هناك تشخيص عام من ان ثورة أكتوبر الروسية في 1917 كانت احد اهم احداث القرن العشرين لما تركته من متغيرات  جذرية عالميا  وصل صداها الاشتراكي الى جميع انحاء المعمورة ومنها العراق والمنطقة العربية وحفزت تكوين تنظيمات شيوعية ويسارية قادت النضال الوطني من اجل التحرر والخلاص من الاستعمار الغربي المهيمن على معظم بلدان العالم خاصة في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية  وضد الطغم البرجوازية الحاكمة المتحالفة مع قوى الاستعمار الدولي.

ومن الجانب الجيوسياسي العالمي وبعد قيام الاتحاد السوفيتي تكونت ديناميكية بنيوية جديدة حددت الاتجاهات الرئيسية لتطور العالم في القرن الماضي المتمثل في تكون القطبين الاشتراكي والرأسمالي. ولأول مرة حظيت الشعوب خاصة الهادفة الى الانعتاق من نير الاستعمار الامبريالي بدعم سياسي ومساعدات اقتصادية من اجل بناء عالم لا مكان فيه لاستغلال الشعوب ويسوده السلام و ينهي مخاطر الحرب النووية وحيث يقف العالم اليوم على شفا الهاوية منها.

وقد حظيت الثورة باهتمام متميز من اصدقائها واعدائها ازداد مع اشتعال الحرب الباردة منذ خمسينيات القرن الماضي خاصة في الدروس التي يمكن استخلاصها كونها اول ثورة اشتراكية انهت سلطة اوتوقراطية حاكمة من منظور التكتيكات والاستراتيجيات التي استخدمها البلاشفة (الجناح الأكثر جذرية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي والذي قادة الثوري الروسي الشهير لينين وكان الجناح اليميني في ذات الحزب يسمى المنشفيك) منذ نهاية الحرب العالمية  الأولى ولغاية انتصارها في أكتوبر 1917 حيث دشنت بداية مرحلة انتقالية صوب الاشتراكية. وحظي أيضا وباهتمام اكبر تقييم مسيرة الاتحاد السوفيتي والأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال نموذج «الاشتراكية القائمة» في بداية 1991.

 وقد ناقش واقر المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي (2007) وثيقة تقييمية هامة تثير ملاحظات واستنتاجات نقدية بعنوان «خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية» تعتبر مدخلا جيدا لمواصلة الجدل النقدي لهذه التجربة الهامة في التاريخ السياسي العالمي الحديث.

ولم تأت ثورة أكتوبر كحادث عرضي بل جاءت نتيجة الظروف الموضوعية التي  تبلورت داخل المجتمع الروسي في المدن والارياف وجعلت من روسيا اضعف حلقة ومهيئة للثورة بانتظار نضوج العامل الذاتي نتيجة المآسي البشرية الهائلة التي خلفتها الحرب من نقص في الغذاء وانعدام مستلزمات الحياة للملايين من الروس. فشهدت المدن إضرابات واعتصامات واسعة تصدت لها الأجهزة القمعية للنظام القيصري الروسي بوحشية كما حدث على سبيل المثال في 1905.

ومن الانتقادات التي وجهت الى الثورة الروسية انها شكلت خرقا لقوانين التطور الاجتماعي في محاولة  فرض بناء الاشتراكية بدون المرور بالمرحلة الرأسمالية حسب الصورة الخماسية الأوروبية لأنماط الإنتاج  كون روسيا القيصرية في بدايات القرن العشرين نظاما اقطاعيا مستبدا يعتمد على نظام القنانة في الريف  مع ظهور قطاعات صناعية محدودة في المدن الكبيرة تكونت فيها طبقة عمالية نشطة، لان الرأسمالية تحقق نضجا في القاعدة المعتمدة على تطور القطاع الصناعي وتؤدي الى تكامل البنية الطبقية للمجتمع الذي يهيئ للقاعدة المادية للمجتمع الاشتراكي.

وقد ظهر هذا النقد حتى قبل ثورة أكتوبر، فمثلا في بداية القرن التاسع كانت مطاليب الاحزاب الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية في روسيا القيصرية تتلخص بضرورة عدم إعاقة التطور الاقتصادي الاجتماعي نحو الرأسمالية ووقفت ضد مشروع التيار البلشفي داخل  الحزب الديمقراطي الاشتراكي الروسي لإصراره  على مواصلة الثورة حتى اسقاط النظام القيصري.

وبعد انتفاضة 1905 في روسيا والتي قمعت بقسوة من قبل حكومة القيصر بأطلاق النار على المتظاهرين وتصاعد الضغط الشعبي تم تعيين بيوتر ستوليبين (1862-1911) كرئيس للوزراء و الذي قام باجراء إصلاحات في الريف لتعزيز العلاقات الرأسمالية فيها عبر انشاء طبقة من الملاكيين الصغار ولكن على الرغم من الدعم الحكومي لم يستجيب لها الا  10 في المائة من مجموع الفلاحين، وانتهت هذه المحاولة الإصلاحية عقب اغتيال ستوليبين.

وقد اعتمد البلاشفة في رسم التكتيكات على الظروف الملموسة لتطور الوضع الثوري في روسيا، وأيضا من القناعة بعدم وجود وصفة جاهزة لقيام الثورة بسبب تنوع وغنى البنية الطبقية للمجتمعات. ومن هنا فان ذلك النقد هو نتاج  تحليل يفتقر الى القراءة المعمقة لتطور التكتيك والاستراتيجيات التي اتبعها البلاشفة. فمثلا كان موقف حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بشأن البنية الطبقية في روسيا كونها تختلف عما في البلدان الاوروبية المتقدمة صناعيا مثل بريطانيا والمانيا وان من الخطأ استنساخ تجارب الشعوب الأخرى حرفيا بل الاستفادة منها لرسم وتنفيذ متطلبات تحقيق الثورة مع التأكيد على ان المرحلة الانتقالية ستكون ذات طابع برجوازي ديمقراطي. كما جرى التصدي فكريا أيضا لما طرح من قبل بعض قادة البلاشفة مثل تروتسكي (1879-1940) الذي قاد تيارا يدعو لانتظار نضج الظرف الموضوعي لحين انتصار الاشتراكية اوروبا، وكان ذلك في مواجهة ما دعا اليه فلاديمير اليتش اليانوف المعروف باسم  لينين (1870-1924)   وقدم موضوعة» الاشتراكية في بلد واحد تأكيدا على خصوصية الظروف  الاجتماعية في روسيا القيصرية.

هذه الخصوصية في الوضع الروسي جاءت على أساس دراسة الواقع السياسي والاقتصادي بعد 1905 وحالة الاصطفافات الطبقية العميقة بعد شباط 1917  وبالنشاط المتصاعد للطبقة العاملة في المدن وتحالفها مع الفلاحيين والجنود وفشل أحزاب البرجوازية اليمينية في طرح بدائل حقيقية لأنهاء معاناة الشعب الروسي والذي اعطى أهمية لضرورة مواصلة الثورة وعدم الانتظار لنضج العلاقات الرأسمالية كما رأى بعض الماركسيين مثل كارل كاوتسكي (1854-1938) أو بليخانوف (1856-1928)  الامر الذي دعا البلاشفة الى خوض نضال فكري ضد الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية التي خانت قضية الثورة بدعمها القرارات العسكرية لحكوماتهم بدلا من تحويل الحرب الى ثورات وانتفاضات وحرب اهلية مسلحة ضد النظم البورجوازية. ومن التجارب الرائدة في الثورة هو تشكل المجالس العمالية التي انضمت اليها لجان الجنود الثورية في المدن الروسية وعرفت بالسوفيتات، وأصبحت تقود الإدارات المحلية بعد تنازل القيصر عن العرش وتشكل حكومة مؤقتة بقيادة حزب الكاديت اليميني الدستوري السلطة والتي سرعان ما سقطت بسبب عجزها عن تحقيق المطاليب الشعبية واعقبتها حكومة ائتلافية شارك فيها البلاشفة الى جانب احزاب اخرى. وبدأ التحضير للقيام بالثورة باستخدام كافة أساليب النضال بسبب تعمق الازمات الاقتصادية وعزلة الحكومة المؤقتة وغياب هيبة ودور للدولة وانعدام الامن ونشأت ازدواجية في السلطة بسبب تعاظم دور السوفيتات. وتضمن كتاب «موضوعات نيسان» الذي كتبه لينين (4 نيسان 1917) برنامجا للثورة القادمة واثار جدلا حتى تحول الى سياسة رسمية بعد مصادقة كونفرنس الحزب عليها والذي عقد في 7 أيار 1917، وبعد حصول البلاشفة على الأغلبية في السوفيتات ورفع شعار»كل السلطة للسوفييتات» وتبني خيار الانتفاضة المسلحة لاستلام السلطة  بعد قيام الحكومة بأطلاق النار على تظاهرة سلمية للعمال والجنود في مدينة بتروغراد والشروع بحملة اعتقالات واسعة للبلاشفة اعقبها قيام أحد جنرالات الجيش بمحاولة انقلاب مستغلا ضعف وعجز الدولة والتي فتحت الطريق امام البلاشفة للشروع بثورة أكتوبر التي حسمت خلال أيام ولم يسقط خلالها أكثر من 200 قتيل.

من هذا التسلسل يبدوا واضحا ان الثورة جاءت نتيجة تراكم عوامل اقتصادية اجتماعية ونشاطات ثورية وليس مجرد عمل انقلابي فوقي قامت به نخبة مغامرة من الثوريين. ومن الملاحظ ان  القائد الماركسي الإيطالي أنتونيو غرامشي (1891-19737) اعتبر أكتوبر نقضا للنمطية في التمرحل التاريخي مؤكدا  على دور الوعي والنضج السياسي للجماهير الروسية عندما تخطتها عند توفر العوامل الموضوعية والذاتية لان العملية الثورية تسير في طرق في غاية التعقيد في كل بلد حسب ظروفه.

 

عرض مقالات: