يعمل غابرييل روكهيل أستاذاً للفلسفة في جامعة فيلانوفا (بولاية فيلاديلفيا الأمريكية)، ويركّز في مؤلّفاته على النقد الثقافي والتاريخ وعلم الجمال والسياسة. ويعكف حالياً على إكمال كتابٍ سيصدر عن «مونثلي ريفيو» بعنوان «الحرب العالمية الفكرية: الماركسية مقابل صناعة النظرية الامبريالية». وفيما يلي مختارات (بتلخيص) من المقابلة التي أجرتْها معه المجلة الصينية «دراسات الاشتراكية العالمية».

*ذكرتَ في أحد مقالاتك أنّ عملاء وكالة المخابرات المركزية حرصوا على قراءة النظريات النقدية الفرنسية لميشيل فوكو وجاك لاكان وبيير بورديو وغيرهم. ما سبب هذه الظاهرة؟ وكيف تُقيِّم النظرية النقدية الفرنسية؟

-كانت «الحرب العالمية الفكرية» إحدى الجبهات المهمّة في الحرب الثقافية على الشيوعية، وهو موضوع كتاب أقوم حالياً بإكماله لمطبعة «مونثلي ريفيو». ولعبت وكالة المخابرات المركزية CIA على تشويه سمعة الماركسية وتقويض النضالات المناهضة للامبريالية، وكذلك الاشتراكية القائمة بالفعل. خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة الامبريالية المهيمنة. ولكنها واجهت صعوبات بفرض هيمنتها العالَمية حيثما وُجِدَت أحزابٌ شيوعية قويّة... فشنّتْ دولةُ الأمن القومي الأمريكية هجوماً متعدد الجوانب لاختراق الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ومنافذ الأخبار والمعلومات الرئيسية. وأَنشأتْ جيوشاً سرّية زوّدتها بالفاشيّين، ووَضعتْ خططاً لانقلابات عسكرية إذا وصل الشيوعيون إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع (تم تفعيلها لاحقاً في استراتيجية التوتر بعد عام 1968 حيث ارتُكِبَتْ هجماتٌ إرهابية ضدّ المدنيين ألقي باللّوم فيها على الشيوعيين).

وعلى الجبهة الفكرية، دعمت النخبة الحاكمة الأمريكية إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة، وشبكات دولية لإنتاج معرفةٍ مناهضة للشيوعية، أملاً بتشويه سمعة الماركسية. وروّجَتْ للمثقَّفين المعادين علناً للمادية الديالكتيكية والتاريخية، مع حملات تشهير شنيعة ضدّ مثقَّفين ماركسيين.

في هذا السياق الدقيق، يجب أن تُفهَم النظرية الفرنسية- جزئياً على الأقل- بوصفها نتاجاً للامبريالية الثقافية الأمريكية. لقد ارتبط المفكّرون المنتمون إلى هذه التسمية– فوكو، ولاكان، وجيل ديلوز، وجاك دريدا، وغيرهم الكثير– بطرقٍ شتّى بالحركة «البنيوية»، التي عَرّفت نفسها كمعارَضةٍ لأبرز فلاسفة الجيل السابق (سارتر)، حيث تمّ رفض التوجُّه الماركسي لهذا الأخير منذ منتصف الأربعينيّات، وسادتْ معاداة «الهيغلية» كشعارٍ مستتر لمعاداة الماركسية. مثلاً: أدان فوكو سارتر باعتباره «الماركسيّ الأخير» وادّعى أنه رجلٌ من القرن التاسع عشر، وخارجٌ عن العصر الذي يمثّله فوكو ومنظّرون آخرون (العصر الذي بات معادياً للماركسية).

اكتسب بعض هؤلاء المفكّرين شهرةً كبيرة داخل فرنسا، إلّا أن ترقيتهم في الولايات المتحدة هي التي دفعتهم إلى الأضواء الدولية، وجعلت أعمالَهم القراءةَ المطلوبة للمثقَّفين العالميّين. في مقالٍ نُشِرَ مؤخّراً في Monthly Review  تناولتُ بالتفصيل بعضَ القوى السياسية والاقتصادية التي كانت وراء الحدث الذي افتتحَ عصر النظرية الفرنسية: إنه مؤتمر 1966 الذي انعقد في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية في بالتيمور، وجمع العديد من هؤلاء المفكّرين لأوّل مرة. قامت مؤسسة فورد، التي شاركت مع CIA بتمويل «مؤتمر الحرية الثقافية» CCF، بتمويل مؤتمر بالتيمور والأنشطة اللاحقة الأخرى بما يصل إلى 36 ألف دولار (يعادل 339 آلاف دولار اليوم). وهو مبلغ استثنائيّ حقاً بالنسبة لمؤتمر جامعي، ناهيك عن التغطية الصحفية من مجلات، مثل: تايم ونيوزويك، الأمر الذي لم يُسمع به من قبل في مثل هذه الأوساط الأكاديمية.

كانت المؤسسات الرأسمالية، ووكالة المخابرات المركزية، وغيرها من الوكالات الحكومية، مهتمةً بتعزيز العمل «الراديكالي الأنيق» ليكونَ نسخةً مصطَنَعة من الماركسية. وبما أنهم لم يستطيعوا تدمير الماركسية ببساطة، سعوا لتعزيز أشكالٍ جديدة من النظرية، بحيث يمكن تسويقها على أنها «متطوِّرة ونقدية» رغم خُلوّها من أيّ مادةٍ ثورية، ليدفنوا الماركسية باعتبارها «عفا عليها الزمن». وكما نعلم الآن من ورقة بحثية لـ CIA عام 1985 حول هذا الموضوع، كانت الوكالة سعيدةً بمساهمات البنيوية الفرنسية، وكذلك «مدرسة الحَوليّات»، وبمجموعة «الفلاسفة الجدد» Nouveaux Philosophes. حيث أشارتْ الورقةُ خصوصاً إلى البنيوية المرتبطة بفوكو وكلود ليفي شتراوس، إضافة لمنهجية «مدرسة الحَوليّات»، لتتوصّل للاستنتاج التالي: «نحن نعتقد أن هدمَهم النقدي للتأثير الماركسيّ في العلوم الاجتماعية سوف يستمر على الأرجح كمساهمةٍ عميقة في المعرفة والدراسات الحديثة».

فيما يتعلق بتقييمي الخاص للنظرية الفرنسية، أودّ القول: إنّ من المهمّ الاعتراف بها على حقيقتها: إنها نتاجٌ- على الأقل جزئياً- للامبريالية الثقافية الأمريكية، التي تسعى لإزاحة الماركسية عبر ممارسة نظريةٍ مناهضة للشيوعية، تنغمس في الانتقائية الثقافية البرجوازية وتعبئة الألعاب النارية الخطابية لخلق ثوراتٍ متخيَّلة في الخطاب لا تغيّر في الواقع شيئاً.

علاوة على ذلك، تعمل النظرية الفرنسية على إعادة تأهيلِ وتعزيز أعمال مناهضي الشيوعية كفريدريك نيتشه ومارتن هايدغر، وبالتالي، محاولة إعادة تعريف «الجذريّ» على أنه «الراديكالي الرجعي». عندما يتعامل المنظّرون الفرنسيون مع الماركسية، فإنهم يحوّلونها إلى خطاب واحدٍ من بين خطابات أخرى، والتي يمكن- بل وينبغي- مزجها مع خطابات غير ماركسية ومعادية للديالكتيك كعلم الأنساب النيتشوي، والتدمير الهايدغري، والتحليل النفسي الفرويدي، وما إلى ذلك. ولهذا السبب يُطالِبُ العديد من هؤلاء المفكّرين بمُلكيّة «ماركسهم الخاص»، الأمر الذي يَخلق أحياناً الوهمَ بأنهم «ماركسيّون» بطريقة أو بأخرى.

الاتجاه السائد هو أنْ يستخرجوا تعسّفياً من عمل ماركس عناصرَ محدَّدة للغاية يفترضونها صدىً لعلامتهم الفلسفية الخاصة بهم. هذا هو الحال مثلاً مع ماركس الأدبيّ الشبحي الذي يعاني من العجز على اتخاذ القرار عند دريدا، وماركس المرتحِل بلا أرض عند دولوز، وماركس المخالِف المناهض للديالكتيك عند جان فرانسوا ليوتار، وأمثلة أخرى من هذا القبيل. وبالتالي، فإنّ خطاب ماركس يعمل بالنسبة لهم كعَلَفٍ لتغذية الشريعة البرجوازية التي ينتقون منها ما يطوِّرُ علامتهم التجارية الخاصة، ويعطيها هالةً من السّعة والراديكالية. لخَّص والتر رودني الطبيعة الحقيقية لهذه الممارسة النظرية عندما أوضح أنّه «مع الفكر البرجوازي، بسبب طبيعته غريبة الأطوار، والطريقة التي يحفّز بها غريبي الأطوار، يمكنكَ سلوكُ أيّ طريق، لأنه في نهاية المطاف عندما لن تذهب إلى أيّ مكان، يمكنك اختيار أيّ طريق!».

*تتمتَّع «مدرسة فرانكفورت» أيضاً بنفوذٍ واسع في الصين المعاصرة. كيف تقيّم نظريّاتها؟ وما نوع العلاقة التي تربطها بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية؟

-إنّ «معهد البحوث الاجتماعية»، المعروف بشكلٍ أكثر شيوعاً باسم «مدرسة فرانكفورت»، قد ظهر أصلاً كمركز أبحاث ماركسي بجامعة فرانكفورت بتمويلٍ من رأسماليّ ثريّ. وعندما تولّى ماكس هوركهايمر إدارة المعهد عام 1930، أشرفَ على تحوُّلٍ حاسم نحو الاهتمامات التأمّلية والثقافية البعيدة بشكلٍ متزايد عن المادية التاريخية والصراع الطبقي، وبقيادته لعبت مدرسة فرانكفورت دوراً تأسيسياً بإنشاء ما يعرف بـ«الماركسية الغربية»، وبشكل أكثر تحديداً «الماركسية الثقافية». شخصيات، مثل: هوركهايمر ومعاونه مدى الحياة تيودور أدورنو، لم يرفضوا الاشتراكية الموجودة فعلياً فحسب، بل قاموا أيضاً بربطها مباشرةً بالفاشية من خلال الاعتماد الملتبس- مثل النظرية الفرنسية إلى حدّ كبير- على مقولةٍ ايديولوجيّةٍ هي «الشمولية» أو «التوتاليتاريّة»، حيث تمّ تبنّي نسخة ميلودرامية وتَثاقُفيّة للغاية لمذهب عُرِف لاحقاً بـ TINA «لا يوجد بديل» There Is No Alternative. لقد ركّزوا على عالَم الفن والثقافة البرجوازييَّن باعتباره الموقعَ الوحيد المحتمَل للخلاص، ذلك أنّ مفكّرين مثل: أدورنو وهوركهايمر، مع استثناءات قليلة، كانوا مثاليّين إلى حدٍّ كبير في ممارساتهم النظرية، ولسانُ حالِهم: إذا كان التغيير الاجتماعي الهادف ممنوعاً في العالم العَملي، فيجب البحث عن الخلاص في عالَم الأشكال الفكرية المُستَحدَثة والثقافة البرجوازية المبتَكَرة، أيْ في المجال الفكري أو الرّوحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“قاسيون” – 21 كانون الثاني 2024

عرض مقالات: