في رحلة عبر أربع عقود، زينت مسيرتي المهنية كأستاذ وباحث بتجربة فريدة تمثلت في الاشراف على نخبة من طلاب الدكتوراه، كل منهم حمل شغفا فريدا ومهارات استثنائية. لقد حظيت بشرف مشاهدة بعضهم يبحرون في رحلة المعرفة حتى نالوا تميزا واضحا سطع نجمه في سماء العلم.

 من رحم هذه التجربة الملهمة في الجامعات الغربية، أقدم لكم، طلاب الدراسات العليا في الجامعات العراقية، هذه الملاحظات المهمة. قد لا تنطبق جميعها بالكامل على البيئة الاكاديمية في جامعاتنا، لكنني أؤمن بانها ستشكل لكم بوصلة ترشدكم في رحلة البحث العلمي وتساعدكم على تحقيق تطلعاتكم.

 فتعالوا معي نعزز خبراتنا ونثري معارفنا من خلال عدسة هذه الملاحظات.

يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بقدرة فائقة على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدقة، مدفوعين بفضول فكري عميق ورغبة جامحة في فهم العالم من حولهم. كما يظهرون مهارات تواصل قوية في الكتابة والعرض الشفهي، ويعرفون بشغفهم الحقيقي بمجال بحثهم، مما يدفعهم لبذل اقصى الجهود والمثابرة.

والى جانب ذلك، يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بانضباط ذاتي عال وقدرة على العمل بشكل مستقل، مع مهارات فائقة في تنظيم الوقت وادارة مشاريعهم البحثية بكفاءة. كما يظهرون مهارات متقدمة في حل المشكلات والتغلب على التحديات.

ولا ننسى اهمية روح التعاون التي تميز طلاب الدكتوراه المتميزين، حيث يسعون دائما الى تبادل الافكار مع زملائهم واساتذتهم، وخلق بيئة اكاديمية ايجابية تثري الجميع.

ولكن من المهم التأكيد على ان هذه الملاحظات هي تعميمات، وان هناك العديد من المهارات الاخرى للتميز في برنامج الدكتوراه. الاهم هو ان يكون لدى الطالب شغف حقيقي بمجال بحثه وان يكون على استعداد لبذل الجهد والمثابرة لتحقيق اهدافه.

 في الواقع، لا تشبه رحلة الدكتوراه اي رحلة اخرى. تبنى هذه الرحلة الاستثنائية على صفتين اساسيتين:

 اولا، القدرة على التعامل مع التحديات والاستجابة للنتائج غير المتوقعة. 

يواجه الطالب في دروب المعرفة عواصف من التحديات، بدءا من تعقيدات البحث العلمي الى صعوبة الحصول على البيانات، ومن ضغوطات الوقت الى لحظات الشك والياس. لكن لا ينسى المرء ان النجاح ليس غياب الفشل، بل القدرة على النهوض من بعده.

تذكر ان أعظم الاكتشافات العلمية ولدت من رحم الفشل والتحديات.

كن مستعدا للتعامل مع كل تحد بذكاء وحكمة، واجعل من كل فشل درسا يقويك وينعشك.

 

ثانيا، الحيوية وحب التعلم والاهتمام بالتحديات الجديدة والخبرات.

ان رحلة الدكتوراه ليست مجرد واجب او مهمة، بل هي شغف ينير دربك ويلهمك. فأحب ما تفعله، وكن متشوقا لمعرفة المزيد. لا تقيد نفسك بحدود، بل ابحث عن التحديات الجديدة والخبرات المثيرة.  فكل تجربة جديدة هي شعلة تنير دروب المعرفة.

تذكر ان رحلة الدكتوراه هي رحلة ملهمة تشبه رحلة البذرة التي تصبح شجرة باسقة.  فلا تستسلم، وكن مثابرا ونزيها، ولا تغرك الطرق القصيرة المشبوهة، واجعل من التحديات فرصا للنمو والتطور.

مع كل خطوة تخطوها، ستقترب من تحقيق حلمك وتنير دروب المعرفة.

 رحلة الابداع والابتكار

لا تقتصر رحلة الدكتوراه على مجرد اكتساب المعرفة، بل هي رحلة للإضافة والالهام. فمن خلال بحثك الدؤوب، ستتمكن من اضافة لبنة جديدةٍ الى صرح المعرفة في مجال دراستك. وان هذه الاضافة لا تقتصر فقط على ما يتم نشره في المجلات العلمية، بل تشمل ايضا كل ما تقدمه من افكار جديدة وحلول ابداعية لمشكلات معاصرة. فكن مبتكرا، ولا تخشى الخروج من الصندوق، واجعل من بحثك رحلة ملهمة تثري حياتك وتساهم في بناء مستقبل أفضل. ضع خطة منظمة لإدارة وقتك، وحدد اهدافا قابلة للتحقيق، وكن ملتزما بتنفيذها. وتذكر ان رحلة الدكتوراه ليست رحلة وحيدة، بل هي رحلة جماعية تشارك فيها مع زملائك واساتذتك. فاستفد من خبراتهم وتجاربهم، وكن متعاونا ومشاركا في مجتمعك العلمي. فمعا، ستحققون انجازات عظيمة وتنيرون دروب المعرفة للأجيال القادمة.

 رحلة البحث عن المعرفة العميقة

الغرض الاساسي من العمل على الدكتوراه هو تعميق وتوسيع المعرفة الانسانية. ونظرا لأنك تعمل على مستوى متقدم من المعرفة، فان مادة البحث التي تعمل عليها يجب ان تكون صعبة وشاملة وغير مطروقة، لذلك يجب ان تكون قادرا على الاستيعاب وتحليل المادة بطريقة دقيقة (الذكاء والتفكير النقدي العاليين). ومع ذلك، لا يكفي فقط ان تكون ذكيا وتمتلك تفكيرا نقديا، بل يجب ان تكون مجتهدا وملتزما بالعمل الجاد، ويلاحظ ان بعض الطلاب الذين تلكأوا في دراستهم الاولية قد حصلوا على الدكتوراه بنجاح. لذلك، فان الذكاء وحده ليس كافيا في الحصول على الدكتوراه، ولكن يمكن ان يساعد في الحصول عليها بسلاسة، ولا يعني النجاح او الفشل في الدكتوراه.

ومن الصفات المهمة التي يجب توفرها للحصول على درجة دكتوراه متميزة هما الصبر والانضباط. بعض الطلاب يحبون طرح الاسئلة والتفكير في طرق للإجابة، لكنهم يفتقرون الى الصبر اللازم للعمل على ايجاد الجواب. بدلا من ذلك، يلجأون الى السوشيال ميديا او يزحفون الى فكرة اخرى. هناك حاجة للانضباط والصبر لإيجاد الجواب وتجسيد الفكرة الابداعية. انت بحاجة الى وجهة نظر طويلة المدى حتى عندما لا تجد متعة في العمل (كالعصف الذهني وارضاء فضولك العلمي).

اذن، للوصول الى مرتبة الدكتوراه، يجب ان يتمتع الطالب بذكاء استثنائي وانضباط ذاتي وتخطيط دقيق وقدرة على التواصل الفعال مع المشرف، بالإضافة الى التعامل الايجابي مع التحديات. ولتحقيق ذلك، يجب ان يحيط نفسه بأشخاص يتمتعون بنفس الصفات. فعلى الرغم من كفاءة الباحثين، الا انهم بحاجة الى مساعدة لزيادة الانتاجية. اما لكي يصبح "مدرسا جامعيا" متميزا، فيجب ان يمتلك جميع الصفات المذكورة اعلاه.

*   محمد الربيعي عالم احياء مهتم بزراعة الخلايا والانسجة وانتاج الادوية البيولوجية وهو استاذ متمرس في الكلية الجامعة دبلن (UCD)                

عرض مقالات: