يشخص الفكر الماركسي لدى دراسة و تحليل الانتفاضات و لثورات الاجتماعية جملة من الاحكام والقوانين العامة كتعبير نظري عنها يعتمد المنهج الديالكتيكي النقدي لاتجاهات التطور الاجتماعي المرتبطة بها ومستوى الوعي الجمعي السائد وحصيلة الخبرات المتراكمة للحركات الاجتماعية والتي ينظر اليها باعتبارها في حالة حركة دائمة وصيرورة مستمرة منسجمة مع تطور الحركة الثورية ذاتها.

وتحتوي المؤلفات الكلاسيكية لماركس وانجلز ولينين على تقييمات واستنتاجات لتجارب الحركات الثورية في القرن التاسع عشر والعشرين، الا انها عكست واقع ومضمون الصراع الطبقي المحتدم آنذاك وأيضا في طروف انتقال النظام الرأسمالي من المنافسة الحرة الى الرأسمالية الاحتكارية والتي تختلف نوعيا بسبب طابعها المعولم وكذلك وحدانية النظام الرأسمالي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية القائمة في بداية تسعينيات القرن الماضي ( هناك تلخيص جيد لها في  صفحة “أفكار” في عدد  10 نيسان 2022) والتي تتطلب تطوير الصياغات النظرية والمفاهيم وتقييم تجارب ودروس الانتفاضات الشعبية عالميا وفي العراق أيضا بما يستجيب للظروف الحالية التي يشهدها القرن الحادي والعشرون خاصة في  التطور غير المسبوق لوسائل الاتصالات ومنابر التواصل الاجتماعي وتقنيات الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والتي يجب ان تنعكس في تحليل وتدقيق الظواهر الاجتماعية ومنها علم الثورات والانتفاضات وتجلياته في ظروف النضال السياسي السلمي سواء فكريا او سياسيا او تنظيميا لتحقيق مهمات الشروع بإنجاز مهمات المرحلة الانتقالية التي بحد ذاتها متداخلة بما سبقها او لحقها من مراحل وهي بالتأكيد طويلة تاريخيا.

ومن اهم الجوانب المعرفية لتجربة الانتفاضات هي انها لا تخضع للارا دوية  و الرغبات الذاتية   التي تأمل بان ترى نصرا مؤزرا في كل منعطف نتيجة حالة  الإحباط النفسي و السياسي و التي قد تؤدي الى اتخاذ  قرارات مستعجلة غير مدروسة  و في الوقت ذاته هو ليس تبرير الى  التردد و الحذر  و الخشية من اتخاذ قرارات معينة في لحظات حاسمة بسبب تقديرات مسطحة او  أحادية الجانب للمخاطر.   في هذا المعترك الثوري تشكل الماركسية  فكرا و منهجا سلاحا نضاليا  مرشدا للعمل لرسم خارطة طريق و  لحوكمة خوض الأمواج المتلاطمة في بحور الصراع الطبقي  بما يضمن ان تكون الشعارات و الاليات اكثر دقة و عملية  و تنسجم مع توازن القوى الطبقي في  تلك اللحظة التاريخية المحددة . و يجري كل ذلك في ديناميكية محتدمة من الصراع الفكري تتطلب إدارة سليمة و موضوعية لها  كي يتم تحقيق التقدم المنشود خلال مراحل عملية الانتفاضة الشعبية   بدون التفريط بالطاقات و التمسك ببوصلة انجاز المهمات و الأهداف التي تطرحها العملية الثورية   مع  الاستفادة القصوى من التراث الماركسي الكبير و تجارب الشعوب و الأحزاب الشيوعية و اليسارية  التي تعكس جوانب تطبيق النظرية على صعيد الممارسة العملية  و التصدي للرؤى الانعزالية التي تقلل من أهمية التجارب الثورية العالمية  بل و  حتى نضالات الشعب العراقي  السابقة ضد الدكتاتورية و القمع  و القهر الاجتماعي  بدون التقليل من خصوصيات الظرف العراقي الحالي  الملموس . وهنا يتجلى التنوع الهائل و الغنى الكبير في تجارب الشعوب   التي تشكل كنزا ثوريا و خزينا معرفيا يجب استيعابه و ليس استنساخه مع التركيز على القضايا الكبرى لان  المعرفة و الخبرة الثورية المكتنزة   الخزين المعرفي  وحده غير كاف ان لم يقترن   بالانخراط  الفعلي في احداث الانتفاضة  أي بضمان وحدة الفكر و الممارسة.

وهناك شبة اتفاق حول تشخيص أسباب تراجع وخفوت الانتفاضة، التي مازالت جذوتها مشتعلة، وفي مقدمتها القمع المفرط من قبل الأجهزة الحكومية والمليشيات المسلحة التي استباحت ساحات الانتفاضة واتبعت سياسة ممنهجة من القتل والقنص والاعتقال شملت الآلاف من الناشطين واستهداف القيادات الشابة الواعدة  بشكل خاص إضافة الى التهديد المستمر والترغيب، ترافقها حملة إعلامية وحرب نفسية لتشويه الانتفاضة شارك فيها الاعلام التقليدي والالكتروني المدفوع الثمن. ومن الطبيعي موضوعيا ان تتعدد الأفكار والاجتهادات في داخل حركة شعبية واسعة مثل الانتفاضة بسبب تعدد الانتماءات الطبقية والاجتماعية ومستويات الوعي السياسي، غير ان عدم وجود اليات لتنظيم وإدارة العمل والصراع   الفكري في داخلها وفر جوا مناسبا سهل عملية الاندساس والتخريب الداخلي لحرفها عن مسيرتها الأساسية وافتعال الصراعات والازمات او بروز أفراد انسلخوا عنها وسعوا الى تحويل انتصاراتها الى مكاسب سياسية ذاتية.

ومن ناحية أخرى بقي الجو الوطني العابر للطائفية الذي بلورته الانتفاضة  محصورا في ساحات التظاهر ولم يتطور الى وعي مجتمعي يتكامل مع نشاطاتها الجماهيرية والاجتماعية وظل أسير من يتحدثون هنا وهناك باسم الانتفاضة ويطرحون أفكارا متقاطعة تضعف مصداقيتها الشعبية وتعرقل تحولها الى مد جماهيري عارم.

وفي ظل هيمنة ممثلي البرجوازيات الكومبرادورية والطفيلية والعقارية والبيروقراطية ومافيات الفساد وغسيل الأموال التي نمت واستفحلت بعد 2003 والتي سرقت مئات مليارات الدولارات من المال العام ومولت أجهزة ومنابر الكترونية تنادى بالطائفية و طمس الهوية الوطنية العراقية والسعي الى تصنيع دولة فاشلة هجينة تماثل النموذج اللبناني، عبر تكريس واقع الانسداد السياسي واجهاض مشاريع البناء الاقتصادي والتي كانت احدى نتائجها، وحسب احصائيات حديثة لوزارة التخطيط، ان اكثر من ثلث العراقيين يعيشون تحت  خط الفقر.

وهذا التلخيص للوضع العراقي المأزوم هو دلالات على ان العوامل الموضوعية الداعمة لتجدد الانتفاضة مازالت قائمة ومستمرة وتتفاقم، بينما تتطلع أوسع أوساط الشعب العراقي الى مجتمع  يسوده الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والذي شكل، بفعل الاستقطاب الاجتماعي واحتدام الصراع الطبقي، عاملا موضوعيا في حينها يشير الى انفجار الثورة اذا ما تطابق مع العامل الذاتي المرتبط بتصاعد الوعي والمشاركة الجماهيرية الفاعلة بأحداثها لانه سيطور  في خضم الانتفاضة اشكالا من الهيمنة الفكرية والتنظيمية والجماهيرية التي تدفع باتجاه التحول الجذري على كافة الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والروحية، والتي لا تتحقق الا بفعل الجماهير، لان الثورة هي قاطرة التاريخ والجماهير الشعبية هي ماكنتها، التي عبرها يحقق الشعب العراقي أحلامه في   عراق حر مرفه وسعيد، وليس من قبل قوى معادية تختلف مسمياتها وبناؤها الفكري، وتعتمد العمل الانقلابي الفوقي والدعم الخارجي وإبقاء المنظومة الطبقية القديمة الفاسدة.

لهذه الأسباب تختلف الانتفاضات العراقية الحالية عما شهده الربيع العربي في مصر وتونس على سبيل المثال، نتيجة طبيعتها الاجتماعية وقواها المحركة وأهدافها وآليات عملها، وبما تملكه من عطاء وقدرة لفتح آفاق جديدة، مستفيدة من  الخزين النضالي من الثورات العراقية التي تتماثل في الخطوط العامة الا ان محتواها وتفاصيلها تتجدد باستمرار وتنمو في خضم المعارك السياسية والاجتماعية والفكرية.

ولذا سيبقى مآل الانتفاضة الشعبية في العراق مفتوحا، وستكون أمامها سلسلة من المعارك والصراعات الطبقية والاجتماعية، تختمر فيها وتتراكم متطلبات التغيير الجذري والتحول النوعي لإعادة ترتيب العلاقات الإنتاجية وإحلال بدائل لتحقيق متطلبات المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق حاليا والتي كان يطلق عليها في سبعينيات القرن الماضي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، التي تستطيع ان تبني دولة ناجحة وقادرة على انقاض القديم والمرتبط بالخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العراقية . وستواجه قياداتها وكوادرها ترسيخ الفهم الاعمق للتناقضات السائدة حاليا وتطوير اشكال مناسبة ومرنة من آليات التنظيم لضمان الإدارة الأفضل للموارد البشرية بما يضعف دور وتأثير الصراعات الجانبية ويسد الطريق على محاولات الاندساس، واقامة نظم امنية لحماية نشطائها، فالتنظيم هنا لبس علما بل فن يستجيب لمصالح العمل وليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة. لمضاعفة القوة لعشرات المرات لتطوير فضاءات جديدة تنشط فيها قطاعات واسعة من الطلبة والشباب والنساء  والعاطلين عن العمل والمهمشين.

وتشير التجارب الثورية الى ان اصلب واقوى إرادة ستبقى عاجزة اذ لم تتحرك العوامل الموضوعية والذاتية للثورة باتساق وانسجام. فهذا هو علم حساب الثورة ومضمونها الديالكتيكي. عراقيا يعني ذلك الوحدة الجدلية بين العاملين الذاتي والموضوعي المعتمدة على التحليل الدقيق للنظام الطبقي السائد بعد 2003 وتشخيص حاجات النضال الراهنة والتطبيق المبدع لأهداف الانتفاضة وبرنامجها مع التحوط لإرهاب الدولة والبرجوازيات الحاكمة. ويتطلب أيضا تطوير مهارات إعلامية وتقنية للاستخدام الفعال للأعلام والحرب النفسية من قبل فريق متخصص كسلاح هام لانضاج العامل لذاتي والتصدي للحرب النفسية التي يشنها العدو الطبقي وبدعم خارجي.

عرض مقالات: