عاد الينا ماركس (الذي مرت ذكرى رحيله الـ 140 يوم 14 آذار الجاري) واستعادت الماركسية مواكبتها للعصر. هذا ما كتبه مدير دار النشر الألمانية المتخصصة بأعمال ماركس وانجلس اثر ازدياد مبيعات الدار بعد 2008 وأيضا ما أشار اليه أسقف كانتربري في بريطانيا عندما كتب عن توحش وانفلات النظام الرأسمالي المعولم، وحتى بابا الفاتيكان الحالي فرانسيس أشار الى قدرات الملحد ماركس التحليلية. وعاد الهمس الإعلامي يحذر من أخطار تداعيات الازمة المصرفية على النظام الرأسمالي بعد غلق مصرف السيليكون فالي أبوابه.

أما على الصعيد الأكاديمي فهناك شبه اتفاق على ان تحليل ماركس  لبنية النظام الرأسمالي الاقتصادية هي الأكثر دقة وما زالت تحتفظ بحيويتها، وان الاشكال ليس معها بل في اعتماد المنظور الفلسفي المادي الديالكتيكي والتاريخي في تحليل بنية وتطور المجتمعات، وتبني الممارسة الثورية من اجل تغيير مسار التقدم نحو الاشتراكية. وكما يبدوا فأن “المتمركسين”، خاصة في الأوساط الاكاديمية والثقافية والإعلامية، يأخذون من المنظومة الفكرية الماركسية ما ينسجم وتوجهاتهم الأيديولوجية ومصالحهم الطبقية.

 الماركسية فكر نقدي متجدد يتطور طبقا للقوانين الموضوعية التي تتحكم بالنمط الإنتاجي السائد بما تضمه من منظومات سياسية وفكرية ودينية وأخلاقي، فجميعها جزء من البنية الفوقية المرتبطة ديالكتيكيا بمستوى تطور التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. بل لو أن ماركس وانجلز اليوم عادا لقالا “نحن لسنا بماركسيين”، ولأعادا كتابة جوانب عديدة من الفكر الماركسي بمكوناته الثلاث: الفلسفة والاقتصاد السياسي  الاشتراكية العلمية، حيث ما أجتهد فيه وكتب حوله ماركس و انجلز كان مرتبطا بشكل مباشر بما توفر من مصادر ومعطيات وبحوث تميزت آنذاك بشحتها ومحدوديتها، بينما نجد اليوم انفجارا معلوماتيا بما تحقق من تطور في العلوم الطبيعية والاجتماع والتاريخ والثقافة والاعلام، إضافة الى نتاجات الثورة العلمية والتكنولوجية الرابعة وصعود العالم الرقمي وعلوم الذكاء الصناعي والروبوتات. فمثلا لو عاش ماركس اليوم لما احتاج الى الذهاب يوميا الى المكتبة البريطانية في لندن من أجل البحث المضني، وكانت معينة الأساسي لبلورة المفاهيم والمقاربات النظرية التي قادته الى الفكر الماركسي بل لتوفر امامه حاسوبه الخاص الذي هو طريقه للوصول الى كم  هائل من المعارف كانت أشبه بالخيال العلمي في زمنه. وهنا يبدأ المدخل الى التجديد الحقيقي عبر استيعاب هذه المعارف وبروح العصر وبكل ما يطرحه من الحاجة الى مراجعة موضوعية للاستراتيجيات والتكتيكات وإيجاد ما هو الأفضل سياسيا وتنظيميا، خاصة وقد ابتعدنا عن نمطية تقديس النصوص والاهتمام بما يقرب الفكر الماركسي من الجماهير، يساعد على  فهمه واستيعابه، ويشكل جزءا من ديناميكية بلورة الوعي الثوري الراديكالي الذي يتماشى والقرن الحالي، وفتح نوافذ واسعة للبحث والاجتهاد الفكر  الذي يتفاعل مع المتغيرات الجوهرية التي تكمن خلف الحالة السياسية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية وتجلياتها الثقافية.

 تاريخيا، ظهرت الماركسية نتيجة استخدام التقنيات التي جاءت بها الثورة الصناعية التي بدأت في إنكلترا و امتدت الى أوروبا، وما خلقته من تطور نوعي في مستوى قوى وعلاقات انتاج التي انهت النظام الاقطاعي نتيحه التراكم الكمي للعلاقات الإنتاجية ذات الطابع الرأسمالي في داخله، حتى تكاملت واعادت صياغة مجمل العلاقات الإنتاجية التي تميزت بتبلور الطبقتين البرجوازية والبروليتاريا، وتكون بنية فوقية تنسجم معها من ناحية شكل الدولة والنظم الفكرية والروحية والأخلاقية. بينما نجد في القرن الحادي والعشرين تبلور فئات اجتماعية جديدة تعكس البنية الطبقية للمجتمعات الرأسمالية المعاصرة المنسجمة مع تطور القوى المنتجة نتيجة اتساع  العالم الرقمي والمساحة التي يحتلها اليوم شغيلة الفكر والرقمنة نتيجة إعادة تشكل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، والتي مازالت في حالة تبلور وتكامل مع بنية فوقية تنسجم معها ولكن يبقى طابعها استغلاليا. 

فعلى سبيل المثال عندما تناول ماركس نمطية التمرحل الارتقائية من تشكيلة اجتماعية اقتصادية الى أخرى اعلى توقف عند الاختلاف النوعي في نمط الإنتاج في بلدان الشرق، وكتب في حينه عن موضوعة الاستبداد الشرقي، ومن سماتها هيمنة الدولة على أنظمة الري تسندها طبقات من رجال الدين والموظفين والمؤسسة العسكرية، وكل ما كان متوفرا لدية ثلاثة كتب عن الصين (كتبها كاهن) والهند كتبها عسكري بريطاني). اما اليوم فنجد المئات من الكتب والآلاف من المقالات والاطروحات الاكاديمية حول البنية الاقتصادية والطبقية والاجتماعية والفكرية لشعوب الشرق سواء في الدراسات حول “الأسلوب الآسيوي للإنتاج” التي كان لها حضور في الدراسات الأوروبية والسوفيتية وأيضا في الهند وبلدان اسيوية أخرى في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي. ولان الماركسية ليست نصوصا مقدسة ليس على المهتمين بها سوى إعادة تفسيرها فقط بدون الخدش بنقاوتها وكليتها، بل هي نهج ومقاربة لتحليل الظواهر الطبيعية والمجتمعية والاقتصادية بالاعتماد على نموذج “برادايم” أساسه قوانين الديالكتيك وبناء فرضيات نظرية يتم الاحتكام الى مصداقيتها من خلال الممارسة  التطبيق الفعلي والحقيقي على الواقع الموضوعي، والتي تعيد رسم صياغات جديدة للنظرية بشكل جدلي، وعلى حد تعبير الشاعر الألماني جوته الشهير الذي غالبا ما تتم الإشارة اليه في الادبيات الماركسية “النظرية رمادية ولكن شجرة الحياة خضراء”.

وقد عاد شبح الماركسية يخيم على أوروبا مع تصاعد حدة الأزمة الرأسمالية في 2008 وانهيار النظام المالي الرأسمالي واتساع التظاهرات التي شارك فيها الملايين من الطلبة والشباب من اجل الديمقراطية والتصدي لشرور الرأسمالية  المعولمة ولتحقيق العدالة الاجتماعية. ففي شباط 2009 مثلا تصدرت صورة ماركس غلاف مجلة التايمز الامريكية بينما نشرت مؤسسة بلومبيرغ المهتمة بأخبار المال ورجال الاعمال والسلع والتكنولوجيا  في آب 2011 تحليلا عن أهمية الاستفادة من ماركس لإنقاذ الاقتصاد الرأسمالي. وليس غريبا ان نرى هذه الدعوات مجددا بعد ان تعرض الاقتصاد الرأسمالي العالمي الى هزة كبيرة نتيجة  تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية و تزايد المؤشرات عن هشاشة النظام المالي العالمي الذي جاء نتيجة سوء الإدارة واستراتيجية استثمارات مالية فاشلة بغرض تحقيق أرباح طائلة على حساب المودعين، وتباطؤ نمو اقتصاديات العالم وازدياد معدلات التضخم يرافقها تدهور أوضاع الفئات الاجتماعية الوسطى الدنيا في أمريكا وبلدان الرفاه الاجتماعي.

والسؤال الجوهري الذي يواجه المهتمون بالجوانب النظرية والفلسفية في المنظومة الفكرية الماركسية هو: كيف يمكن الاستفادة من هذا التطور المتسارع للتكنولوجيا واتساع العالم الرقمي في تجديد وتطوير الماركسية بما يتماهى مع خصوصيات القرن الحادي والعشرين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

 فمثلا فلسفيا وظفت الماركسية المقاربة الجدلية  لدراسة نشوء وتطور المجتمعات والطبيعة والأفكار وتميزت بطابعها التطوري الارتقائي، بينما اليوم توفرت أدوات للبحث والتحليل غير مسبوقة تعتمد الذكاء الاصطناعي للتنقيب عن المعلومات الأكثر دقة التي يمكن أن يوفرها المجمع الرقمي الهائل للكتب والدراسات، والتي يمكن الحصول عليها عن بعد للوصول الى صياغات نظرية متجددة حول المراحل الانتقالية التي تسود مجتمعات العالم والعلاقة بين العام والخاص فيها خاصة على صعيد تأثيرها على البنية الطبقية وفي تحديد التقسيم والتمايز الطبقي فيها لأهميتها الاستراتيجية المرتبطة  بقضايا الثورة الاجتماعية والنضال من اجل تحقيق مجتمع عادل خال من الاستغلال والاضطهاد الطبقي.

ونعيش اليوم ظاهرة وجود مجتمعات تعتمد على تطبيقات رقمية تضم الملايين من المشتركين الذين ينشطون بفعالية فيها من اجل بناء عوالم افتراضية مثالية خاصة بهم. فعلى سبيل المقارنة، عندما أراد سان سيمون (1760-1825) الاشتراكي الفرنسي الطوباوي بناء مجتمعه المثالي المتخيل ذهب الى مصر، ولكن طوباويي اليوم، ومن الشباب بشكل خاص، يهرعون الى بناء مجتمعات افتراضية وهمية عبر الحاسوب او على التلفون الرقمي. والسؤال الجوهري هو ما الذي تعنيه هذه الظاهرة مجتمعيا  سياسيا،  ماهي الآليات والأدوات التي يمكن ان تنقل هذا العالم المتخيل الى العالم الواقعي.

ويأتي هذا نتيجة لاحد اهم متغيرات القرن الحادي والعشرين وهو التطور المتسارع لعمليات الاتصال والتواصل التفاعلية بين الأفكار والمعلومات التي تنتقل بين الافراد والمجتمعات وتأثيرها على بلورة الوعي السياسي والمجتمعي للمتلقي (الاغتراب، الاستغلال، الثقافة، المواطنة). واحد اهم انعكاساتها هو نوعية المراجعة التي يتوجب على الأحزاب والتنظيمات الشيوعية واليسارية  الاستفادة من فاعليتها كأدوات للتواصل والاتصال والدعاية  التحريض والتنظيم، تتدفق عبرها   الأفكار والصور الذهنية والى مسافات شاسعة وبلحظات، والتي بدأت تتضح  معالم فاعليتها في استخدامها من جانب الحركات الاحتجاجية الجديدة كأداة تواصل وتنظيم واعلام.

وسيأتي اليوم الذي تهتز فيه عروش الطغاة والدكتاتورية والفاشية من شبح ماركس وهو يتجول في الفضاء الرقمي.

عرض مقالات: