إن مشروع “العالم” النقدي والفكري- بعد ذلك- شهد حالة من التطور، وإن ارتبط مشروعه النقدي بقناعاته السياسية والفلسفية. فرؤيته للأدب لم تتوقف عند ما طرحه هو وأنيس في بداية خمسينيات القرن الماضي، بل تطورت وتغيرت وأخذت مناحي لم تكن مطروحة من قبل، وذلك نتيجة لارتقاء الوعي النظري لديه، وزيادة خبرته ومعرفته بخصائص العمل الأدبي، وطبيعته النوعية التي تجعله يحمل داخله قانون تطوره النوعي الخاص، وكذلك نتيجة للتطور الهائل في النظريات الأدبية المعاصرة. وهذا ما نلحظه – جيدا- في كتابه “تأملات في عالم نجيب محفوظ” حيث يثير فيه قضية “الصورة والمادة” لكي يعدل قليلا من ما توصل اليه، محاولا البحث عن علاقة اكثر عمقا وتماسكا بين الصورة والمادة, فالصورة تتماهي مع المضمون وتكاد لا تنفصل عنه فيقول : “ان الصورة للشيء لا تكاد تنفصل عن حقيقة إدراكه بل عن حقيقة وجوده كذلك”. ويؤكد “العالم” أن “التشكيل “هو الذي يجعل الأدب أدبا والفن فنا, فلا اللغة وحدها كافية ولا المضمون وحده كافيا، وهذا يعد تطورا في رؤيته النقدية. وهنا يثير قضية “المعمار الداخلي للعمل الأدبي او الفني” على اعتبار “أن الشكل هو العملية الداخلية الفاعلة في العمل”، فهو عنصر أعمق من مجرد الملامح الخارجية إلي أن يصبح عملية البناء والتكوين والتطوير بما يمنح العمل الادبي خصوصية الأعمق من مجرد اتباعه لمظاهر تشكيل خارجية.

الإنسان موقف

ومن الصفات المهمة في شخصية “محمود أمين العالم” أنه كان ثابتا على المبدأ وهذا ما يشير اليه الناقد الراحل د. جابر عصفور في مقال له تحت عنوان “العالم القيمة والرمز” يقول فيه: لم يكن العالم يتميز بالثبات على المبدأ فحسب، وانما كان يحترم كل صاحب مبدأ ومهما كان مختلفا عنه أو مغايرا له وذلك هو السبب الذي تتجسد فيه قيمته. لقد بدأ في النقد الادبي داعية متحمسا إلى الواقعية التي كان يراها السبيل السليم لتطور الإبداع العربي, وبالطبع كانت الواقعية التي انحاز إليها أقرب إلى الواقعية الاشتراكية منها الي الواقعية النقدية, لكن إيمانه بهذه الواقعية الأخيرة لم يقلل من احترامه للرواد الذين تعلم على أيديهم, وعلى رأسهم طه حسين الذي كان يحمل لتلميذه الخارج عليه، فكريا، المودة والتقدير”. وقف محمود أمين العالم, في قلب الذين واصلوا الدفاع عن الفلسفة والنظرية مقدما إضافاته الخلاقة وقادرا علي الهام المئات من التلاميذ والمناضلين مستخدما عقله النقدي الثاقب، مبسطا رؤيته الكونية الشاملة للصراع العالمي، وملتقطا بعض أهم المفاصل والقضايا التي أدت الى اخفاق التجربة الاشتراكية الأولى في السياق، وهي التطور العلمي والتكنولوجي, وكعادته كمفكر قلق يطرح اسئلة أكثر من طرح الاجوبة، وهو يتشوق للمزيد من المعرفة في كل لحظة”.

وقد كان “العالم” من أكثر الذين استوعبوا الفلسفة الماركسية والفكر الماركسي منهجا وموقفا فكريا، وفي الوقت نفسه نضالا بكل ما تعنيه الكلمة. وقد تحمل تبعات هذا النضال لسنوات طويلة. كما عاش محترما للآخر ومقدرا لدوره- مهما اختلف معه- نلاحظ ذلك- جيدا- في رأيه عن ثورة يوليو 1952, رغم أن عبدالناصر هو من اعتقله في سجن الواحات لخمس سنوات “إلا أن محمود أمين العالم كان يقول لزملائه في معتقل الواحات: إن ثورة يوليو حركة وطنية ديموقراطية رغم طابعها العسكري وأساليبها الفوقية غير الديموقراطية ولابد أن نتعاون معها”.عاش محمود أمين العالم واضحا في آرائه ومواقفه الفكرية والإنسانية، مؤكدا كما جاء في أحد عناوين كتبه المهمة أن “الإنسان موقف”..!!

النقد المسرحي

كانت تجربة “محمود امين العالم” الفكرية استكمالا لتجارب تنويرية سابقة عليه مثل تجربة د. طه حسين, وسلامة موسي,،وعلي مبارك ورفاعة الطهطاوي وشبلي شميل وفرح أنطوان وغيرهم ممن حملوا لواء التنوير في الثقافة العربية خلال المائتي عام الماضية.

وقد تميزت رؤيته الفكرية بالتجديد المستمر وفق متطلبات العصر، فكان يؤمن بدور المثقف في الواقع الذي يعيش فيه، حيث ربط بين النظرية والتطبيق، فظهرت آراؤه الإصلاحية مبكرا سواء علي المستوي الثقافي او علي المستوي الاجتماعي والسياسي. وقد تعددت صور ذلك, ضاربا مثالا واضحا لما سماه “جرامشي” بالمثقف العضوي, منطلقا في ذلك من الجملة التي كان يرددها – دائما-:”النظرية رمادية, لكن شجرة الحياة خضراء”, وهو بذلك يؤكد على المعني الجوهري لدور المثقف, وهو أن يقترب من واقع الأشياء التي يناقشها، لا أن يسكن في البرج العاجي الذي لا يري من خلاله الأشياء جيدا. ونتيجة لأفكاره الجريئة ورؤيته المستنيرة الكاشفة والراصدة والمتمردة، فقد عاني “العالم” الكثير من الاضطهاد والإقصاء ومنها الاعتقال السياسي في الفترة ما بين (1959 وحتى 1964) في سجن الواحات مع عدد كبير من أهم مثقفي ومبدعي مصر ومنهم فؤاد حداد والفريد فرج ونبيل زكي وفوزي حبشي وصنع الله ابراهيم وسمير عبدالباقي وغيرهم.

وما يهمنا هنا هو دوره النقدي الرائد في الحياة الثقافية المصرية، وخصوصا كتاباته النقدية المسرحية، فللعالم كتاب مهم تحت عنوان “الوجه والقناع في مسرحنا” وهو من الكتب ذات الطابع التحليلي للظواهر المسرحية. في هذا الكتاب يؤكد “العالم” على أن “المسرح هو لقاء الإنسان بالإنسان على أرض المعاناة والبهجة، ولقاء الإنسان بالإنسان في المسرح فهو لقاء الإنسان بجوهر إنسانيته، بجوهر ما هو به إنسان”. ويتعرض الكتاب لواقع المسرح المصري في فترة زمنية محددة من 1955 وحتى 1971، وهذه تقريبا هي الفترة الناصرية، وهي الفترة التي ازدهر فيها فن المسرح كأحد تجليات النهضة الفنية والثقافية في ذلك الوقت. ومع أن “العالم” قال في مقدمة الكتاب “أنه لا يؤرخ للمسرح العربي أو المصري المعاصر، ولا يقوم بتحليله وتأصيله وتحديد معالمه الأساسية، وإنما هو في الحقيقة، كتاب تطبيقي في النقد الأدبي”، أقول على الرغم من ذلك ففي كثير من الدراسات والمقالات التي ضمها الكتاب نجد رؤية نقدية وفنية في تحليل الظواهر المسرحية التي كانت موجودة في ذلك الوقت في مصر والعالم. فالفترة الأولى والتي شهدت سطوع نجم عدد من الأسماء المسرحية مثل نعمان عاشور وألفريد فرج  وسعدالدين وهبة، وظهور أعمال جديدة للرائد الكبير توفيق الحكيم، فهي المرحلة التي وصفها العالم بأنها “تعبر عن إرادة التحرر الوطني” فظهرت أعمال مسرحية ذات إطار واقعي كما في “الناس اللي تحت” و”الناس اللي فوق” لنعمان عاشور، والتي يصفهما العالم قائلا: “المسرحيتان في الحقيقة استجابة فنية واعية، لواقعنا الاجتماعي الجديد، فالثورة التي تعيشها بلادنا في هذه السنوات، لا تقف عند الحدود السياسية فحسب، وإنما تمتد إلى علاقتنا ومؤسساتنا وقيمنا الاجتماعية”.

وهنا نرى موقف العالم النقدي المنحاز للوظيفة الاجتماعية للأدب والفن، وهو ما كان يسمى بـ”الواقعية الاشتراكية في الأدب” ومن خلالها كما بتحليل عدد كبير من الأعمال الأدبية والفنية، بل إن هذا الاتجاه ساد لفترة في الثقافة المصرية خاصة بعد ثورة يوليو 1952. وكانت البداية مع صدور كتاب “في الثقافة المصرية الذي كتبه “العالم” بالمشاركة مع صديقه د.عبدالعظيم أنيس عام 1957. وبالمثل جاء تحليله لمسرحية “اللحظة الحرجة” التي يرى فيها “أن يوسف إدريس أراد أن ينتقد بعمله الفني هذا أعمالا فنية أخرى يغالي مؤلفوها في إسباغ ثوب خرافي على شخصياتهم مما يجعلها أقرب إلى أبطال الأساطير المبرئين من كل نقص أو رذيلة”، أراد يوسف إدريس أن يدافع عن إنسانية الإنسان، عن إنسانية البطل، عن ضعفه وقوته، عن حقيقته الصادقة”. ويأخذ “العالم” على يوسف إدريس في مسرحية “الفرافير” أنه استلهم التراث الشعبي في الشكل المسرحي دون الاستفادة في المضمون الفكري للمسرحية. ويرى العالم أن إدريس في هذه المسرحية تورط بالشطحات التجريبية المغرقة في مفاهيم مغلوطة هي لعبة الأدب الوجودي ومسرح اللامعقول” حيث الحرية بغير علاقة بغير مجتمع، بغير إطار، بغير نظام شامل، بغير انتماء، دفاع عن الإنسان اللامنتمي، الذي يقف وحده في مواجهة العالم، وغير المنتمي لنظام اجتماعي محدد.

الحرية الفردية

يقول العالم:”عندما يشغلنا الدكتور يوسف إدريس بالبحث عن حل لهذه القضية، قضية تحقيق الحرية الفردية المطلقة، فإنه في الحقيقة يورطنا في مفهوم سلبي للحرية”. في حين يرى “العالم” في مسرحية “الفتى مهران” لعبد الرحمن الشرقاوي نموذجا لتقديم البطل الثوري، حيث يقول: “لا شك أن الفتى مهران بطل ثوري يصعد إلى منصة مسرحنا العربي، وما أندر ما نجده على هذه المنصة، لقد قدم نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس بعض هذه النماذج، ولكنها لم ترتفع أبدا إلى مستوى الوعي الثوري للفتى مهران”.

ويشغل مسرح توفيق الحكيم حيزا كبيرا من الجهد النقدي لمحمود أمين العالم، حيث كان يرى فيه النموذج الأمثل للمثقف والمفكر ورجل المسرح، مؤكدا على أن الحكيم يقف بين طليعة أدبائنا ومفكرينا الذين ساهموا بإبداعهم الأدبي والفكري على السواء في إرساء القواعد والقيم الجديدة لأدبنا العربي المعاصر، ثم يبدأ في تحليل بعض أعماله مثل “الصفقة” التي يعتبرها حلقة مهمة في تجربة الحكيم المسرحية خاصة في مرحلة “الاتجاه الواقعي” بما فيها من تعبير عن الصراع الاجتماعي الواقعي، كذلك تقترب المسرحية من لغة الشخصيات بما فيها من تعبيرات من اللهجة العامية.

رحلة إلى الغد

كذلك يستعرض العالم مسرحية”رحلة إلى الغد” والتي تؤكد فلسفته حول الإنسان، مستعينا بما وصل إليه العقل البشري على أيامنا هذه من اكتشافات علمية. كما كتب”العالم” عن “عودة الروح مسرحيا” والتي قدمت في ستينيات القرن الماضي من إخراج جلال الشرقاوي، مؤكدا أنها تقدم الروح والمناخ الاجتماعي والنفسي، ومن خلالها نتعرف على جوانب من المجتمع. كما حظيت تجربة صلاح عبد الصبور بعدة إضاءات نقدية من “العالم” فكتب عن “مأساة الحلاج” و”الأميرة تنتظر”..

كذلك نراه يحتفي بتجربة محمود دياب خاصة في مسرحية “الزوبعة” ومسرحية “باب الفتوح”. وكان محمود أمين العالم صاحب رؤية تدعو للتجديد المسرحي وفق الطبيعة الاجتماعية، وكان يرى أن المسرح يحتاج إلى تخطيط في إطار تخطيط ثقافي، واجتماعي شامل، يحقق لقاء الإنسان العربي بالإنسان العربي، على أرض النضال والمعاناة، وبهجة التفتح والتجدد والإبداع، بما يحقق لقاء حميميا واعيا مضيئا بحقيقته، وحقائق مجتمعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الأهالي” المصرية – 4 آذار 2023

عرض مقالات: