تدور نقاشات حامية اليوم ومنذ فترة إعلان التحالفات الإنتخابية قبل الإنتخابات الأخيرة لعام 2018 وبعدها، اكثر ما تدور حول موقف الحزب الشيوعي العراقي والخطوات التي اتخذها في التحالفات الإنتخابية والحوارات التي ساهم ويساهم بها الآن بعد الإنتخابات والمتجهة لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر المؤهلة لتشكيل الحكومة العراقية القادمة كنتيجة للإنتخابات البرلمانية الماضية بكل ما رافقها من انتهاكات وتجاوزات ومحاولات من قِبل كثير من الفاسدين الذين لفظهم الشعب العراقي حين ودعهم مصحوبين بلعنته ولعنة التاريخ .

ولكي نطرح الموضوع بكل صراحة وبلا تلاعب بالألفاظ او تأويلاً لمصطلحات ، لا يسعنا إلا ان نساهم في هذا النقاش من زاوية اخرى تتناول بشكل خاص الحملة التي يتعرض لها الحزب الشيوعي العراقي اليوم والتي يستهدف بعضها كيان الحزب لا سياسته من منطلق النقاش العلمي الموضوعي المفضي إلى متابعة المسيرة الوطنية التي تشكل الأساس المبدئي لكل السياسات التي انطلق منها الحزب منذ تأسيسه قبل اربعة وثمانين عاماً وحتى يومنا هذا . وحينما اقول هنا بعض النقاشات التي تستهدف كيان الحزب لا سياسته، فإنني اعني تماماً ما اقول لأميز بكل وضوح بين تلك النقاشات التي انطلقت من مواقع رفاقية او صديقة تجسمت فيها مشاعر وتوجهات الحرص على الحزب وعلى كيانه ومجمل مسيرته حيث تجسدت في هذه النقاشات وقبل كل شيئ الدعوة الى ممارسة النقد البناء لسياسة الحزب دون المساس بوحدته وكيانه وتاريخه الوطني. ومن هذا المنطلق اجد تفسي ، كمساهم في الحركة الوطنية العراقية وتبني الفكر الشيوعي لأكثر من ستين عاماً من عمري ، ان اكون في صف اولئك الذين لا يسمح لهم تاريخهم السياسي ومساهماتهم في بعض سياسة هذا الحزب العتيد ان يتعرض هذا التاريخ المجيد بكل انتصاراته وانتكاساته الى اللغط الذي يمارسه البعض والذي تحول الى مواقف ومواقع عدائية شامتة او مستهزئة بمجرد ان بدت بعض السُحب الداكنة التي لم تنقشع بعد والآيلة الى الإنقشاع لا محالة من سماء وطننا الذي يشكل الحزب الشيوعي العراقي نجماً لامعاً ومضيئاً ومتصدراً فيها .

حينما نناقش سياسة الحزب الشيوعي العراقي في اية مرحلة من مراحل نشاطه السري والعلني طيلة الأربع وثمانين سنة الماضية، فسوف لن نجد حزباً سياسياً عراقياً احرز من تجارب وتقلبات العمل السياسي من الخبرة والمعرفة اكثر من هذا الحزب. وسوف لن نجد حزباً سياسياً عراقياً حاول توظيف هذه الخِبر والتجارب في سياق العمل المنطلق من الوطن اولاً واخيراً وليس من اجندة حزبية او مصالح فئوية او توجهات لا تشكل المطالب الجماهيرية الآنية في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني. وهذا يعني بالضبط ان الإنطلاقة الوطنية البحتة والمصالح الجماهيرية الآنية هي التي فرضت على الحزب اتخاذ هذا الموقف او ذاك سواءً تعلق ذلك بالعمل مع القوى السياسية الأخرى او بالتعامل مع الحكومات العراقية المختلفة التي وجد بعضها في الحزب الشيوعي عدوها اللدود فسعت الى اعلن الحرب الشعواء عليه، او تلك التي تهادنت مع الحزب لفترة ما بغية الإجهاض عليه مؤخراً لشل عمله وتدمير تنظيماته. في كل هذه المراحل لم يتوان الحزب الشيوعي العراقي عن اقتناص اية فرصة يستطيع من خلالها التوجه نحو الإقتراب من تحقيق شعار الوطن الحر والشعب السعيد، حتى وإن اقترن هذا الإقتراب من بعض الإفتراضات والتكهنات التي تجعل من هذا الطريق مفضياً إلى غير الوجهة التي يتبناها الحزب. فالتوجه الوطني النقي الذي لا تشوبه شائبة المصالح الحزبية او العلاقات الشخصية هو الذي حدد المسيرة الحزبية التي لم يأت بعضها بتلك النتائج التي كان يتوخاها الحزب . فكيف يمكننا تفسير ذلك الفشل الذي كلف الحزب كثيراً وعلى مختلف الأصعدة ؟ هل نعتبر محاولات تقييم الفرص السياسية التي تصب في دفع المسيرة الوطنية الى ما يصبو اليه الشعب وما اردنا تحقيقه للوطن ، رغم تغيير وجهة المسيرة التي لم تساعدنا على تحقيق ما اردناه للوطن والشعب، خطأً كان من المفروض اجتنابه ؟ إن مثل هذا الرأي سيعني ان نتعامل مع العملية السياسية في وطننا معاملة الحذِر المتردد الذي ينتظر الضمانات الأكيدة لنجاح العمل الذي يقدم عليه ، خوفاً من الوقوع في الخطأ . اي اننا نحاول ان نتصدى لإبطال المقولة التي تشير إلى ان الوحيد الذي لا يخطاً هو ذلك الذي لا يعمل " مَن لا يعمل لا يخطأ " وبطلانها، فهل ان ذلك جائز في العمل السياسي وعلى ساحة سياسية معقدة كالساحة السياسية العراقية ؟

لقد مارس الحزب الشيوعي العراقي على كل ساحات النضال الوطني التي تصدرها لعقود من الزمن وقدم آلاف الضحايا من اجل ذلك، النضال المُشَرِف الذي يفخر به كل من ساهم حتى ولو بخطوة واحدة في تلك المسيرة الوطنية الشجاعة. وهنا تبرز اهمية المواقف التي يتخذها بعض المساهمين في هذه المسيرة الذين يتعرضون، للأسف الشديد ، لتاريخهم بالذات حينما يحاولون تحويل النقد البناء الذي يرحب به الحزب ولا يخشاه ، إلى عداء يتبنى النهج الذي يسيئ الى سمعة الحزب ونضاله وتاريخه بين الجماهير الشعبية ، خاصة تلك التي لم تزل متأثرة بإطروحات النهج الرجعي المتخلف الذي يحمل عداءً تاريخياً للحزب الشيوعي العراقي ونهجه الوطني المتميز .

المسيرة التي تبناها الحزب، خاصة في مؤتمراته الأخيرة التي عرض فيها مجمل وثائق سياسته المستقبلية تحت تصرف الجماهير لمناقشتها على العلن وابداء الرأي في محتوياتها لعرضها على المؤتمر بالصيغة التي تأخذ هذه المناقشات بنظر الإعتبار. الحزب الذي لم يجاريه حزب سياسي آخر في تاريخ العراق السياسي الحديث بالتطرق الى ممارساته السياسية في مختلف مراحل عمله وتقييمها استناداً الى التطور الذي مرت وتمر به الساحة السياسية واستخراج العبر السلبية والإيجابية منها. الحزب الذي لم يتخل عن الشارع العراقي وعن جماهيره في احلك الظروف التي مرَّبها وطننا سواءً اثناء تسلط الدكتاتوريات السياسية او التكتلات الطائفية التي جاء بها الإحتلال لوطننا، او اية صيغة اخرى من صيغ العداء الذي مورس ضد الحزب سواءً بالفتاوى الدينية المُجحفة او بتأليب بعض دعاة المنابر الذين لم يخجلوا من استغلال المناسبات الدينية التي يحترمها شعبنا للنيل من الحزب الشيوعي العراقي، اقوى واصلب المدافعين عن حقوق الفقراء والمظلومين والمضطهدين منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا. الحزب الذي واكب التطور العالمي الذي خاضه ويخوضه الفكر الإشتراكي التقدمي بكل ما تمخض عن هذا التطور من التراكمات التي لابد وان تقود الى التغيير النوعي في العمل الذي يخوضه الحزب والذي تجلى بصورة لا تقبل الشك في المؤتمر العاشر للحزب وكل ما تمخض عنه من سياسات يومية ومرحلية. الحزب الذي لم يضع غير الوطن والشعب كأساس وحيد لكل ما يتبناه من سياسات تفرضها ظروف المرحلة التي يمر بها. والكثير الكثير مما خاضه هذا الحزب الشيوعي العريق يتعرض، بطبيعة الحال، الى مواقف قد لا تتفق نتائجها مع ما كان يصبو ويخطط له . ولذلك اسباب عدة لا يمكن حصرها بتطور المرحلة السياسية فقط، بل وبكثير من العوامل المتعلقة بالقاعدة الجماهيرية التي يتعامل معها الحزب في المراحل المختلفة من عمله السياسي . إذ ان اي المواكبين لتطور العمل الجماهيري في وطننا لا يمكنه ان ينكر العوامل الإجتماعية المؤثرة على طبيعة العمل بين الجماهير التي تعاني منذ عقود كثيرة من مختلف وساءل القمع والتخلف والمرض والفقر والجهل ونشر ثقافات التعصب بمختلف اشكاله الطائفية والقومية والعشائرية والمناطقية ، إضافة الى بروز ظاهرة الإبتعاد عن العمل السياسي او حتى الإحجام عن المشاركة بالنضال من اجل المطالب اليومية الخدمية للناس ، كل ذلك جعل من العمل السياسي مشوباً بمشاكل وصعوبات جمة لا يمكن لأي حزب مهما بلغت قوته واتسعت جماهيريته ان يخوض النضال السياسي الجماهيري بمفرده لتجاوزها . وعلى هذا الأساس كانت المحاولات التي بدأ بها التيار المدني الديمقراطي في صيف عام 2015 والذي صاغها على شكل مظاهرات واحتجاجات ارعبت لصوص الإسلام السياسي الحاكمة، وهدت مضاجعهم حتى انهم لجأوا في كثير من الحالات الى القمع المسلح للمتظاهرين او اختطاف واعتقال بعضهم. لقد كانت هذه المحاولات التي ساهم بها الحزب الشيوعي العراقي بكثافة لا يمكن نكرانها، الطريق السليم لتجمع الجماهير للمطالبة بحقوقها، وبمرور الزمن استجابت جماهير اخرى لهذه المحاولات التي شكلت بالتالي حركة احتجاجية يُحسب لها حساب . هل كانت هذه التجمعات الجماهيرية الكثيفة التي اخذ كل منا يشير لها بكلتي يديه وبكل فخر واعتزاز عملاً خاطئاً لأنه لم يتبلور إلى بعد آخر غير البعد الذي تمخض عنه بتكوين احزاب سياسية جديدة ومن ثم تحالفات انتخابية خرجت ببرنامج لا يمكن ان يقال عنه بانه لا يعكس ما تتطلع اليه الجماهير من اصلاحات وتغيير في بنية العملية السياسية القائمة على المحاصصات الطائفية والقومية الشوفينية والمناطقية المقيتة والمتنكرة للهوية الوطنية ومبدأ المواطنة اساساً ؟

إن ما يؤلم حقاً ليس ما يطرحه المناوئون اصلاً للحزب بوجوده كقوة سياسية تتصدر اليسار العراقي لمواجهة الفكر المتخلف المتاجر بالدين تارة وبالقومية الشوفينية تارة اخرى وبالعشائرية من جانب والمناطقية من جانب آخر، والذي مهد للسياسة الحمقاء التي مارسها خلفاء البعثفاشية المقيتة ولإنتشار المنظمات الإرهابية على اراضي وطننا وممارستها القتل والإختطاف والتهجير لأهلنا في مناطق مختلفة من وطننا. لا ليس هذا ما يؤلم من خلال تعرض الحزب الشيوعي العراقي لحملات هؤلاء ولا لمنابرهم التي سخروها للحث على قتل الشيوعيين كامتداد لفتاوى من سبقوهم من رواد الفتنة الطائفية والسياسية معاً. إن ما يؤلم حقاً هو ان يتجه بعض الرفاق والأصدقاء الذين لم يزالوا يحتفظون بمواقعهم في صفوف اليسار العراقي ليشكلوا جبهة عداء للحزب الشيوعي العراقي متخذين من بعض المواقف التي لا يتفقون بشأنها مع سياسة الحزب في الوقت الحاضر تبريراً يتيح لهم الإستمرار في تبني مثل هذه المواقف العدائية الشامتة ، بالرغم من استمرارية الغموض الذي ينتاب الساحة السياسية العراقية التي استولى عليها ساسة المحاصصات مرة اخرى والتي تتجه في كثير من مؤشراتها الى توجه الحزب لمناقشتها بغية اتخاذ القرار الأخير بشأنها . فلِم هذا التطير واستباق الأحداث لا لشيئ إلا لمجرد إثبات عدم صحة او خطأ هذا التوجه او ذاك فيما يتعلق بالمشاركة او عدم المشاركة في الإنتخابات الأخيرة، او فيما يتعلق بالتحالفات التي تمخضت عن الحراك الجماهيري، او بالنتائج التي ترتبت على هذه الإنتخابات ، او غير ذلك من الأمور التي تعج بها تقلبات الساحة السياسية العراقية المعقدة والمليئة بالألغام الموقوتة.

إن الموقف الوطني الصادق الآن وفي خضم هذه الظروف السياسية البالغة الصعوبة يتجلى من خلال عدم النظر إلى الأشخاص او الى السياسة الآنية المرحلية التي يتخذها الحزب الشيوعي العراقي في الوقت الحاضر ، بل بالنظر الى التاريخ النضالي لهذا الحزب الذي تدور عليه الدوائر من كل حدب وصوب والذي ينتظر اسناد وتأييد الرفاق والأصدقاء مع الإحتفاظ بحق النقد والمعارضة وتصحيح المواقف بالشكل الذي لا يجوز ان يرى فيه اعداء الحزب وكأنه حملة عداء يهللون لها في محافلهم التي لا تتوانى عن جعل هذه الحملة ذات ابعاد يريدون من وراءها إضعاف العمل الجماهيري للحزب وتحجيم قابلياته التنظيمية وبالتالي الإجهاض على دوره السياسي .

إنها دعوة مخلصة لكل اليسار العراقي بان يعي خطورة المرحلة التي يمر بها هذا اليسار وما يبيت له دعاة المنابر وببغاوات الفتاوى التي تتناول اليوم الشيوعيين بالإسم لتجعل من حملتها هذه بداية الإجهاض على الفكر التنويري اليساري الذي يتصدى لحساباتهم ومخططاتهم التي لا تصب في مصلحة اهلنا ووطنا بأية حال من الأحوال ، وما اعربوا عنه من اجندات وارتباطات مع قوى اقليمية ودولية يشير الى ذلك بكل وضوح .

لا احد يقف ضد النقد البناء ومحاولة التقويم في هذا الموقف او ذاك ، إلا ان هذا النقد ينبغي له ان ينبثق من الحرص والإخلاص للقضية الوطنية والمفضي الى تحقيق آمال وطننا وشعبنا في الحرية والسعادة.

 

عرض مقالات: