إن سبب أزماتنا، وما نعيشه من مشكلات لا تنتهي، بل تتفاقم  حتى ونحن نرغب في حلها، أو في إبعادها عنا، هو العقل الذي نصدر عنه، أو الطريقة التي نُعمِل بها هذا العقل.

العقل الذي لا نعرف كيف نستعمله، أو نستعمله في غير ما وُجِد له، حتماً، يشطّ بنا، ويذهب بنا كل مذهب، لسنا من نديره، هو من يديرنا، ويتحكم فينا، دون أن نعرف في أي منحى أو اتجاه نقوده. فبدل أن يكون الحل، يصبح مشكلة، ما يضاعف مشكلاتنا، ويجعلها تتفاقم، وتُشْكل علينا، تصير معضلات، لا نعود نعرف الرأس فيها من رجليها.

السياسيون الذين يدِيرون أمورنا، ليس اليوم، بل منذ ما يفوق العقد من الزمن تقريباً، لا عقل لهم، أو أن عقولهم تفكر في منأى عن أعينهم، تفعل بهم ما تشاء هي، لا ما يشاؤونه هم. ولأن السياسة هي فكر ونظر، وعقل يدور في أكثر من اتجاه، ويحسب ألف حساب قبل أن يقرر، أو يقول ما وصل إليه من أفكار وقرارات، فهو، بهذا المعنى بالذات، ترويض للسائس نفسه، قبل أن تكون ترويضا للخيول التي يسوسها، خصوصاً حين تكون جامحة، نافرة، عينها على الحرية والانطلاق، وعلى ما ترغب فيه من شمس ونور وهواء.

السياسيون، هؤلاء، رؤاهم تتسم بقصر النظر، والسياسة لم تعلمهم كيف يفكرون، لأنهم، في غالبيتهم، لم يأتوا من السياسة، بل أتوا إليها من عالم المال والاستثمار، ومن السلطة التي هي غير السياسة، أو من السياسة حين أصبحت سباقا على المناصب، وعلى الوظائف، وعلى الكراسي، ومواقع القرار، وليست السياسة التي كانت هي العقل، وهو يعمل بحرية، وبتجرد، يستغرقه التأمل والتفكير، ويكون خياله واسعاً، بل سديداً، فيه كثير من الضوء، يفتح الطرق، ويشير إلى المشكلات والمآزق، كما يشير إلى حلولها الممكنة، ويكون تصوره للحلول مبنياً، ليس على الهنا والآن، فعقل، بهذا المعنى، هو عقل ينظر إلى المستقبل، كيف يمكن للهنا أن يفضي إلى هناك، وكيف يمكن للآن أن يفضي إلى الآتي، يكون جزءاً منه، والآتي يكون امتداداً له، بما يفتحه فيه من شعاب، ومن مسارب ومسالك وأقنية، وطرق.

الذين نأتي بهم من كبريات جامعات الغرب، من معاهده العليا، وهم في غالبيتهم من أبناء الأعيان، والأثرياء ورجال الأعمال، ومن لهم في السلطة والدولة مكان، أو كانوا وزراء سابقين، هؤلاء، أيضاً، لا صلة لهم بالسياسة، فهم تعلموا نظريات واكتسبوا معارف نظرية، ظنوا أنها هي الحل لما يجدونه من مشكلات، وهم من نسميهم بالتكنوقراط، أو الخبراء، قصداً، لابتذال معنى السياسة والثقافة، ولابتذال حتى القيادة، ولم يدركوا أن معارف الآخر، ليست حشراً للأفكار في رؤوسنا، وأن الثقافة الأوربية ليست معارف مجردة، بل هي خيال وإحساس، بل حواس تعمل بنوع من الذوق، وتفتيق ملكات العقل والخيال، وتشغيل كل الحواس التي تتداخل وتتجاوب فيها المعارف بالفنون والآداب، وبالقوانين والشرائع، وما تتيحه العلوم الإنسانية من مفاهيم ومناهج في السؤال والملاحظة والتحليل والنقد، واستخلاص النتائج بالاستدلال المنطقي الذي لا يكون العقل فيه يعمل بإرادة المنطق، بقدر ما يكون المنطق هو العقل وهو يعمل في كل الاتجاهات، ويقلب الأفكار والمشكلات، وما استعصى من مشكلات على كل الوجوه، يفْليها، ويعِيد فلْيها، كما يقول القدماء من العرب، ليصل إلى نتيجة، تكون محسوبة، وذات فائدة، تساهم في الحل، لا في تعقيد المشكلة وتعميمها، أو تعويصها، إذا جازت هذه العبارة.

العقل الذي يعمل ببرامج، وبتوجيهات، وبأفكار لم تصدر عنه، هو عقل أداتي، عقل بلا عقل، أو عقل فاقد للعقل، أو عقل خرج على عقله، لأنه يعمل بغيره من العقول التي تقوده وتوجهه، وتأمره، كما قد تنهاه وتمنعه، فينتهي ويمتنع. وإذا ما عدنا إلى ديكارت، في هذا الشأن، فاختلاف العقول، ينشأ من توظيفنا لها، أو توجيهنا لها، لذلك، فكل واحد منا يوجه أفكاره في اتجاه مختلف عن غيره، في طرق مختلفة متباينة، وكل واحد منا ينظر في غير اتجاه الآخر «لأنه لا يكفي أن يكون للإنسان عقل، بل الأهم، هو أن يحسن استخدامه»، بطريقة يكون بها هذا العقل، عقلاً بالفعل، لا بالقوة، أو عقلاً فقد عقله، أصيب بالعمى، وبقي بلا عين، أو هو عين بلا عقل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “المساء” االمغربية – 18 شباط 2022

عرض مقالات: