حديث الرفيق سعيد الذي تولى مسؤولية الحدود بعد سفر الرفيق (جلال الدباغ) إلى كوردستان، ينكب هنا على نقل السلاح على ظهور الحيوانات بالدرجة الرئيسة (والتي كانت المعضلة أمام المحطة)، لأن عبور الرفاق بين البلدين (سوريا وتركيا) كانت جارية سواء من خلال المنافذ المائية (زهيرية، مزري، چم شرف وعين ديوار ...الخ) أو البرية (باب الهوى، المعشوقة، بأبيلي، كَركَي سلمى، المحمدية وسرم ساخ ...الخ) مع بعض التعثرات والتوقفات للأسباب أمنية أو فنية.

يسترسل سعيد في سرده للأحداث فيقول: بعد أن ضاقت بنا الإمكانيات لعبور الحيوانات والشلل الذي أصاب قدرات أصدقائنا من المهربين نتيجة الإجراءات المتشددة على الحدود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأ الوقت يداهمنا؛ ولم يبق أمامنا متسع منه لتحقيق ما كنا نريد تحقيقه. ومواصلة الحكومة التركية لإجراءاتها لنصب الأعمدة لإنارة الحدود محاولة منها لغلقها أمام التهريب بواسطة الحيوانات، وجدت محطة القامشلي نفسها ومعها مفرزة الطريق والرفاق في محطة تركيا في سباق مع الزمن لضخ ما يمكن ضخه من الأسلحة إلى أيدي أنصار الحزب الشيوعي العراقي قبل إتمام مشروع الإنارة. فأستقر رأينا على استمالة المهرب (حامد) إلى جانبنا في العمل. بداية، بدئنا بمفاتحة المهرب (برهان) الذي كان موضع ثقتنا، للتعاون مع المهرب (حامد) وقد أبدى استعداده التعاون معه لعبور عشر بغال محملة بالسلاح من خلال منفذ (حامد)؛ ثم التقينا أنا والرفيق خالد سليمان بـ(حامد) عرضنا عليه استعداد (برهان) للتعاون معه، لكنه جابهنا بالرفض. التقينا به في بيت الرفيق السوري (أبو عيسو) الذي لا يجلب الانتباه عدة مرات خلال أسبوع واحد؛ تحادثنا معه في لقاءات مطولة حتى وافق في نهاية المطاف على عبور (11) بغلاً ومجموعة من الرفاق.

 عرض حامد على سعيد وخالد سليمان (77) سبعاً وسبعين ألف ليرة سورية لعبور أحد عشر بغلاً وعشرين رفيقاً وأن يدفع له ربع المبلغ مقدماً، يقول سعيد: رفضنا عرضه أنا وخالد سليمان (أبو هژار) وهمستُ بأذنه وبامتعاض أنك تتعامل مع حزب سياسي وليس مع شخص عادي ولا مع مهرب، وحدثه خالد سليمان وبحدية: الرفاق هنا في سورية سيكونون سنداً لك في حالة تعرضك لأية مشكلة مع الحكومة السورية، بعد المناقشات أرسيَ المبلغ على (55) خمس وخمسين ألف ليرة سورية وبدون مقدمة ويسلم له المبلغ في المالكية بعد إيصال الرفاق والبغال إلى المكان الذي يحدده آمر المفرزة، وعلى أن لا يقل عدد الأدلاء الذين معه عن (8) أدلاء.  

 حُدّدت ليلة العبور وأن يكون المعبر قرب قرية (الجارودية) في أطراف مدينة (المالكية). في صباح ليلة السفر وقبل بزوغ ضياء الشمس نُقلتْ الحمولات بمعية الرفيقين سلام موسى وفارتان شكري من القامشلي إلى المالكية لتجنب انتباه سكان المنطقة ليلة السفر وخُبِّئتْ في مزرعة (كرم العنب) تبعد عن المالكية نصف ساعة سيراً ووضعت نهاراً بحراسة فارتان وأخر سوري.

مساء ليلة السفر نهاية أيلول 1982 نقل سعيد مفرزة الطريق من القامشلي إلى المالكية حيث مكان وجود الحمولات وتركوا السيارة في مكاناً بعيد عن المنطقة، وقبيل أن يبسط المساء ظلامه على المنطقة جلب خالد سليمان وعدد من مجموعة المهرب البغال إلى مكان الحمولات، وعَرّفَ  سعيد آمر المفرزة على حامد والأخرين الذين معه وأُعطيتْ التعليمات والمعلومات الضرورية للطرفين، وبعد إتمام شد الحمولات بدأت القافلة بالتحرك، و مفرزة الطريق هم الذين يتولون شؤون البغال ومسك اللجام وكان عددهم حسب ما يتذكر سعيد (22) رفيقاً وهم: مهدي كَمر/ أبو سعاد آمر المفرزة ـ عبد الكريم جبر/أبو هديل ـ مقدام محمود/أبو شهاب ـ شاكر جابر/كاوه ـ هشام خلف/علاء الصغير ـ أبو عراق ـ عادل كنيهر حافظ/سامي دريژا ـ  أبو عزيزـ  سربست بامرني ـ صامد الزنبوري ـ أبو جاسم كيشان ـ أبو سمكو ـ أبو عدنان ـ دارا ـ سيد نهاد ـ عمار/أبو جوان ـ جكرخوين ـ أبو طريق ـ هاشم ذرب /أبو رجاء ـ مجيد الأمين/ أبو ريم ـ أبو داود ـ سعيد يزيدي لا يتذكر سعيد ولربما معهم أخرين ويستميح العذر من أسمٍ إذا سقط من القائمة أو تبدل مع أسماء أخرى فإن حدث فهو سهو ليس إلا؛ لكن في كل الأحوال كان العدد (22) رفيقاً. وعند شد الحمولات كان أربعة من مجموعة المهرب حاضراً وأخرين ينتظرون قرب الحدود.

ـ سألتُ سعيد: كيف كنتم تطمئنون لهؤلاء وترسلون معهم الرفاق والبغال ولكم عليهم بعض الرريبة؟

ـ أجاب سعيد: خياراتنا كانت محدودة وكان الزمن يداهمنا، وحامد كان (أفضل السيئين يومذاك) ولم تكن لدينا ملاحظات أمنية عليه وإنما كانت من حيث أمانته، وفي نفس الوقت كان برفقتهم (22) من رفاقنا المقاتلين الشجعان الذين كانوا هم ضمانتنا.

 ـ سألته: وهل كان المبلغ الذي اتفقتم معه عليه مبلغاً معقولاً؟

ـ أجاب: نعم لو بقي مصراً على عرضه لوافقنا وربما كنا نوافق على مبلغ أكبر، أن طناً وربع طن من الأسلحة المتنوعة يعني تسليح أكثر من ثمانين مقاتلاً بمبلغ (55) الف ليرة والتي كانت بحدود سبعة آلاف دولار وقتئذ؛ إضافة إلى أن توجيهات الحزب لنا كانت لا تريد أن يكون المال عائقاً في أداء مهماتنا.

 تحرك الثلاثة سعيد وفارتان وخالد سليمان خلف القافلة مسافة ربع ساعة ومكثوا هناك. كل الأمور التي احاطتْ بعملية العبور كانت ملائمة ومشجعة، الوقت الذي تعم فيه ساعات الظلام تلك الليلة كان كافياً لقطع المسافة من منطقة العبور إلى المكان المخصص للوصول، السماء كانت ملبدة بالغيوم إذ لا بريق النجوم ولا لمعان القمر. الوضع كان هادئاً لا يسمع سوى هسيس الحشرات، وقرية (الجارودية) تبعد مسافة تحجب عنها رؤية القافلة.

يقول سعيد: لقد قدّرنا المسافة من مكان تحرك القافلة إلى منطقة العبور بأقل من ساعة سيراً. لقد مرت ساعتان والوضع كان مازال هادئاً، أنظارنا كانت ترنو طوال الوقت نحو الحدود، لم نلاحظ ما يعكّر صفوة الهدوء. أعصابنا كانت نحن الثلاثة مضطربة في تلك اللحظات، وأقول بعيداً عن المغالاة: إنَّ وضعنا كان أشبه بوضع الطلاب الذين يتذكرون الله أيام الامتحانات فقط، ويتضرعون له بالمناجاة. في تلك اللحظات التي أعقبت الساعتين على بدء سير القافلة، كنا نحن في موقعنا أسرى مشاعر متناقضة بين القلق وبين نشوة النجاح. الوقت الذي مر والسكون الذي لف المنطقة شجع دبيب الغبطة والفرح من التحرك في داخلنا بعد أن شعرنا أن المجموعة قد عبرت بسلام؛ لكن ما هي إلا لحظات وعلى حين غِرَّة أنهال على مسامعنا أزيز الرصاص، إنها رشقات من بنادق (كلاشينكوف) التي كانت بحوزة مجموعتنا والأدلاء، فوجئنا في بادئ الأمر!  لأن توصياتنا دائماً للأدلاء والمهربين الذين مع رفاقنا بعدم الاشتباك والتصادم مع المخافر وحرس الحدود إلا دفاعاً عن النفس لإن هدفنا هو الوصول إلى العراق فحسب. وبَغتَةً تلتها رشقات من بنادق (الناتو) لحرس الحدود أيضاً وعندئذ تيقنا من أنها مصادمة مع الكمائن وليست مطاردة، أيكون المهرب حامد هو من بدأ بإطلاق النار؟ أم أخطأنا في التمييز بين أصوات رشقات البنادق (كلاشينكوف والناتو)؟ بعد حوالي ربع ساعة خفت حدة الرمي ولم تبق إلا رشقات خفيفة ومتقطعة بين هُنَيْهةٍ وأخرى من بنادق (الناتو)، حثثنا الخطى نحن الثلاثة نحو الحدود كالعادة لملاقاة من ينجو من المطاردة، تقربنا مسافة نستطيع فيها من تشخيص الهياكل البشرية إذا ما ظهرت، لم يبان أي شيء لناظرنا، وصوت الرمي بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن مسامعنا، لبثنا في مكاننا حوالي ساعة لم يطل علينا أي كائن، أيقنّا أن المجموعة قد عبرت؛ لكن كيف وماذا حل بها؟ وهنا جاء دور القلق ليعبث بنا نحن الذين ننتظر في الصوب السوري، بعد أن أستتب الهدوء في المنطقة، عدنا أدراجنا إلى (كرم العنب) ولبثنا هناك إلى نهاية الليل، وطال بنا الليل وأصبح دهراً. صباحاً وقبل أن يغمر ضياء النهار المنطقة، بعثنا خالد سليمان (هذا الرفيق الرائع الذي لا يجلب الانتباه) إلى أطراف قرية (الجارودية) للاستطلاع وتقصي الأخبار إن وجدت.

 بعد إطلالة الشمس؛ رجع خالد سليمان وأخبرهما بأن كل شيْ طبيعي في المنطقة، ولم يلاحظوا كذلك ما يدل على تحليق المروحيات في الجو التي عادة تقوم في هذه الحالات بتمشيط المنطقة وتقفي آثار العابرين، وهذه أيضاً علامة تنبئ بالاطمئنان وإن أقلّه.

ومن ثم بارحوا المكان وتوجهوا إلى بيت الرفيق سعيد دوكو (أبو ماجد) سكرتير منظمة المالكية للحزب الشيوعي السوري.

 يستمر سعيد في سرده للحدث: في بيت (أبو ماجد) أعدت لنا العزيزة (أم ماجد) فطوراً صباحياً لذيذاً، كان للرفيق (أبو ماجد) علماً بما حدث ليلة أمس وقد لاحظ قلقنا، وما نحن عليه من التوتر من خلال حديثنا، ناهيك عن طريقة هرجنا في تناول فطورنا الصباحي، حاول بأسلوبه المرح تخفيف من الغليان في داخلنا؛ وبدأ بسرد الأيام الصعبة التي واجهها نضالهم أيام الوحدة مع مصر بداية الستينيات. قلتُ مع نفسي: ماذا يقص علينا الرفيق العزيز (أبو ماجد) ونحن نئن تحت ثقل الهواجس المختلفة التي تعترينا وتعج بها رؤوسنا؟

  بعد يومين وصلتنا الأخبار الأولية، ماذا حل بالمفرزة والحمولات والمهربين!

عرض مقالات: