منذ عام 2011، تاريخ دخول المنطقة العربية في سلسلة من الأزمات السياسية والثورات، تم تخصيص عدد كبير من الكتب والملفات الصحافية والمقالات، بخاصة باللغات الإنكليزية والفرنسية والعربية، لتحليل هذا “الوضع الثوري” من معظم جوانبه، إلا أن هذا الجهد البحثي بعد عقد من بدء الثورات، لا يراعي المنظور الجنساني بأغلبية ساحقة، مع استثناءات قليلة.

إن حضور المرأة في كل مكان في وسائل الإعلام يتناقض مع الغياب الفعلي للنوع الاجتماعي في النتاجات العلمية باللغة الفرنسية حول الأزمات السياسية والثورات في الشرق الأوسط والمغرب العربي. لذلك فإن الكتاب الجماعي، الصادر حديثاً عن جامعة ليون الفرنسية، وحررته كل من سارة باريير وعبير كريفة وسابا لو رينارد، تحت عنوان “الجندر في الثورة: المغرب العربي والشرق الأوسط، 2010-2020”، يسد ثغرة في هذا المجال.

يضم الكتاب مساهمات حول كل الدول العربية التي شهدت انتفاضات وثورات منذ عام 2011 باستثناء ليبيا، هدفها الأساسي تفكيك الخطابات والصور الأكثر شيوعاً، مع اقتراح زوايا تفسير وتحليل أخرى غير تلك الخاصة بالإنتاجات الأكاديمية السائدة، مع إظهار أن النوع الاجتماعي، من ناحية، فئة مفيدة وضرورية لتحليل هذه الظروف الثورية الفريدة، وأنه من ناحية أخرى، يجعل من الممكن تجديد العمل حول دراسات النوع الاجتماعي.

يبدأ الكتاب بالمسار الثوري بين 2010-2011. في هذه المجموعة من المساهمات، هناك تمييز بين الحالات التي أدت فيها الأزمات إلى صراعات مسلحة أو تدخلات عسكرية (اليمن وسوريا والبحرين) وتلك التي أدت فيها الانقلابات إلى إنهاء مسار الثورة (مصر وتونس). حيث تتناول تناولاً رئيسياً العلاقات بين الجنسين، والعلاقات الطبقية والمسألة العرقية. ويلي ذلك مساهمات تركز على البلدان التي حدثت فيها أوضاع ثورية بين 2018-2019: الجزائر ولبنان والسودان، فيما يضع الفصل الأخير من العمل التحليلات المقدمة في منظورها الصحيح مع الأعمال المتعلقة بالنوع الاجتماعي في العمليات الثورية الأخرى من خلال مقارنة المنظور التاريخي، وبخاصة فرنسا (1789 و1968)، وروسيا (1917)، وإيران (1979)، والبرتغال (1974)، وكوبا (1959) ونيكاراغوا (1978-1979). ومن دون طمس خصوصية كل حالة، فإن المقارنة تجعل من الممكن إظهار أن الديناميكيات التي أبرزها هذا العمل بالنسبة إلى المغرب العربي والشرق الأوسط لا تنشأ عن خصوصيات ثقافية. وهي تحمل أوجه تشابه مع العمليات الثورية الأخرى، سواء أدت إلى تغيير النظام أم لا. من الناحية التحليلية، يبدو النوع الاجتماعي فئة ضرورية ومفيدة لإعادة بناء العمليات الثورية.

 لتوصيف أحداث بلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي وظروفها، يتناول هذا العمل مفهومين كلاسيكيين للعلوم السياسية: أولاً، مفهوم “الأزمة السياسية” التي نظر إليها ميشال دوبري؛ ومن ناحية أخرى، “الوضع الثوري” الذي طوره تشارلز تيلي. لقد مرت جميع البلدان التي تمت دراستها في الكتاب، وفقاً لتسلسلات زمنية متغيرة، بـ”ظروف مائعة” كما وصفها دوبري، أي “عمليات اجتماعية تؤدي، أو من المحتمل أن تؤدي، إلى تمزقات في عمل المؤسسات السياسية التي ليست بالضرورة شرعية”. وكانت هذه الأزمات السياسية “مرتبطة بالتعبئة التي أثرت في وقت واحد في مجالات اجتماعية متباينة عديدة في المجتمع نفسه”. لقد لاقى مفهوم “الوضع الثوري” نجاحاً كبيراً في العلوم السياسية، بسبب طابعه غير المعياري والقطيعة التي أحدثها مع التعريفات الاسترجاعية. في الواقع، يحدد تشارلز تيلي الوضع الثوري تحديداً مستقلاً عن نتائجه: فمن الممكن أن يكون ثورياً عندما يحدث نقل جزء أو كل السيادة إلى مجموعات متنافسة، لكن هذا ليس هي الحال بالضرورة. ويمكن أن تأخذ النتيجة الثورية شكلاً تغييرياً في تركيبة النخب السياسية الحاكمة أو في خصائص مؤسسات النظام، كما حدث في تونس مع وصول أعضاء تنظيمات المعارضة، سواء كانت قانونية أم غير قانونية، إلى السلطة في عهد زين العابدين بن علي، إلى جانب تشكيل مجال سياسي تنافسي: في مصر مع انتخاب الرئيس محمد مرسي عام 2013؛ في سوريا في المناطق التي كانت لفترة من الوقت تحت السيطرة السياسية والعسكرية للمعارضة. وفي الحالة الأخيرة، كما في ليبيا واليمن، أدى الوضع الثوري إلى العسكرة والحرب.

إن أخذ الحالات الوطنية المختلفة، ذات الديناميكيات المتباينة معاً كموضوع، يجعل من الممكن دراسة آثار هذه الظروف غير العادية على العلاقات بين الجنسين، بطريقة متزامنة. يشير النوع الاجتماعي إلى عمليات التمايز والتسلسل الهرمي بين الرجل والمرأة، تعتبر علاقة اجتماعية بمعنى علاقة استغلال بنيوية، تسمح بها وتشرعها مجموعة من التمثيلات التي تميز المذكر عن المؤنث. يستخدم بعض مؤلفي العمل مفهوم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين بمعنى مشابه.

تقول محررات الكتاب إن الطموح النظري الأول لعملهن هو إظهار أن النوع الاجتماعي ضروري لتحليل اندلاع الأزمات السياسية وديناميكياتها ونتائجها. قبل أن يصبح فرضية بحثية، ولد هذا المنظور التحليلي من الحدس عندما كن مهتمات بالتعبئة في تونس، حيث أُسند دور رئيسي إلى الصفعة التي زُعم أن الشرطية فايدة حمدي وجهتها إلى محمد البوعزيزي في منتصف الشارع، وسط مدينة سيدي بوزيد، يوم 17 كانون الأول 2010. إن هذا الاعتداء الذي لا يطاق على كرامته الإنسانية كان سيدفعه إلى التضحية بنفسه. وترتبط قضيتا الذكورة والأنوثة ارتباطاً وثيقاً: وعلى هذه المعلومة رد آخر بأن الشاب وجه إهانة جنسية ضد الشرطية، مشيراً إلى ثدييها، الأمر الذي كان سيثير غضب الشرطية. لأسابيع عدة، كانت هذه المعلومات موضوع جدل ساخن. وبعد إدانتها بصفع محمد البوعزيزي، سُجنت الشرطية في البداية، قبل أن تتم تبرئتها وإطلاق سراحها بعد بضعة أسابيع. معلومات موثوقة أم شائعة لا أساس لها من الصحة، لم يكن ذلك مهماً، بقدر ما كانت الصفعة التي وجهتها الشرطية للشاب قد غذت أسباب الغضب، وردود الفعل التي أثارتها تستحق أن تؤخذ على محمل الجد. ومع ذلك، فإن القليل جداً من التحليلات حول الثورة التونسية تشير إليها. لذلك فإن تتبع جذور التعبئة يتطلب إعادة تشكيل دوافعها، والتي يمكن أن تكون جنسانية، وهو ما يظهر في فصول عدة من العمل. وهكذا، في الجزائر، كان أحد أسباب غضب المتظاهرين، ومعظمهم من الرجال في بداية الحراك، هو الشعور بالإهانة لكونهم ممثلين على رأس الدولة بعبد العزيز بوتفليقة الذي يوصف بأنه غير صالح وعاجز. لذلك كانت قضايا الذكورة مؤثرة. وبالتالي، يساهم النوع الاجتماعي في تفسير تفشي الأزمة، وكذلك ديناميكيات الأزمات السياسية التي لا يمكن اختزالها في أسبابها الأولية: كما يوضح ميشال دوبري، تكتسب الأزمات السياسية استقلالاً ذاتياً (نسبياً على الأقل) في ما يتعلق بأسبابها.

الحراك الجزائري يصبح أكثر تأنيثاً بسرعة كبيرة، كمياً ونوعياً، في الوقت الذي تختفي فيه القضايا الأولية للذكورة. إن غياب القمع الواضح من السلطات ودخول الجامعات – حيث تشكل الطالبات ما يقرب من ثلثي القوى الطلابية – في الاحتجاج يؤدي إلى تضخم صفوف الحراك من خلال تأنيثه.

ومهما كانت نتائج الثورات التي تم تحليلها على المدى المتوسط، فإن هذا الكتاب يساهم، من خلال مقاربة النوع الاجتماعي، في إظهار الآثار المهمة والعميقة للدحض الذي أتاحته هذه الثورات. على الرغم من الأوضاع الأكثر قسوة في العديد من البلدان، بين الحرب والأزمة الاقتصادية الخطيرة والقمع، والتي تفاقمت بسبب الوباء الذي استخدمته العديد من الأنظمة لمنع أي احتجاج، فإن المقابلات مع الناشطين تجعل من الممكن تسليط الضوء المتزايد على القضايا النسوية، لا سيما في الأوساط الناشطة وبين الأجيال الجديدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“النهار العربي” – 25 تشرين الثاني 2023

عرض مقالات: