احتلت معاناة اليهود مرة اخرى مركز الخطاب السياسي في المانيا. ولا يتعلق الامر بالاهتمام بحياة اليهود، وانما بمحاولة تعزيز صورة المانيا كدولة تتصالح مع الشعور بالذنب، على خلفية المحرقة النازية تحدث ثلاثة مثقفين يهود هم: الباحثة الفرنسية امليا رويغ، والفنانة العالمية كانديس بريتز الجنوب افريقية،

و تومر دوتان دريفوس روائي ومترجم إسرائيلي، عن حقيقة هوس معاداة السامية ومناصرتها، في فعالية حوارية شهدتها برلين في 9 كانون الاول 2023. في ما يلي مقتطفات من القراءات التي قدمت في الامسية.

كانديس بريتز

كثير من اليهود الذين يتضامنون مع الفلسطينيين في المانيا، تلقوا بشكل متزايد ردودا عنيفة. ونحن متهمون زورا بمعاداة السامية، ويتم التشهير بنا وتهميشنا من قبل وسائل الإعلام الألمانية السائدة. ومن المثير للاهتمام أن هذا النوع من العنف لا يُدان باعتباره معاداة للسامية.

من المؤكد أن كل يهودي في ألمانيا قد مر بتجربة التعامل معه بصنمية من قبل الألمان غير اليهود. وفي العقود القليلة الماضية، ازدهرت مناصرة السامية، التي اعتمدت، لسوء الحظ في كثير من الأحيان، على انماط قديمة لمعاداة السامية، ولكنها الآن مقترنة بصور أحادية الجانب لليهود، باعتبارهم ضحايا أبديين. إن جعل اليهود ضحايا أبديين، في وضع جامد وخالد وعالمي، يجعل من المستحيل رؤيتهم كجناة.

إن خطاب معاداة السامية في ألمانيا لا يتعلق في كثير من الأحيان بأمن اليهود بقدر ما يتعلق بالمشاعر الألمانية. وعلى اليهود، أن يكونوا حريصين على عدم إيذاء مشاعر الذين قتلوا أجدادنا. إن هذا تبادل الادوار بين الجاني والضحية أمر مزعج للغاية، ولكنه مقبول في أحيان كثيرة.

يزعم العديد من انصار السامية الألمان أنهم يحبون دولة إسرائيل واليهود دون قيد أو شرط ويريدون حمايتهم بأي ثمن، باسم 6 ملايين يهودي من ضحايا الإبادة الجماعية النازية. ويستخدم هذا الخطاب كسلاح ضد كل من ينتقد حكومة اليمين الإسرائيلي.

إن أعمال العنف العنصرية ومعاداة الإسلام والتشهير وقمع الأصوات غير الصهيونية، تمارس في كثير من الأحيان تحت غطاء مناصرة السامية. ويجري اتهام نقاد حكومة نتنياهو بمعاداة السامية. في المانيا، البلد الذي يرتكب فيه اكثر من 80 في المائة من الجرائم المعادية للسامية القوميون العنصريون البيض والنازيون الجدد، فإن النضال ضد معاداة السامية يجب أن تستهدف اولا الألمان البيض. ولكن الامر ليس كذلك. وبدلاً من ذلك، يُزعم في العادة أن معاداة السامية "تختبئ" في أوساط المثقفين اليساريين، وعلى نطاق واسع بين السكان المسلمين.

هوبرت أيفانغر، زعيم حزب الناخبين الأحرار، ونائب رئيس وزراء ولاية بافاريا، الذي اشتهر بعد الكشف عن معاداته للسامية يترك بسلام، بينما تلصق معاداة السامية بالذين يدافعون عن المواقف الإنسانية وينتقدون قتل المدنيين في غزة. إذا تم اتهام أي تضامن مع المجتمع المدني الفلسطيني بمعاداة للسامية، سيصبح من المستحيل الوقوف بجانب العدالة هناك.

إن وظيفة الاتهامات والإدانات العنيفة لمعادي السامية المزعومين والتي في الغالب الاعم، لا أساس لها من الصحة، والتي تمثل مكارثية انصار السامية، هي الحفاظ على صورة ألمانيا باعتبارها دولة تائبة من معادية للسامية، ومتحولة الى مناصرة اليهود. ومن المثير للقلق والقلق العميق أن نرى عدد الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم تقدميين يقعون في فخ هذه السردية.

أغلب المسؤولين المعينين بمكافحة معاداة السامية في ألمانيا ليسوا يهوداً، بل ألمان من خلفيات نازية. قد يشبه هذا، فريق كبير من موظفي الخدمة المدنية في جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري، يقرر ما هو عنصري وما هو غير عنصري، وجميع افراده من مواطني جنوب أفريقيا البيض.

مليا رويغ

مناهضة اليهود الذين يتعارضون مع التصور الألماني عن اليهودية. لا يعد معاداة للسامية. ولذلك تظل الهوية اليهودية حبيسة التصورات الألمانية. أرى أن هذا يمثل استمرارا لمعاداة السامية الألمانية المتجذرة، التي تغلف الأصوات اليهودية وتسيطر عليها وتنكر وتقمع تنوع الهوية اليهودية وعدم تجانسها من أجل استغلالها لأغراض سياسية وأيديولوجية. ولا يجوز للجالية اليهودية في ألمانيا أن تكون مجتمعاً تعددياً وغير متجانس، له توتراته واختلافاته الخاصة، وغير ممثل بصوت سياسي واحد. ان هذا معاد للسامية.

في ألمانيا يعد نقد الصهيونية، باعتبارها حركة قومية عرقية تسعى إلى إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين على أنها معاداة صريحة للسامية. وهذا اختزال خطير للغاية. إن اليهودية ديانة وثقافة عمرها 4 آلاف سنة، وهي أكثر ثراء مما تريد الحركة الصهيونية أن نصدقه. الصهيونية ليست جزءًا من اليهودية، بل هي أيديولوجية القرن العشرين التي تروج لها أقلية من اليهود الأشكناز (يهود الشتات الذين تجمعوا في الإمبراطورية الرومانية في نهاية الألفية الأولى) المتنفذة والمدعومة من القوى الغربية الكبرى. وأي محاولة للمساواة بين الصهيونية واليهودية هي معاداة شديدة للسامية.

لقد اخترعت المانيا مصطلح "معاداة السامية المستوردة" لتبرئة نفسها من معاداة السامية المتجذرة فيها، وبدلاً من ذلك إلقاء اللوم على مجموعات سكانية، من المفارقة تشكل اهدافا لعنف اليمين الشعبوي.

لا يتم إدانة قمع وتشويه الأصوات اليهودية غير الصهيونية في ألمانيا، على الرغم من أن ذلك يمثل في الواقع تميزا هيكليا بين اليهود. يقوم ممثلو الدولة الألمانية بمضايقة اليهود غير الصهاينة والحط من قدرهم وتشويه سمعتهم، ووقف تمويل المؤسسات المرتبطة بهم (كما في حالة منظمة عيون) ويتهمونهم، وهذا الأمر الأكثر سخافة، بمعاداة السامية. تقدم ألمانيا نفسها باعتبارها خبيرة في معاداة السامية، ولكن حقيقة انها كانت يوما "الأكثر" عداء للسامية لا تؤهلها لإخبارنا، نحن اليهود، بمن معاد للسامية ومن ليس كذلك.

ولا تبرئ المانيا نفسها من خلال دعمها غير المشروط للدولة الإسرائيلية والقمع المنهجي للأصوات اليهودية غير الصهيونية فقط، بل وأيضاً من خلال شيطنة المسلمين وتصويرهم على أنهم معادون حقيقيون للسامية. وتنعكس مشكلة معاداة السامية على السكان المسلمين في ألمانيا، الذين يزعم انهم يحتاجون إلى التعليم والانضباط. ويتضمن هذا أيضًا التصوير الخاطئ لليهود والمسلمين على أنهم عدائيون بتكوينهم، أي معادون لبعضهم البعض.

بالإضافة الى ذلك لعب التكيف الجزئي والتدريجي للعديد من اليهود على انهم بيض دورًا مهما. لكن يبقى السؤال المهم: هل اليهود بيض؟ بطبيعة الحال، ليس جميعهم من البيض. اليهود مجموعة عالمية متنوعة للغاية ذات جذور وجنسيات وألوان بشرة وخلفيات عرقية متنوعة، بما في ذلك سكان اسرائيل أيضا وبعد المحارق النازية تم استيعاب اليهود تدريجيًا وانتقائيًا باعتبارهم بيضا، وهذا كان مناسبا جدًا وضروريا تقريبًا للاعتراف بإنسانيتهم بأثر رجعي. إن رؤية اليهود على أنهم من البيض سهّل على الألمان والبيض عمومًا الشعور بالتعاطف والاعتراف بالمعاناة التي لحقت بهم. إن رؤية شعب تم تصنيفه على أنه عرق متدني من البشر وتم ترقيته إلى مرتبة البيض، سهل على الألمان تنمية شعورهم بالمساواة، إلى درجة الرغبة في أن يصبحوا هم أنفسهم يهودًا.

إن تزايد إطلاق الأسماء العبرية على الأطفال الألمان منذ الثمانينيات هو جزء من هذا التحول، حيث يضعون أنفسهم، حتى دون وعي، في موضع الضحايا. إن تحول الألمان إلى اليهودية قد يعكس رغبتهم في الهروب من خلفيتهم النازية و تحت ستار مناصرة السامية، تقمص احد اشكال الضحية. يتم انكار حقيقة هويتي اليهودية بشكل منهجي لأنني أبوي (أي: والدي فقط يهودي) ويهودي أسود، في حين ان حقيقة اليهود المتحولين ذوي الخلفية النازية يمكنهم التحدث نيابة عن جميع اليهود، تبين مدى عمق معاداة السامية في المجتمع الألماني.

تومر دوتان دريفوس

المشكلة تكمن في عدم تصور موحد عن من هو "اليهودي"، وكيف يفكر. وما لا يمكن تصديقه، المرات العديدة، التي حاول فيها اناس كسب ودي، بواسطة بعض النكات المعادية للإسلام. لاعتقادهم ان ذلك يعجب اليهودي الإسرائيلي؟ ان هذا استنتاج مؤسف.

هناك أصوات تريد أن تمنعنا من التحدث بسبب محل اقامتنا. كثيرًا ما أسمع من الألمان واليهود الألمان، باني لا أستطيع المشاركة في النقاش، لأنني لم أنشأ هنا. لقد نشأت في إسرائيل. ولكن المناقشة تدور حول إسرائيل. إذا قمنا بتوزيع حقوق المشاركة في النقاش، ارتباطا بمكان نشأتهم الاجتماعية، فيجب أن نكون نحن الإسرائيليين أول من يُسمح له بالتحدث. ولكن الأمر لا يتعلق بحق التعبير، بل، كما هو معروف دائماً، بالحساسيات الألمانية. وكأن المحرقة اضرت بالألمان وليس العكس، وعلينا نحن اليهود أن نراعي حساسياتهم.

في المتحف اليهودي في برلين، يمكنك رؤية العديد من اليهود من تاريخ ألمانيا: فنانون، علماء، فلاسفة، وغيرهم. ولكن لا ترى مثلا حاخامات. أعتقد أنه من الصعب إبراز الحاخامات هناك لأنهم سيبدون مختلفين تمامًا. والمتحف اليهودي هو مكان حيث تتم دعوة الناس لمعرفة شيء ما عن اليهودية، ومن بين أمور أخرى، ينبغي تعلم مكافحة معاداة السامية. والمنهج المعتمد هو: اليهود مثلكم تمامًا أيها الألمان. وهذا تبسيط شديد. في حين يجب أن تكون الرسالة: اليهود أحيانًا مثلك تمامًا. وأحيانا لا. إنهم مجموعة متنوعة. وحتى لو كانوا لا يبدون أو يفكرون أو يعيشون مثلك، لا ينبغي لك أن تكرههم.

عندما يتحرك الخطاب نحو "يهود طيبون" و"يهود سيئون "، أتذكر لقاعة المتحف اليهودي وأفكر مع نفسي: هل "اليهودي الصالح" أو "اليهودية الصالحة" هو مجرد أغلبية من الألمان يحتفلون بعيد الحانوكا؟ هل يقبلوننا فقط طالما نلتزم بمعاييرهم؟ أليس هذه معاداة السامية بعينها؟

*- نشرت في جريدة المدى في 3 كانون الثاني 2024

عرض مقالات: