذا البلد دون أن يقع تحت عبء قروض صندوق النقد الدولي الساحق. ويعد وجود الشبكات الاجتماعية والإنترنت من الوسائل التي يمكن على الأقل الاسهام في هذه الحملة.
عندما اشتعلت النيران في نوتردام - باريس، تم جمع ملياري يورو في يومين للمساعدة في إعادة بنائها. وتطوعت الشركات الفرنسية الكبيرة بتقديم ما يصل إلى 10 ملايين يورو، وتم طلب العون من المواطنين على المشاركة في حملة ترميم كاتدرائية نوتردام. وعمل الفرنسيون سوياً على ترميم نصبهم التذكاري لإنقاذ رمز الحضارة الأوروبية. ولكن هل تستطيع دول المنطقة ومسلمي العالم أن يتحدوا على الطريقة الفرنسية، بدلاً من إثارة العداوة والكراهية كما جرت العادة، وإعادة بناء بيروت، إحدى أجمل مدن الشرق الأوسط؟
ماذا سوف تظهر حادثة بيروت؟.

عرض مقالات: