الوقت يمضي ويكاد أن يتجاوز الانتظار المعتاد والدليل لم يعدْ من الاستطلاع. أنه تأخر! مَرتْ ساعة من الوقت ولم يعدْ! سَاورَ الرفيق سعيد بعض القلق فأسرَّ لشقيق الدليل: أنه تأخر!  شقيقه همس لسعيد ليطمئنه: بأن (أبو إحسان) لا بد أن يكون على وشك العودة، وعزا سبب تأخيره إلى الزيادة في الاستطلاع والمراقبة والتأكد لضمان سلامة العبور وخاصة معنا البغال.

 بدء الظلام يزحف رويداً رويداً على الوادي والمنطقة، وقلوب كل المجموعة ملأى بهواجسٍ مختلفة والقلق يساور الجميع، هذا التأخير غير المعتاد مثير للتوتر بين مجموعته وبدأت الوسوسة بالتسرب حتى إلى مشاعر واحاسيس شقيقه أحمد. تجلت بعدم سكونه واضطراب حركاته المتوترة، وكان الكل في لحظته يتمنون إيقاف الزمن والظلام لحين عودة الدليل من الاستطلاع، بدء سواد الليل يداهمهم والظلام يشتد ومرت ساعة ونصف ولم يعد، وليس من الطبيعي ان يستغرق وقت التأخير في العودة الى طرفهم كل هذا الوقت، مضتْ أكثر من ساعة ونصف. عند وصول الرفيق سعيد مع رفاقه إلى الوادي قبل غروب الشمس. قيل له (أبو إحسان) مرابط هناك منذ ساعات، ومسافة الطريق بين الوادي ومكان الاستطلاع أقل من نصف ساعة سيراً، كان السكون سائداً على المنطقة منذ المساء ولم يسمع أحد أي شيء غريب، المنطقة مازالت هادئة، سوى سماعهم بين حين وأخر دوي أصوات الشاحنات على الطريق الدولي بين العراق وتركيا. انتابهم القلق عليه، بدأت الخواطر الثقيلة والمحزنة تعتري الكل. أستفسر سعيد من شقيق (أبو إحسان) فيما إذا كان شقيقه يعاني مرضاً مزمناً كالقلب أو ما شابه ذلك، أجابه بالنفي، فلم تبق في اليد حيلة. بات عليهم تقصي أثره. ماذا حل به؟ اختار الرفيق سعيد واحد من مجموعة الدليل لأخذه معه. أسمه بهزاد، ولديه معرفة جيدة به ويطمئن له وهو من أقرباء أبو إحسان. وبهزاد يعرف أيضاً المكان الذي يفترض الاستطلاع منه، وكذلك أخذ معه الرفيق فارتان للتوجه نحو مكان الاستطلاع، حاول (أبو ليلى شقيق أبو إحسان) الذهاب معهم إلا أن سعيد منعه وطلب منه البقاء مع المجموعة (بحجة) قيادته لهم، غير أن سعيد كان يهدف من وراء منعه هو خشية أن يرى شقيقه قد حدث له شيئاً ما ويصاب بهستيريا ويقوم بحماقة ما ضد المخفر التركي لا تحمد عقباها. ذهب (سعيد وفارتان وبهزاد) وساروا في الظلام وسط المزارع والحشائش الطفيلية اعتمادا على إضاءات النجوم الساطعة في السماء بين فتحات السحب. كانت السماء غائمة جزئياً، لا يعرفون كم استغرق الوقتُ للوصول إلى المكان ربما أستغرق أكثر من نصف ساعة لصعوبة إيجاد الطريق في الظلام من جهة، والحذر من المخفر الحدودي من جهة أخرى. وصلوا المكان وقد عم عليه السواد لكنه شبه مرئي بعد أن اعتادت عيونهم الظلمة تباعاً، المكان الذي  يفترض الاستطلاع منه يبعدُ حسب  تقدير الدليل بهزاد  مسافة أقل من ربع ساعة سيراً على الأقدام من برج المراقبة ( لا يمكن الركون إلى دقة تقديرات الأدلاء  للمسافات)، وكانوا قد تجنبوا استعمال التورجات اليدوية في المناطق الحدودية، أجالوا  النظر في المنطقة لم يجدوا شيئاً، ساروا  ووصلوا إلى التل، عند حافة التل صاح بهزاد (آبو محمد ـ يعني عمو  محمد) لا أحد يجيب، قال بهزاد: هناك حُفَرٌ على التل، يمكن أن يكون جالساً في واحدة منها، وقد يكون نائماً بعد هذه الساعات من المراقبة والانتظار، هَمَّوا  بالتسلق نحو قمة التل بحذرٍ وهم يستعينون بأطرافهم، بدءَ  بهزاد يسرع و يسبقهما، نادى عليه سعيد بصوت منخفض: تَمهلْ إلى أين ذاهبٌ أنتَ ؟ أجابه بهزاد: أرى هناك على حافة الحفرة قطعة سوداء، تقربوا منها، انه (أبو إحسان) مطروح على حافة الحفرة كأنه أراد الخروج منها ومكور كمن يعاني من المٍ في بطنه. بندقيته وناظوره مرميتان إلى جانبه لا حركة فيه ولا نفس، أشعل بهزاد قداحة وقلبه على الظهر. كان مفتوح (الفم) كمن كان يريد ان يصرخ وعلق الصراخ في حنجرته ولم يلاحظوا بلمس اليد أي شيء أخر. سحبوه مسافة نحو خلف التل. مد سعيد يده اليمنى على صدره لاحظ بقعة صغيرة وطرية على صدره في الطرف الأيسر. لم يستطع تميزها في ذلك الظلام، لا أثر لأي شيء سوى بقعة صغيرة لزجة لم تأخذ مساحة واسعة حولها، قال سعيد: إنه دم! سحبوهُ إلى خلف التل أنه منتهٍ، ولا يعرفون أي سبب لوضعه. إذا كانت طلقة أين هي وأنه كان على مسافة بعيدة نسبياً من المخفر، هل داهمه أحد وهو في هذه الحفرة وأجهز عليه؟ وهل أصيب في مكان أخر وأوصل نفسه إلى الحفرة؟ جالت في رؤوسهم احتمالات كثيرة ومثلها من التساؤلات... لا يستطيعون حمله من هناك إلى الوادي. طلبَ سعيد من بهزاد البقاء عند جثة (أبو إحسان) ورجعا هو وفارتان إلى الوادي، طلب سعيد من فارتان عدم ادلاء بأي حديث مع المجموعة، طال طريق العودة بهما إلى الوادي أقل من ساعة لصعوبة إيجاد ممر السير وسط الظلام والأشواك البرية، عندما وصلا الوادي تدافع عليهما المجموعة ملهوفين لسماع ومعرفة ما جرى، أَحْجمَ الأثنان عن قول حقيقة استشهاده، فقط اخبرهم سعيد بان (أبو إحسان) مريض وتعبان، كلفَ أثنين من مجموعته بأخذ واحد من البغال والذهاب لجلب (أبو إحسان)، أراد شقيقه الذهاب معهم منعه الرفيق سعيد بحجة أنه بحاجة له هنا، في الحقيقة كانت مخاوفه أن تخور قواه عندما يرى شقيقة جثة هامدة مطروحة على الأرض ويرتكب حماقة مع المخافر التركية، إلا أن سعيد أَطْلَعَ رفيقيه  سلام وخالد بحقيقة استشهاده وكتم الأمر عن الأخرين من مجموعة (أبو إحسان) وأَبلَّغَهم بفشل العملية لا غير، ومن ثم كلف افراد المجموعة بنقل الحمولات من على ظهور البغال إلى السيارة، بعد ساعة ونصف وصل الثلاثة ومعهم جثة الشهيد محمد حجي خليل على البغل، انزلوها ووضعوها على الأرض، وقف شقيقه (أبو ليلى) جامداً في محله، صامتاً ومذهولاً لبعض الوقت ومعه زملائه، وساد الصمت المطبق المكان. لا صوت سوى أزيز الحشرات، كلهم مذهولون. لا أحد يتجرأ التقرب من السيارة لإنارة مصابيحها. الجميع واقفون في سواد الليل لا ينير المكان إلا الإضاءات الآتية من النجوم، العتمة تخيم على الوادي أنها لمحنة قاسية وصادمة. تقرب سعيد من السيارة وقام بإشعال أضويتها، أُنير المكان وللصدفة كان جثمان الشهيد ممتداً على الأرض أمام انارة مصابيح السيارة، آنذاك فوجئ أحمد حين وقعت عيناه وسط الضياء، ولأول مرة على جثة شقيقه جاثية مكشوفةً أمامه على الأرض والكل واقفون على شكل حلقة عفوية حول الجثة. وفجأةً ضرب جبهته بيده وأجهش بالبكاء، أما الباقون لبثوا واقفين بوجوهٍ واجمة أمام هذا المشهد التراجيدي، لا يعرفون ما الذي عليهم فعله، أنكب أحمد وهو يولول على وجه شقيقه وصار في حالة أشبه بالهذيان، وأستدار برأسه يميناً وشمالاً يبدو أنه كان يبحث عن بندقيته (يظهر أن الرفيق فارتان ألتقط بندقية أحمد من الأرض عندما رماها أثناء انكبابه على جثة شقيقه)، وعندما أفتقد بندقيته ولم يجدها مد يده بغتة ليمتشق بندقية واحد من مجموعتهم، إلا أن ذاك منعه ومسكه وأخذه بحضنه خوفاً من أن يتجه نحو الحدود، عندئذٍ بدأوا الواحد تلوَ الأخر التقرب منه واحتضانه وأخذه بين أذرعهم لتخفيف هول الصدمة من عنه، لكنه لم يكف عن البكاء وأبكى قسماً من الأخرين معه، وبعد أن خفت شدة بكائه جثا على ركبتيه  بجوار شقيقه يبكي تارة و يهمهم مع نفسه كلمات متقطعة تارة أخرى، كانت الهموم قد اثقلت قلوب الجميع، ولم يكن حزن سعيد ورفاقه أقل من الأخرين لأن أغلب العاملين في محطة القامشلي يعرفونه وكان الشهيد يتردد دائماً على مكتب المحطة، فهو إنسان شهم وجريء ومخلص للحزب الشيوعي.    

 طلب سعيد من خالد التصرف بنقل البغال وقسم من مجموعة المهرب باتجاه المالكية (ديريك) إلى واحدة من القرى بهدوء ودون ضجيج لتَّخبئَة فشل العملية وتلافي تداعياتها وعدم إخبار أيّ أحد عن ما جرى، ثم وضعوا جثمان الشهيد في سيارتهم مع شقيقه (أبو ليلى) وبعض من رفاقه، وكذلك الرفيقان فارتان وسلام وذهبوا إلى قرية ( المانشوطية) هناك اقربائهم وطلب من شقيقه الكف عن البكاء ووضع الجثمان في بيت أحد أقربائه هناك ليوم غد، وقال له سعيد :" غداً صباحاً سأكون عندكم هنا " وطلب منه عدم أخبار أحد والتروي في الحديث ليوم غد. تركوهم في القرية. رجع سعيد ورفاقه إلى القامشلي، ترك الرفيقين سلام وفارتان في البيت. ذهب بوجهه مباشرة إلى بيت الدكتور محمد شيخو (الكادر القيادي في الحزب الشيوعي السوري ومسؤول هيئة الأطباء للحزب في محافظة الحسكة) الوقت كان قريباً من منتصف الليل، وباب بيته وعيادته كانا على الدوام مشرعين أمام الرفاق العراقيين في أية ساعة يحتاجونه. فتح الباب واعتذر منه الرفيق سعيد على ازعاجه في هذه الساعة، قال له الدكتور: عادي لا تشغل بالك، وسأله الدكتور: خير؟ (يعني هل هناك مشكلة) فأفضى له كل ما جرى معه وبالتفصيل مكان الجرح ولم يعثر على أي شيء داخل الجرح وكذلك جنسية المهرب ...الخ

 ـ قال الدكتور محمد: يظهر أن الرصاصة التي اصابته كانت آتية من مكان بعيد بحيث فقدت القدرة على اختراق عظم الترقوة وعندما اصطدمت به نزلت مباشرة على القلب لو كانت آتية من مكان قريب كان بإمكانها اختراق عظم الترقوة والخروج من الظهر وآنذاك قد لا تكون قاتلة، وأضاف ما العمل هذا هو قسمته.

 ـ وأضاف الدكتور: طالما هو تركي الجنسية وقتل على أيديهم، من رأي تكليف أهله وأقربائه بدفنه في قرية اقربائه وغلق الموضوع، حاولوا مساعدة أهله مادياً وبعدوا أنفسكم عن الموضوع قبل أن يتحول إلى مشكلة آنذاك تكون تداعياتها مكلفة، واعتبروها مصادمات بين المهربين وحرس الحدود، عشرات من المهربين يقتلون في الحدود وهذه عادية بين الدول وهي مهنة محفوفة بالمخاطر، وهذا ما كان يجول في خواطر سعيد أيضاً.

 رجع سعيد إلى البيت، وقد جفاه النوم وعسف به الأرق تلك الليلة ولم يذق طعم النوم ولا دقيقة واحدة حزناً على هذا المهرب العتيد والمخلص والذي كان في تركيا قبل الانقلاب العسكري سنداً للرفيق( محمد شيرواني ـ أبو علي التركي) اثناء وجوده في محطة       ( نصيبين ) التركية لاستلام الرفاق الذين يسافرون من القامشلي، وبعده على الحدود، كان استشهاده خسارة لمحطة النقل في القامشلي  بطريقةٍ لم تخطر على البال ( عندما تخسر مقاتل واحد مفجع، لكنك عندما تخسر مهرب مثل هذا الشخص يعني أنك تخسر مئات البنادق وخلفها مئات المقاتلين).

 في اليوم الثاني اسرع سعيد إلى قرية ( المانشوطية) وأتصل بأخيه أحمد وأقربائه الأخرين وشاركهم دفنه وقدم لهم مبلغ من المال لمصاريف الدفن وإقامة مجلس العزاء له. وأقيم له مجلس العزاء في قرية (سرم ساخ) صادف اليوم الأول للعزاء عودة الرفيق جلال الدباغ من سفره وحضر مجلس العزاء مع الرفيق سعيد. كان بذمة الشهيد مبلغ من المال قد أودعه عنده في وقت ما الرفيق (أبو علي التركي) قبل اعتقاله في تركيا، وتصرف به الشهيد فكان المبلغ يستقطع من الشهيد في كل وجبة عبور الرفاق، استحصل الرفيق جلال الدباغ موافقة الحزب على إعفاء الشهيد من ما تبقى من المبلغ بذمته وقُدمتْ لعائلته مساعدات شهرية لفترة.

  وهكذا طويت صفحات هذا الدليل والمهرب المحنك والمقاتل الشجاع محمد حجي خليل. له المجد والخلود ولروحه السلام الأبدي.

...يتبع

عرض مقالات: