ماذا حلت بالمغرزة التي عبرت مع البغال والتي عهدت بها إلى المهرب حامد (حامو) وتعرضت لأطلاق النار من قبل حرس الحدود التركي ليلتها؟  قبل الاستماع إلى شهادات بعض الرفاق الذين كانوا ضمن المفرزة، وكذلك رفاق العاملين في محطة الحزب في جبال تركيا، عن الأهوال التي عصفت بها تلك الليلة وفي اليوم الثاني. أود هنا ألقاء إضاءة على ملابسات وتداعيات تلك الليلة والأيام التي تلتها في الجانب السوري؛ من خلال ما ظلت عالقة في ذاكرة الرفيق سعيد عنها.  

 يقول سعيد: كما أوعدتك في المرة السابقة أن أحدثك عن الصعوبات والإعاقات التي أحاطت بعملنا وأترك النجاحات لأنها استدلت على نفسها من خلال الأطنان من الأسلحة المتنوعة والمواد الأخرى التي وصلت بجهود جميع الرفاق إلى مقرات الحزب؛ فبين كل خمس محاولات كانت أربعاً منها ناجحة وخامستها مخفقة: فلا بأس أن أتحدث في هذه الحلقة والحلقات الأخرى عن تلك الخامسة.

بعد يومين أتصل بنا (جهاد) مسؤول حزب ( پيشنك) في القامشلي وأخبرنا: أن المفرزة مع البغال التي كانت بعهدة المهرب (حامو)  قد اصطدمت ليلة عبورها بكمائن لحرس الحدود التركي وأن (حامو ومجموعته) تركوا البغال والرفاق أثناء تعرضهم لإطلاق النار وهربوا؛ وتشتت المفرزة واستطاع رفاقنا (پيشنك) مع رفاقكم من انتشال عشرة بغال من مجموع ثلاثة عشر بغلاً، ومساء اليوم الثاني ألتأم شمل رفاق المفرزة ولا وجود للخسائر بينهم.

 ويسترسل سعيد في سرده: ملأنا خبر عبور رفاق مفرزة الطريق بسلام غبطةً وفرحاً وكان هو الخبر الأهم الذي كنا بلهفة لسماعه؛ لكن بقي الخبر مشوشاً لآننا ارسلنا أحد عشر بغلاً فكيف أصبح ثلاثة عشر؟ فأصبتُ بالدهشة! كيف أفكُ هذا اللغز؟ هل تحايل علينا المهرب وأستغل وجود المفرزة معه فأدخل بغلين مع بغالنا وأشخاصاً أخرين مع مفرزتنا؟ لم أتحامل عليه لهذا السبب فحسب، بل لتركه هو ومجموعته لرفاقنا وحنثه بالاتفاق الذي بيننا ولم يحافظ على الأمانة التي أؤتمن عليها، تريثتُ في اتخاذ أي قرار قبل معرفة الخبر اليقين، ولم انح باللائمة على أحد لحين وصول المعلومات الدقيقة من رفاقنا في الجانب التركي، واللقاء الحتمي والمُنتظر مع (حامد) بعد عودته إلى الجانب السوري. وصلتنا فيما بعد ما تؤكد صحة " جانب " من تلك المعلومات الأولية. وبعد حوالي أسبوع رجع حامو إلى الطرف السوري وجاء إلى مكتبنا في (المالكية) وحده وكان معي خالد سليمان وفارتان و(فهيم ولازكين وهما من حزب كوك، كتمتُ عليهما إرسالنا الحيوانات مع حامو) أستاذننا الأخيران بالذهاب، عند الباب همسني فهيم بأن حامو إمكانياته جيدة لكنه حرامي! 

  يستمر سعيد في سرده: بقينا نحن الثلاثة معه، فطالب مزهواً بالأجرة المتفق عليها! تمالكتُ نفسي ولم أنبس بكلمة واحدة لشدة حنقي عليه. بعدئذٍ،  قلتُ له: أنكم لم تنجزوا العملية وكان عددكم أربعة اشخاص ونحن اتفقنا أن تكونوا ثمانية، وجئتَ ببغال أخرى وأدخلتها مع بغالنا بدون علمنا؛ لمن تلك البغال؟ ومن هم هؤلاء الأشخاص الذين كانوا مع تلك البغال؟ ومن ثم هربتم وتواريتم عن المنطقة وتركتم الرفاق بكل بساطة وحدهم وليس لهم أية معرفة بالمنطقة، ولم تبحثوا عنهم نهار اليوم الثاني؛ ولولا شجاعتهم وبسالتهم لكان من الممكن أن يكونوا ضحية لذعركم وفزعكم؛ وضاع وأحد من بغالنا أيضاً مع حمولته، والآن جئت للمطالبة بالأجرة؟ أليس هذا عار عليكم وهل هذه الرجولة؟ ... أستشاط غضباً من كلامي؛ وسحب حسرة آهٍ من أعماقه وكأنني أوقدتُ جذوة مرارة في داخله؛ وركز نظره بوجهي وشرارات النار تكاد أن تتطاير من عينيه وقال: نحن لم نكن جبناء قاتلنا أيضاً، ولم نجلب بغالاً أخرى. إنها بغالكم فقط، وإذا وجدتْ بغالاً أخرى في نفس المكان وأشخاصاً أخرين فقد تكون الصدفة ولم نتفق مع أنحن كنا (8 أشخاص وليس 4) ولم نترك رفاقكم أثناء الرمي، انأ قلتُ لهم لا يمكن العبور إلا إذا بدئنا نحن في الرمي في سبيل تغطية عبوركم وعندما نبدئ بالرمي أعبروا مع الحيوانات بالسرعة ونحن ننسحب وراءكم، وأبطأ في سرده لروايته وبعد دقائق من الصمت، واصل حديثه قائلاً: ولم نستهدف في الرمي قتل العسكر وإنما تخويفهم كي لا يرموا علينا، وبعد أن عبرَ الكل مع الحيوانات وأثناء بدئنا بالانسحاب خلفهم بدء العسكر من الكمائن بالرمي علينا وعبرنا الطريق الدولي تابعتنا المدرعات وبدئوا بإطلاق النار علينا، هناك تفرقنا كل مجموعة باتجاه وضلّلنا بعضنا البعض؛ بقينا نحن لحالنا ( المهربين) فخبئنا  أنفسنا بين المزارع والجداول في المنطقة بين شارع انابيب النفط ونهر دجلة وبقينا الليل كله هناك؛ وقبيل الفجر أوصلَّنا أنفسنا إلى نهر دجلة وعبرناه، وكنا نعتقد أن رفاقكم مع البغال قد وصلوا أيضاً... وأضاف: هذا الذي حدث. لم نصدق روايته، ناهيك عن يقيننا بتلكؤهم وتقاعسهم وتنصلهم من مسؤولية المهمة التي أُلقيت على عاتقهم. وهي مرافقة المجموعة إلى المكان المتفق عليه. وانتابتنا الشكوك فيما يرويه لنا؛ لأن من خلائقهم الكذب والتنصل من المسؤولية؛ دخلنا معه بسجال طويل. آثرنا التريث في اتخاذ أي قرار بحقه لكسب فسحة من الوقت للتحقق من روايته. بعدئذٍ نهض كاظماً غيظه ممتقعاً وهمَّ بالانصراف؛ وقبل أن يغادر الغرفة ساخطاً؛ قلتُ له: ألا تشاركنا زادنا اليوم؟ عندئذ توقف والتفت نحونا، أومأ برأسه وانفرجت اسارير وجهه، وقال مع ابتسامة شابتها مسحة حزن: أنتم ناس طيبون؛ ورجع إلى مجلسه معنا.

  يستطرد سعيد في حديثه: أنا أتحدث الآن؛ وأتذكر كنتُ ساعتها أشعر بنزاع مزدوج في داخلي بين حق الحزب الذي أنا أمثله؛ ونقض هؤلاء له؛ وبين ضميري الإنساني عندما أنظر إلى هؤلاء (المهربين)الذين لا شيء يربطهم بالمبادئ ولا بالأفكار للتضحية من أجلها وإنما يجازفون بحياتهم لأجل لقمة العيش ليس إلا، ففي الحالات الخطرة أهم شيء عندهم هو النفاذ بحياتهم لأنها مصدر عيشهم. بعد هُنَيْهَةً وقد بانت على محياه علامة الجزع مثل طير مهيض الجناح قال راجياً: (نحن أناس فقراء لسنا مثل رفاقكم الذين يدفعون حياتهم لأجل حزبكم، نحن لا نملك شيئاً سوى أرواحنا وهي مصدر عيش عوائلنا علينا الحفاظ عليها).

 يستمر سعيد في سرده ويقول: رق لهم قلبي ورأفتُ لحالهم أولاً، وثانياً فكرتُ أن نعاملهم بالذي لا تكون تبعاته تسبب بتصدع سمعتنا وسط المهربين نحن في غنى عنها، بعد التشاور فيما بعد بيني وخالد سليمان وفارتان حسمنا السجال الطويل. نقدناه في اليوم الثاني بعشرة آلاف ليرة سورية فقط؛ ولم ينل المبلغ رضاه؛ لكنه طيب من خاطره وإن أقله، بعد فترة؛ شعرنا أننا قد جانبنا الصواب بالمبلغ المعطاة له؛ كان علينا أن ندفع له على الأقل نصف المبلغ لأنهم في كل الأحوال عبروا البغال إلى الطرف التركي. 

 يستطرد سعيد في حديثه ويقول: بعد فترة، فكرنا بالرغم كل عيوبه (حامو)وتحسباً لقادمة من الأيام، فكرنا بالحفاظ على وشيجةٍ للتواصل معه، بأن نمنحه مبلغ آخر على عمله السابق؛ لكن للأسف سبقنا القدر اليه فقد لقي هو وأبنه مصرعيهما على الحدود في عملٍ لم يكن لنا ضلع فيه. وهكذا طويت صفحة هذا المهرب في مدرج عملنا.

الآن انتقل إلى الحدود ومع شهادات بعض من رفاق المفرزة الذين استطعتُ الوصول إليهم والذين كانوا في قلب الحدث تلك الليلة وكل واحد منهم يرويه من زاويته؛ (وما زلت أتطلع بلهفة إلى المزيد من المساهمة من لدن الرفاق الذين كانوا ضمن المفرزة ليلتها وأتأمل أن تتقد جذوة ما بقي في ذاكرتهم عنها؛ لتوثيقها لأنها بالرغم ما لها وما عليها ستظل صفحة بطولية مشرقة سطرتها بسالتهم؛ ولولاهم لما وصلت تلك المواد إلى أيادي أنصارنا البواسل ع. أ) ...

الرفيق عادل كنيهر حافظ/ سامي دريژا كان شاباً في الثانية والثلاثين ومن بغداد مدينة الثورة يعمل موظفاً في الشركة العامة للسيارات. كان ضمن مفرزة الطريق وفي مسرح الحدث تلك الليلة؛ وهو يلقي الضوء على جانباً منه. يقول: وقفنا بقرب الحدود أكثر من (20) رفيقاً وأربعة أدلاء جاءوا معنا وأربعة كانوا ينتظرون عند الحدود؛ فقال المهرب (حامو) من المستحيل أن يمر أحد عشر حيوان وحوالي ثلاثين شخصاً دون أن نتعرض لإطلاق النار من (الكمائن) التي يجلس في كل واحد منه (4) عساكر وبين كمين وآخر (300 ـ 400) متراً ونحن في منتصفهما.. إنتابه القلق؛ وتحدث مع مساعديه ورأى السبيل الوحيد هو أن ننقسم إلى قسمين؛ قسم منا يقوم بإطلاق النار باتجاه الكمائن على الأيمن والأيسر لإشغالهم ومنعهم من إطلاق النار علينا والقسم الأخر يسحب الحيوانات بالسرعة؛ وخلال دقائق يجب أن يتم العبور والابتعاد عن الحدود والسير باتجاه الطريق الدولي القريب جداً لعبورها قبل أن تتيسر الإمكانية للعسكر بإطلاق النار علينا؛ وفي نفس الوقت  نسبق  وصول الدوريات المسلحة إلى المنطقة. يستطرد الرفيق سامي في حديثه ويقول: نفذنا عملية العبور كما رسمها المهرب (حامو) إلا أن الذي صعب الأمر علينا في مواصلة السير باتجاه الطريق الدولي واجتيازها هو الدورية العسكرية التي وصلت إلى المنطقة  بعد إطلاق النار مباشرة؛ واصبحنا محاصرين بين الشارع الحدودي والطريق الدولي، فسرنا بمحاذاة الطريق الدولي لكي نجد مكاناً للعبور وفي كل مرة نجد الدورية العسكرية على الشارع الحدودي، اعترانا القلق من التأخير وصعوبة الوصول ليلاً إلى المكان الذي يفترض الوصول اليه في الجبل؛ فاضطرت المجموعة عبور الطريق الدولي مع الحيوانات دفعة واحدة وقد تفاجئ العساكر الواقفون بجانب سيارة بيك آب وعليها رشاش ثقيل لكننا عبرنا بسرعة قبل أن يتمكن الرامي من صعود السيارة ويصل لمسك الرشاش ويوجهه  صوبنا، خلال تلك اللحظات أفلحنا في الابتعاد قليلاً عن الطريق الدولي باتجاه شارع أنابيب النفط؛ وكذلك عن مرمى الرشاش الموجه علينا؛ في هذه الأثناء أنفتح حزام واحدة من الحمولات على ظهر واحد من البغال المحمل بقذائف صواريخ ( سترلا) صاح الجميع على الرفيق أبو سمكو! جاء أبو سمكو راكضا؛ وكانت هذه الدقائق جداً ثقيلة لأننا كنا بقرب الحيوان وأستمر الرمي علينا وفي حالة إصابة الحمل برصاصة ما ستؤدي بتفجر القذائف علينا؛ بعد أن تمكن أبو سمكو من تعديل الحمل وشد الحزام سارت المفرزة وكانت الدوريات مهيئأة

للانقضاض علينا؛ ولاحقتنا الدوريات المدرعة في الطرق الترابية وعليها (اضاءات ساطعة ـ بروجكتر) ووجهتْ علينا، أطلق الرفيق أبو هديل قذيفة (ار. بي. جي 7) باتجاه واحدة من المدرعات مما أدى إلى أن تطفي جميع المدرعات لأضوائها الساطعة، وفي نفس الوقت سببت القذيفة في إشعال الحشائش اليابسة بحيث أضاءت المنطقة،  فانتشرت المفرزة باتجاهات مختلفة، ولم نطلق نحن النار تجنباً لكشف أماكننا، وذهب آمر المفرزة ومجموعة معه مع المهربين، انقطعنا نحن عن الباقي وسرنا مسافة إلى أن وصلنا مزرعة لسمسم ومعنا قسم من الحيوانات انتزعنا الأحمال عليهم وخبئناها  في المزرعة للسمسم وبقينا نحن ايضاً فيما تبق من الليل ونهار اليوم الثاني مختبئين هناك، مساءً التقينا بجماعة قادونا وعبرنا نهر دجلة إلى مكان الرفيق أبو هدى وهناك وجدنا أمامنا المهربين حيث سبقونا.  

الرفيق هشام خلف/ علاء الصغير: شاب كان في الخامسة والعشرين من العمر، ناعم البنية وبالرغم من ذلك كان يحمل قاذف ـ ار . بي . جي 7 ، سبق وأن جرح في التصادم مع كمين على الحدود العراقية السورية في وقت سابق أثناء عبوره عن الطريق المباشر على الحدود أثناء قدوم المفرزة من العراق إلى سورية، وما أن تماثل للشفاء حتى عاود نشاطه ثانية ضمن مفرزة الطريق. سمي بعلاء الصغير لأنه أصغر عضو في المفرزة سناً ولتميزه عن علاء آخر كان أيضاً ضمن المفرزة لكنه أكبر سناً وأطول قامةً. كان هشام ضمن مفرزة الطريق ليلة عبور البغال مع المهرب (حامو)وكان يحمل قاذف ار. بي. جي 7.

يقول الرفيق علاء الصغير (وهو الاسم المحبب له): اتجهت المفرزة نحو الحدود لعبورها في ظرفٍ غاية في الصعوبة مقارنة بالحالات السابقة للاجتياز، حيث كانت السلطات التركية قد شددت قبضتها على حدودها مع سورية وخاصة منافذ عبور الحيوانات، خشية من نشاطات عدوها اللدود (ب. ك. ك) من جهة، والتعرض لتهريب السلاح للمعارضة العراقية، وتجلت تلك التشديدات بزيادة الكمائن والدوريات المسلحة على الشارع الحدودي؛ غير أن تلك الصعوبات لم تفل من عزيمة رفاق المفرزة وثباتهم لمواجهة المخاطر لأداء المهمة المناطة بهم.

 أثناء العبور تعرضنا لإطلاق النار من الكمائن على الخط الحدودي إلا أن الصعوبة التي أعاقت سرعة حركتنا هي أن الأرض كانت محروثة بعد الخط الحدودي مباشرة وشقوقها الوعرة نسبياً ولدت هاجس الخوف من التواء القدم حيث فقد أحدنا فردة من حذائه وتركها وشد قدمه باليشماغ (غطاء الرأس) بقية الطريق إلى الجبل.

بعد عبور كمائن الحدود؛ وقعنا بالكمين بين الشارع الحدودي والطريق الدولي وأستمر إطلاق النار علينا من الكمائن والسيارة المسلحة على الشارع الحدودي، توقف المهربون عن إطلاق النار؛ فأصبح هدفنا عبور الطريق الدولي؛ وفلتنا من الكمين الثاني وأصبحنا في الطرف الثاني من الطريق الدولي بينها وبين شارع انابيب النفط، لاحقتنا المدرعات على الطرق الترابية وهي مزودة (بالأضواء الساطعة ـ بروجكتر) القوية تضيء المنطقة فبادر الرفيق أبو هديل بإطلاق قذيفة ار. بي. جي 7 الذي يحمله باتجاه واحدة من المدرعات مما حملت البقية على إطفاء (أضوائها الساطعة) لكن نار القذيفة أشعلت النار بالحشائش وهنا دارت المصادمة الثالثة وتفرقت المفرزة وفي هذه الأثناء هرب جميع المهربين وأدلائهم وتركونا وسط منطقة لا نعرفها.

ـ الرفيق مجيد الأمين/ أبو ريم، أحد أعضاء المفرزة وكان في تلك الليلة ضمنها. يسرد ما بقيت في ذاكرته من أحداث تلك الليلة ويقول: دخلنا الحدود من بين الكمائن وبدء إطلاق النار علينا من الكمائن التي تبعد الواحد عن الأخر مسافة حوالي (300) متراً وتوجهنا بالطرق المتعرجة والملتوية نحو الطريق الدولي مع بعض الإرباك وعندما عبرناها جاءت المدرعات باتجاهنا وسلطت علينا (إضاءاتها الساطعة ـ بروجكتر) فبادر أبو هديل بإطلاق قذيفة على أقربها إلينا، فأطفئت الباقي إضاءاتها، إلا أن القذيفة سببت في إحراق الحشائش اليابسة وسببت في إنارة المنطقة؛ فلاحقتنا المدرعات عبر الطرق الترابية إلى النهر وهناك تفرقنا، وترك البعض البغال ونحن القينا الاحمال وتركنا البغال طليقة كي لا تكون علامة دالة علينا واختفينا  في حقل السمسم والمجموعة الأكبر ذهبوا مع ادلاء بمن فيهم أبو سعاد آمر المفرزة، بقينا هناك مختبئين في مزرعة السمسم، وعند غروب الشمس سمعنا  أصوات تبحث عنا  كانوا اهل المنطقة ، وعند لقائنا بهم اعطونا الماء والاكل، واخذنا الحمولات معنا  عدا حمل واحد سرق منا  ووصلنا النهر وعبرناه التقينا بالجماعة ، الادلاء هربوا بعد الطريق الدولي ولم نكن نعرف إي شيء عنهم إلا بعد وصولنا إلى حيث بقية أعضاء المفرزة.

ـ الرفيق عدنان هادي/ أبو هدى شاب بصراوي وخريج المعهد الزراعي، كان في نهاية عقده الثالث عندما أنضم إلى الفريق العامل في محطة الحزب في جبال تركيا أوائل ثمانينيات القرن الماضي التي مهمتها أستلام الرفاق والسلاح من القامشلي وإيصالهم مع السلاح إلى مقرات الحزب في كوردستان العراق، وكذلك تسفير الرفاق من وإلى سورية بمساعدة الأحزاب المتعاونة مع حزبنا. كان ليلة عبور مفرزة الطريق مع البغال متواجداً في المحطة التي كانت تقع في   (گلي ڤينك) على سفوح سلسلة جبل (جودي). وهو يصف لنا بعد أربعين عاماً ما علقت بذاكرته من أحداث تلك الليلة وما تلتها في اليوم الثاني. فيقول: لم يكن لنا علم بعبور المفرزة مع البغال تلك الليلة؛ إلا أننا كنا نعرف أن المفرزة موجودة في القامشلي وقد تعبر في أي لحظة أو يوم يكون ملائماً لها. بعد ظهر اليوم الثاني من عبور المفرزة؛ أتصل بيَّ شيرين وهو عضو في حزب (پيشنك) وأخبرنا بوجود مهرب أسمه حامو يقول بأنه عبر مجموعة من الحزب الشيوعي العراقي مع مجموعة من البغال وتعرضوا لإطلاق النار في الحدود وتشتت المجموعة مع البغال في المنطقة بين شارع انابيب النفط ونهر دجلة ولا يعرفون مزيداً عنهم. ويمضي الرفيق عدنان في حديثه ويقول: رافقني الرفيق شيرين وأخرين إلى مكان تواجد المهربين، هناك التقيت بهم ولأول مرة ألتقي بـ(حامو)، ولم يسبق لي اللقاء به حتى الساعة، وسألته كيف وصلتم أنتم إلى هنا وأين المفرزة والبغال؟ قال: لا نعرف أي شيء لكننا نعرف كلهم قد عبروا الحدود لكن أين هم هذا الذي نجهله! فكرت باعتقاله بمساعدة من معي، لكن فكرت ما الجدوى من اعتقاله؟ تركته، وعند عودتنا إلى قرية فينك علمنا أن رفاقنا مساءً قد جمعوا عشر بغال مع حمولاتها في أحد الوديان الكثيفة الأشجار وهو وادٍ يقع بقرب من قرية (باتل)وألتأم شمل المفرزة فيما بعد؛ خبئنا الحمولات وبدئنا في وقتٍ لاحق بأرسالها مع مفارز نقل السلاح إلى مقراتنا في كوردستان العراق. لقد كان خروج رفاق مفرزة الطريق تلك الليلة التي كادت أن تكون ليلة دامية وبدون الخسائر يعد نصراً كبيراً لنا.

 ـ قاسم حسين/ أبو وسن كان هو الأخر في نهاية عقد الثالث من العمر خريج جامعي ومدرس، أنضم إلى الفريق العامل في محطة تركيا، إلا أن الذي كان يميزه عن الرفاق الأخرين أنه من الأصول الكردية فلم يُعانِ صعوبة في التعامل مع أهالي المنطقة من حيث اللغة. يتصفح الأوراق التي يحتفظ بها وما كتبه عن تلك الليلة؛ فيقول: في خريف عام 1982 أرسلت محطة القامشلي مع المهرب ( حامد ـ المكنى حامو) مفرزة الطريق ومعها حمولة (10) بغال " كان (11) " وآمرها كان ( أبو سعاد) تعرضت لكمين أول قرب الطريق الدولي فتجاوزتها واستمرت في مسيرتها مع الادلاء لكنها فوجئت بتعزيزات عسكرية وإطلاق القنابل التنويرية مما سببت أضاءه المنطقة؛ لاذا المهرب (حامو) بالهروب مع مجموعته وتركوا المفرزة لوحدها بدون دليل؛ مما أدى إلى تشتتها إلى بضعة مجاميع، وساروا باتجاهات مختلفة؛ وكان هدفهم الوصول إلى نهر دجلة على الأقل؛ ولم تستطع أي مجموعة منها الوصول اليه، إلا أنهم استطاعوا في تلك الساعات العصيبة من الحفاظ على رباطة جأشهم وأبدوا شجاعة فائقة بالسيطرة على البغال والحمولات والابتعاد عن مصادر إطلاق النيران، ولم تدخر العسكر حينها جهداً في البحث عنهم؛ وارتأت المجاميع عدم الرد على مصادر النيران تجنباً من كشفهم. تمكنت مجموعتان من إيجاد أمكنة في بعض المزارع للاختفاء فيها؛ وبقوا طيلة النهار أياديهم على الزناد تأهباً لأية مباغتة من قبل العسكر. مجموعة واحدة من نصيرين وهما (سيد نهاد وصامد الزنبوري) ومعهما بغل واحد مع حمولته لم يهتديا إلى مكانٍ للاختباء فيه؛ سوى حفرة في وسط سهل مكشوف؛ مع إطلالة الشمس ربطوا قوائم البغل وبطحوه في الحفرة وهيئوا كمية من العشب له وانبطحا إلى جانبه؛ وأمضيا نهارهما وأيديهم على الزناد خوفاً من كشف موقعهم من قبل الطيران أو تمشيط المكان من قبل العسكر. بعد الظهر وقبيل المساء أهتدى الرفاق على صوت وحركة البغال للاهتداء بعضهم على البعض واجتمعوا في وادٍ كثيفة الأشجار قرب قرية (باتل)، وقد استنفرت جماهير الأحزاب الصديقة لحزبنا في المنطقة للمساهمة في لم شمل المفرزة، وعبروا نهر دجلة إلى قرية (كراش) ومنها إلى (گلي ڤينكي ) حيث الرفيق (ابو هدى). أن جمع شمل رفاق المفرزة شكل انتصاراً كبيراً لما حققوه بصبرهم وحكمتهم. أما الدليل (حامو) ومجموعته  أختبؤا في المنطقة الجبلية المطلة على النهر بعد أن تأكدوا من وصول المفرزة جاءوا لتهنئتهم بسلامة وصولهم وصل (10) بغال مع الحمولات سرقت منها حمولة واحدة. ومن ثم تم نقل السلاح تدريجياً إلى مقراتنا في كوردستان العراق.

 يقول الرفيق سعيد: لقد ضاع بغل واحد مع حمولته أثناء المصادمة وقد يكون قد سرق من قبل القرويون نهار اليوم الثاني. إلا أن العملية كانت عملية بطولية وصفحة مشرقة ومشرفة سطرتها مفرزة الطريق ببسالتهم وشجاعتهم. تحية الإجلال لمن منهم غادر دنيانا ولهم المجد والخلود ولأرواحهم السكينة والسلام؛ والعمر الطويل مفعم بالصحة والعافية وراحة البال للأحياء منهم.

عرض مقالات: