(الارض غير المستغلة أو تلك التي لم يتم استغلالها جيدا من قبل سكانها الأصليين يحق للشعوب الصناعية المتحضرة مصادرتها واستثمارها) تلك هي الفكرة التي ساقتها الرأسمالية لتبرير الاستعمار الاستيطاني في الامريكيتين واستراليا وجنوب افريقيا وفلسطين، وكانت مبرراً لأبادة السكان الأصليين الذين يقفون بوجه (التقدم) وحضارة الرجل الابيض، ولم تكن تلك فكرة طارئه، بل هي متجذرة في الثقافة الاوربية قديماً وحديثاً، وتعود جذورها إلى حركة التنوير وشعور الرجل الابيض بعظمته بعد النهضة والثورة الصناعية.

الفيلسوف (فولتير) يرى ان الرجل ذا البشرة الداكنة حيوان بأنف أفطس وبذكاء محدود أو بلا ذكاء اطلاقاً.

(ايمانويل كانت) يقسم الشعوب إلى أعراق يعتلي العرق الابيض القمة في تصنيفه، بينما الهنود فليس لديهم القدرة على الابداع لمحدودية عقولهم، والسود في منزلة عقلية متدنية جداً.

البير كامو يبرّر موقفه المعارض لاستقلال الجزائر بادعائه أن المستوطنين الفرنسيين أجدر بالمواطنة، وأن السكان الأصليين ليست لديهم قدرة على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي فلا أهمية لاستقلالهم السياسي. 

في روايته (يوتوبيا) تخيّل توماس مور جزيرة يسكنها حكماء عقلاء ويسودها العدل والرفاه، ولم يستطع مقاومة ثقافته العنصرية حتى في مشروعه المتخيل، فيمنح سكان الجزيرة حق التمدد إلى الجزر المجاورة ان ضاقت عليهم جزيرتهم، وان رفض سكان تلك الجزر فلابد من محاربتهم أو طردهم من أرضهم، على اعتبار ان لجزيرة يوتوبيا رسالةً (سامية*) لنشر العدل والرفاه في الجزر الاخرى. 

تتطور تلك الفكرة على يد جان لوك فيلسوف ومؤسس الفكر اللبرالي ليعلن عن نظريته في الملكية الخاصة والتي تصبح فيما بعد مرتكزاً نظرياً لتسويغ التمدد الاستعماري للرأسمالية، وتبرير سحق كل من يقف بوجهها على اعتباره عائقاً في طريق التحضر، بل هو مجرم في تحديه الوصايا الالهية بنظر لوك كما سنرى لاحقاً.

فما الذي جاءت به نظريته في الملكية الخاصة:

كتب جان لوك في ( المبحث الثاني في الحكومه) الفصل الخامس بان الله قد خلق الارض بخيراتها من طعام وماء وحيوانات لتكون ملكاً مشاعاً للجميع، إلا انه أمرنا بان نحسن استثمار الارض بالعمل، وقد منح الفرد حق تملك الارض التي  بعمله ستنتج له ما يكفيه لتأمين حياته، فاذا اقتطع أرضاً وسيّجها واعتنى بالأشجار صارت ملكاً له، وهو يتحدث هنا عن الانسان البدائي الذي يعيش بفطرته في ظل قانون الطبيعة فقط٠ توصّل جون لوك إلى ان العمل هو مصدر ملكية الفرد، وقد كان هذا الكشف فتحاً جديداً في علم الاقتصاد، أخذ به آدم سميث وريكاردو، فما كان مألوفاً آنذاك أن الله قد منح الارض للملك و فوّضه  كي يمنحها لمن يشاء. (بالطبع الرأسمالية الناشئة كحركة تقدمية آنذاك كانت تهدف إلى هدم تلك المفاهيم الأقطاعية وترسيخ حق الملكية الفردية، فكانت هذه النظرية استجابة طبيعية لمتغيرات الواقع الاقتصادي وصعود البرجوازية في اوربا.)

يكمل لوك بناء نظريته موضحا ان الله كان كريماً بحيث خلق ما يكفي الجميع، كذلك أعطى الانسان عقلاً يمنعه من الاستحواذ على حصص غيره، فلو فكّر أحدهم مثلاً في تكديس ما يزيد عن حاجته من الفاكهة فانها ستتعفن، ولهذا سيكتفي بأخذ حاجته فقط، اي ان المساواة في ملكية الافراد تتحقق بسبب وجود الرادع الذاتي الذي يفرضه المنطق العقلي في المجتمعات الاولى والتي يعيش فيها الانسان بفطرته.

كان هذا قبل ان تتأسس المجتمعات السياسية التي تحتكم لقوانين وضعية حيث يصبح فيها توزيع الملكية أكثر تعقيداً، فبعد أكتشاف النقود أصبح من الممكن والعادل ايضاً توسيع ملكية الفرد بما يزيد عن حاجته وتكديس ناتج عمله الفائض على  شكل أموال، فالمال لا يتلف مثل الفاكهة. ويعود ليوضح ما يقصده بالعمل كمصدر للملكية  فيقول: ما يقضمه حصاني من حشيش ملك لي والسور الذي يشيّده عبدي هو ملك لي أيضاً !!!. هنا صار واضحاً ان النظرية تسّوغ تكديس رأس المال لا بعمل الفرد نفسه فقط بل عبر استغلال عمل الآخرين. والأمر لا ينتهي به عند تبرير الاستغلال الطبقي فحسب، بل يواصل التنظير لتبرير استغلال الشعوب الاخرى وتقديم الاسانيد النظرية لاعطاء الرجل الابيض حق طرد السكان الأصليين في الأمريكيتين من أرضهم، بل يصل به الامر إلى اتهام الهنود الحمر** بالأجرام لمخالفتهم وصية الرب الذي أمرنا ان نستغل الارض بالعمل لتمدنا بالمزيد والمزيد من ثمارها ومواردها، وبغير ذلك لا يمكن الادعاء بحق ملكيتها.

الملكية الفردية هي الشرط الذي يضعه جون لوك للتحول من المجتمع البدائي الذي يحتكم بقانون الطبيعة إلى مجتمع سياسي تنظمه القوانين الوضعية التي ترعاها الحكومة. ووفق هذا المعيار كان يرى السكان الاصليين في اميركا كمجتمع بدائي لا تنظمه قوانين وليس فيه حكومة بسبب عدم وجود ملكية فردية، فالارض مشاع للجميع بل حتى الملك لا يملك لنفسه كفرد قطعة أرض. وهو يتجاهل حقيقة ان للهنود الحمر حضارات مثل المايا والانكا وامبراطوريات وممالك مثل امبراطورية الأزتك *** في المكسيك بتعداد 16مليون نسمة وكانت تضم مدناً كبيرة بمقاييس ذلك الزمن، و امبراطورية الانكا في بيرو، وهذا يعني أن هناك قوانين وحكومات ولكنها مختلفة في بنيتها عن تلك التي نشأت في اوربا.

الأوربيون لم يكونوا قادرين على فهم ماذا تعني الارض بالنسبة للهنود الحمر، وحين علموا ان الارض بالنسبة للسكان الأصليين مقدسة، حسبوا ان الامر ضرب من ضروب الرومانسية فحسب، والامر ليس كذلك، فالهندي الاحمر يؤمن بكل جوارحه بان كل شئء في هذا الكون (النهر والشجر والحجر) كائنات حيه تشعر وتتألم وتحنو على الانسان وإن الأرض هي الأم، الأم ليس بمعناها الرومانسي الخطابي الذي يردده الانسان الوطني الحديث، بل الأم بأحاسيسها وجوارحها. والأم ليست للبيع والشراء، الأم للجميع، تحنو على كل أبنائها، وابناؤها بالمقابل يحمونها ويدفعون عنها اي ضرر. هذا ما يفسر الدفاع المستميت للهنود الحمر اليوم عن البيئة، تلك الثقافة الروحية يناضل ورثتها ببساله وثبات لمنع فضلات المصانع وتسريبات الصناعة النفطية من تلويث الانهار، وهي كائنات حية ومصدر كل الحيوات، وتتواصل نشاطاتهم واحتجاجاتهم ويقدمون الشهداء لمنع جز أشجار غابات الأمازون وهي مصدر لجزء كبير من الأوكسجين الذي نتنفس. 

 يجب ان لا نفهم مقولة إن كل ما في الكون كائن حي ضمن ثنائية الخطأ والصواب علمياً، فالعلم لا يرى في الجماد حساً، ولكن لنعطي أنفسنا فرصة النظر إلى الأمر من منطلق ما تركته تلك الثقافة الروحية من شحنات عاطفية ثورية لحماية كوكبنا الذي يجري تدميره بشتى انواع الملوثات وفضلات الصناعات الأحفورية دون حدود لجشع رأس المال. وفي المقابل من الجنون أيضا ان نقف ضد العلم والتطور الصناعي أو نتجاهل ما قدمته الثورة الصناعيه للبشرية جمعاء. ولكن لنتأمل كيف كان سيكون حاضرنا ومستقبل البشرية لو أن تلاقحا بين ما أنجزه الغرب من تقدم علمي مادي مع الثراء القيمي لثقافات الشعوب الاخرى. هل كان مثل هذا التفاعل الحضاري والثقافي سيجنبنا ولو بعضاً من كوارث الحروب والابادات البشرية ويردأ عنا الأخطار الكبرى كالتسليح النووي والاحتباس الحراري اللذين يمثلان أخطاراً وجودية مقلقة على الأنسان؟

ما أضاع فرصة التلاقح الثقافي هو العقل الأداتي الانتفاعي المتوّج بمنطق الربح والخسارة، والذي ورثناه عن حركة التنوير وكان عربة الرأسمالية في توسعها وحروبها الإمبريالية، وتدمير الثقافات الاخرى مما أضاع فرصة تفاعل الحضارة الأوربية المادية وانجازاتها العلمية الرائعة مع الحضارات الاخرى بما فيها من طاقات روحية ولمسات انسانية قد تسهم في تشذيب النزعات العدوانية تجاه الانسان والطبيعة. 

الهوامش: 

* هناك على الدوام رسالة (سامية) تبريراً للتوسع الكولونيا لي، تتغير تلك الرسالة مع الزمان والمكان فمن نشر المسيحية وتنوير الوثنيين إلى تحديث القارة الافريقية صناعياً، أو مكافحة المخدرات في أمريكا اللاتينية، أو نشر الديمقراطية وحقوق الانسان (في الدول المارقة فقط)، أو محاربة الارهاب أو الدفاع عن الأقليات. في جميع تلك الرسائل يكشف الواقع تناقضات ومعايير مزدوجة بشكل فضائحي.

   ** لا أميل إلى تسمية السكان الأصليين بالهنود الحمر لأنها جاءت بسبب اعتقاد كولمبس الخاطئ حين وطأت قدماه أرض اميركا اللاتينيه بانه وصل الهند التي كانت هدف رحلته، وبهذا لم يفرض الأوربيون ثقافهتم فحسب بل فرضوا عليهم اسماً وهوية جديدة لا علاقة لهم بها البتة.

*** لم يستطع الإسبان اسقاط وتدمير امبراطوريات وممالك السكان الأصليين عسكرياً وانما سقطت بسبب الامراض التي كانت تحملها اجسام الإسبان وخاصة الجدري، والتي لم يكن السكان الأصليون قد تعرضوا لها أو عرفوها من قبل وليس في أجسامهم مناعة ضدها فمات الملايين منهم٠

عرض مقالات: