5

رحيّم

في احد الايام و اثناء زيارة الضابط سعدون لعبد الإله في البيت . . . لمحت الخالة راجحة سعدون و كان بملابسه العسكرية فشبهته الى عشيرتها و اقاربها . . . واخذت تسأل عبد الإله عنه و عمّن يكون، عرفت الخالة راجحة من عبد الإله ان سعدون هو اخو الحاجة امينة زوجة الشيخ فخري من امّها، الساكنة في محلة الشيوخ في الأعظمية عند مرقد الإمام ابوحنيفة.

فرحت كثيراً، لأن ذلك طمأنها على سيرة عبد الإله من جهة و على كونه بايدي امينة معروفة ؟؟ كما كانت تقدّر، وانحلّت عقدة كانت تعاني منها اثر حلفانها اليمين بزيارة ابو حنيفة و الإمام الكاظم ثلاث مرات ان استقرّت ابنتها رسمية مع عبد الإله.

و بعد ايّام زارت الخالة راجحة الحاجة امينة، صحبة ابنها حيث حملهما سعدون معه بسيارته الدودج الحمراء، للمشاركة بالمولود الذي تقيمه الحاجة امينة بمناسبة المولد النبوي الشريف سنويّاً . .

و التقت بصاحبات زمان و قريباتها اللواتي لم تلتق بهن منذ سنوات، و تعرّفت بفرح على ابنتها الجميلة "سعاد" طالبة الصف المنتهي في دار المعلمات . . و منذ ذاك تواصلت لقاءاتهن و خاصة ايام الزيارات الدينية . . .

. . . .

. . . .

بعد حياة قاسية اضطر فيها للعيش في بيت اخيه الكبير الذي كان يتاجر بالحبوب و الاغنام، اضافة لوظيفته الحكومية . . استطاع رحيّم اكمال دراسته في دار المعلمين الريفية وتعيّن معلم ابتدائية في ارياف الصحين في العمارة ثم في الناصرية و في الأهوار و عاش بين مزارعي الرز والشلب هناك و عاش آلامهم و اغانيهم الحزينة و بالخصوص اغاني مسعود العمارتلي، و شاركهم طعامهم من السمك المجفف المنشور على الحبال تحت الشمس و المسموطة اللذيذة، و كيف كانت النساء تحمي ازواجهن من الحيوانات المفترسة التي كانت تجذبها روائح اللحم البشري الطري الذي كان كان يظهر منهم بسبب تشقق و تسلّخ اقدامهم لطيلة مكوثهم في المياه للعناية و مداراة الرز . .

الى ان استقرّ معلماً ريفياً في مدرسة ابتدائية، في خرنابات احدى بلدات محافظة ديالى وسكن في بيت للموظفين والمعلمين العزّاب القادمين من خارج البلدة . . . ولما كان ممن عانوا قساوة الحياة مبكراً اثر فقدانه المبكر لوالديه في طفولته، ولعيشه حياة قاسية في بيت اخيه الأكبر الذي بدد الكثير من الأملاك والأموال في حياة فارغة باذخة . . و الذي كان و كأنه سيفاً مسلطاً على اخوانه و ابنائه، فارضاً عليهم فروضاً قاسية في طاعته و خدمته و خدمة بيته و ضيوفه الذي كانوا يسهرون عنده في السابق الى الصباح في جلسات للعب الورق و شرب العرق . .

فإنه عاش توّاقاً الى الحرية والأنفتاح على الآخرين بتكوين الصداقات على اساس المحبة و الإخلاص، ساعياً الى تحقيق ما امكنه لزيادة معارفه و صياغة احلامه و السعي لبلوغها . . فعاش انواع الصداقات الحقيقية المخلصة من خلال النقاشات الجادة و تبادل الكتب المفيدة و اكتساب الثقة، في زمان عاشت فيه البلاد سنوات الحرب العالمية الثانية وهي تحت وطئة الأحتلال البريطاني الذي فرض احكاماً حديدية في البلاد ، عملاً بما كان يقوم به في تعزيز قواته وضبط مستعمراته في مواجهة الخطر النازي، و ازداد الفقر و الجوع . . وتصادق مع القس الشاب داود الذي كان يرعى كنيسة الشرق في تلك الأنحاء و صارا من خيرة الاصدقاء في السرّاء و الضرّاء . .

و عمل بنصائح صديقه القس بالسعي لتكوين اسرة و بان لايبقى وحيداً، بعد خلافه مع اخيه الأكبر وشقه عصا الطاعة عليه، و اضطراره الى التسجيل في دار المعلمين الريفية للحصول على اية وظيفة حكومية تضمن له راتباً شهرياً . . وكان يعود شهريا لا اكثر الى بيت اخيه الكبير بسبب الجفاء بينهما و بسبب تهيّبه من اخيه، و استنكاره لموقفه بعدم زيارته ابنه البكر الذي اضاع شبابه في سبيل مُثل انسانية راقية آمن بها، و آمن بها غالبية الشعب . .

و كان رحيم يلتقي بزملائه المعلمين في بغداد، في مقاهي و بارات هادئة في شارع ابو نؤاس، اضافة الى دأبه على زيارة ابن اخيه يقظان في سجن نقرة السلمان، في مواعيد الزيارة مع عوائل السجناء من مختلف القوميات و الأديان العراقية، و زادت معارفه بالنقاشات مع السجناء و مع عوائلهم، و من قرائته لأبرز الكتب و الروايات الجادة و الإنسانية التي كان يتعرف على اسمائها من خلال تلك النقاشات او من استعارتها منهم او من المكتبات العامة ان وجدت فيها . . و من تعرفه على عوائل السجناء و شبابهم و شاباتهم، وجد طريقه للتعرف على انواع التجمعات التحررية الناشطة من اجل نصرة قضية الشعب و فقرائه . .

من جهة اخرى، و في خضم نشاطه مع القس الشاب لمساعدة العوائل الآثورية و عموم المسيحية، التي هربت من مذبحة سميّل و من اعمال الإبادة التي لم تنتهِ من قبل السلطات و العصابات التركية الاسلاموية بحق الطوائف المسيحية، ازداد احتكاكه بهم و بشبابهم و شاباتهم من خلال الاعمال الخيرية و التبرعات التي كان يقدمها و يتبرع بها وجوه محافظة ديالى من خلال القس الشاب . .

و في احدى زيارات العوائل المسيحية صحبة القس الشاب، تعرّف على عائلة آثورية هربت من تركيا بعد مقاومتها للعصابات التركية و قُتل الاب فيها، و بمشاعر من التضامن و الإحترام لها، تحمّس لمساعدة ابنتهم " فيفيان " في سعيها للقبول في مدرسة الممرضات، في ترجمة الوثائق و في مرافقتها بمعية القس و بدونه . .

شعر للمرة الاولى في حياته بمشاعر الحب التي لم يألفها من قبل تجاه الصبية الجميلة ذات الثمانية عشر عاماً، التي سحرته بجمالها و بعينيها العسليّتين و شعرها الكستنائي المرسل الى كتفيها، اضافة الى دفء تعاملها و احترامها له . . فازداد اهتماماً بها و ازداد سعياً لقبولها في مدرسة الممرضات من خلال اقارب زملائه المعلمين هناك، حتى تمّ قبولها . . و سعى لرؤيتها دوماً من خلال مرافقته للمرضى الى مستشفى الصليب الاحمر المشيّد هناك، حيث تتمرن على اعمال التمريض و من خلال انواع الحجج بلا ضجيج، بل و بكل سريّة كي لا يجرح سمعتها او مكانتها الإجتماعية . .

و تزايدت مشاعره حدة حتى صار لا يستطيع النوم من كثرة التفكير بها و خوفه عليها، و صار في حالة لم يتمكن فيها من كبت معاناته في داخله دون البوح بها للصديق الاقرب له و هو القس الشاب، الذي قال له بعدما رواه :

ـ عزيزي رحيم لا طريق لك الاّ الزواج منها و طريق الزواج هذا مسدود بوجهك وفق القوانين العراقية حتى الان، التي توجب عليها تغيير دينها الى الإسلام، و لك ان تتصوّر حال عائلة كافحت للحفاظ على ديانتها و خسرت اباها على ذلك الطريق، و هربت من بلادها، ماذا سيكون موقفها . . عليك ان تبتعد عن البنت فيفيان فهي ليست لك، الحل الوحيد هو ان تخطفها ان وافقت هي على ترك اهلها و انا لا اعتقد انها ستوافق، لأنهم سيقاطعوها شئنا ام ابينا، فالعوائل المسيحية لا تستطيع مقاومة الغزو الإسلامي و قوانينه لها، الاّ بتضامنها العائلي الديني مهما كانت ظروفها، و الاّ لمابقي مسيحيون في المنطقة، و انت لستَ الأول الذي حمل تلك المشاعر الجميلة و كتم جرحه و واصل حياته . . هذه هي حقيقة حياتنا في شرقنا الاوسط . .

و بعد مناقشات طويلة و مستمرة عن كيف و اين و متى ؟؟ و ماهو موقف عائلته هو ؟ . . داس رحيم على جرحه المكابر و ابتعد بالكامل عن فيفيان كي لايؤذيها، و لكنه صار يعاني من ذلك الجرح . . و اقترح عليه القس ان يتزوج من انسانة ملائمة لماهيته، لأن في الزواج حلاًّ لما يعانيه . .

. . . .

. . . .

و مضت الشهور . .

. . . .

حتى صارح خالته راجحة يوماً بما يعانيه بعد الحاحها عليه بمصارحتها و هي التي كانت تلاحظ اضطرابه و ضعف شهيّته و معاناته و لا تعرف من ماذا !! صارح خالته و تفاجأ بتفهّمها لمعاناته و هي المرأة القوية في العائلة، التي كانت تتفهمه و تتفهم تطلعاته و حقه في حياة هانئة، لأنها كانت تجد فيه شاباً طموحاً جادّاً و مؤدباً، فكانت ترعاه وتحبه وتعمل على ان يستقل و يعيش في اسرة تعود له، بالزواج من شابة مثله، و اوصته بالصبر و بانها ستسعى بكل قوتها لمساعدته على الزواج.

حتى فاجئته يوما بقولها :

ـ رحيّم لكيت لك لكطة (لُقْطَة). . تصير زوجتك و تعيشون احسن عيشة !! معلمة شابة من عائلة معروفة و مستورة، و هي ايضاً معلمة و من اقاربنا من جهة الأم و لديها أم فاضلة . .

. . . .

. . . .

تقدمت الخالة راجحة الى الحاجة امينة و طلبت يد ابنتها سعاد لإبن اختها رحيم، و بعد انواع الترحيب طلبت الحاجة امينة ان تمهلها فترة زمنية للـ (الإستخارة) و معرفة رأي والدها المرحوم الشيخ فخري من حوارييه و من الخليفة و سارسل لكم الرد عندما يصلني !!

اخبرت الحاجة امينة اخاها سعدون و اولادها و خليفة التكية الصوفية بتقدم عائلة الخالة رابحة لطلب يد ابنتها و انها تنتظر منهم جواباً او رأياً على ذلك الطلب، و عرّفت بالخالة رابحة بكونها ابنة خالتها و من مريدي الشيخ عبد القادر الكيلاني و تسكن في محلة الفضل . .

بعد اسابيع استيقظت الحاجة امينة و هي تردد :

ـ الف الحمد الله و الشكر . . صلّوا على محمد و آل محمد. استلمت جواب الشيخ فخري بصوته في المنام و هو موافق على تزويج سعاد لـ رحيّم متمنياً لهما الرفاه و البنين .

و كان تأثير جواب الشيخ فخري هو القاطع المطمئن لنفس الحاجة امينة، رغم ما تناقله ابناؤها بأن رحيم يتدخل بالسياسة و يلتقي بنساء سياسيات، و يصادق قسّاً مسيحياً و يشرب الخمر بين حين و آخر . . حيث اعتبرت ان المهم هو جواب الشيخ و رأي الخالة راجحة المعروفة بالاستقامة و التديّن و رجاحة العقل التي ضمنت سلوك رحيم الطيّب و المهذب، و تأييد خليفة التكية التي عبّرت عن ثقتها بالخالة رابحة . . و التقت الحاجة امينة برحيم و ناقشته في تصوره للزواج و تكوين العائلة و بالاطفال، و اعجبتها آرائه و طمأنته بانه لن يرى الاّ الخير . .

و قد عُقد مهر رحيم على سعاد، على يد القاضي طه العلام تلميذ الشيخ فخري و بحضور الحاجة امينة و الخالة راجحة و ابنتها رسمية ام يقظان و خليفة التكية و مساعداتها، و اخ الحاجة غير الشقيق سعدون و اخو سعاد، محمد و اختها سعيدة . . و اتفقوا على الزواج بعد ثلاثة شهور كي يتعرف احدهما على الآخر.

و صار على رحيم ان يخرج مع عروس المستقبل القريب صحبة سعيدة و ليس دونها كما كانت الاعراف . . و قدّم رحيم زوجته المستقبلية لأصدقائه و عوائلهم و رافقته بعبائتها الى خرنابات في ديالى صحبة اختها سعيدة، لرغبتها في زيارة مكان اقامته و التعرّف على اصدقائه هناك، و سلّموا على القس الشاب داود، الذي اقام لهما وليمة فاخرة في حديقة الكنيسة المعطّرة بروائح قدّاح برتقال بعقوبة الشهير و كان الفصل ربيعاً . . و مما قاله القس في تلك الوليمة :

ـ اهنئكما من كل قلبي و اتمنى لكما زواجاً سعيداً و اطفالاً اصحاء حلوين مثلكما . . و انصح بان تطول مدة خطبتكما الى موعد الزواج كي يتقوىّ حبكما و يترسخ اكثر، لأن الشوق يستعر كلما طالت فترة الخطوبة بعيداً عن الزواج الذي اتمناه لكما من قلبي، لأن الزواج يجعلكما امام واجبات و اعباء عليكما ان تتهيئا لها بتزايد مشاعر الحب و الشوق بانتظاره !

. . . .

. . . .

مرّت الشهور و أُعلن زواج رحيم من الشابة المعلمة سعاد، و سكنا في بيت الحاجة امينة ومعهم سعيدة البنت الصغرى للحاجة، و تقسّمت اعمال المنزل بينهم و سُرّت الحاجة باستعدادات رحيم و قيامه بعدة اشغال للبيت و احترامه لتقاليد الحاجة الدينية و الصوفية و ايمانها بها، و بمرور الوقت ازدادت ثقة الحاجة برحيم ، و عملت بدأب عبر معارفها الى ان استطاعت نقله كمعلم في الكريعات الواقعة في شمال الاعظمية و جزءاً منها . .

بعد معيشة رحيم و زوجته الشابة في بيت الحاجة امينة و محبة الحاجة لرحيم و هي تلاحظ انسجام الزوجين الشابين و حبّهما الجميل . . برزت مشاكل لم يُفكّر بها احد من قبل، منها مشاكل الأخت سعيدة طالبة الثانوية، التي فهمت خروجها مع الزوجين الشابين في فترة الخطبة و وجودها معهما بتكليف والدتها، فهمت ذلك بأنها هي الوصيّة عليهما و ان عليها مراقبة حركاتهما و ملابسهما و خروجهما و و كيفية جلوسهما و اين، و صارت لاتكف عن اطلاق الملاحظات و الغمز و اللمز، و عند عدم الآخذ بها كانت تنفعل و تصيح و تعمل والدتها على تهدئتها . .

من جهة اخرى، كان محمد ابن الحاجة يدخل البيت في اي وقت يريد و كأنه هو ابو البيت، و يتفق مع ملاحظات اخته سعيدة، بان هذا هو الصحيح و هذا خطأ و ان الحق مع سعيدة ! و يضيف عليها بانه شاهد رحيم مع سياسيين يتناقشون في مقهى " شريف و حداد " المطل على النهر . . حتى وصل بملاحظاته الى ان اصدقائه شاهدوه مع شابات في الباب الشرقي، الأمر الذي احزن سعاد و اجهشت بالبكاء لأن رحيم لم يخبرها و من يكنّ اولئك النساء، و لم تصدّق كلام رحيم بسهولة، بعد ان اوضح لها انهن معلمات عاطلات عن العمل و انه و زملائه يسعون لمساعدتهن على ايجاد عمل . .

و كانت القنبلة الكبرى بدعوة رحيم اصدقائه الى بيت الحاجة، و اثناء جلوسهم جاء الأخ الأكبر زكي الى البيت دون استئذان و سلّم على الأصدقاء و تفاجأ بهم لأنه عرف بعضاً منهم : زكي خيري، عامر عبدالله، عبد الرحمن الضامن الذي كان وجها قومياً بارزاً و آخرين . . و استمر زكي بجلوسه لمحاولة معرفة ما الذي يجمع قوميين بماركسيين و غيرهم، الى ان غادر . . فواصلوا جلستهم التي كانت الاجتماع التأسيسي لتنظيم " اللجنة الثورية " ، الذي كان يتهيأ للمشاركة بانتخابات مجلس النواب و تكوين الكتلة الوطنية لذلك . .

و بعد خروج الضيوف، بدأت نقاشات صاخبة و احتدّت و دخلت فيها الحاجة امينة :

ـ يعني شنو السياسة . . ابني كلّنا اسلام محمدية.

ـ يعني احنا شباب نسعى للدفاع عن حقوق الفقراء و تحسين احوال البلد.

ـ بس زكي يقول ان اصدقائك مطاردين من رجال الأمن و عليهم القاءات قبض، خاصة الاشيب و ابن الضامن منهم .

ـ حجيّة هذا كذب، احنا نسعى للمشاركة بانتخابات مجلس النواب بتكوين كتلة انتخابية و جهها الاساسي المناضل القومي التحرري عبد الرحمن الضامن ابن النائب الشهير الضامن عن اهل الاعظمية . . و الآخرين عن باب الشيخ و عنه و و و ان كانوا مطاردين لايسمحوا لهم بالترشيح للانتخابات . .

و سانده باقواله الصحفي الرياضي برهوم حفيد الحاجة الذي كان معهم . .

ـ ابني اني ما افهم هالمسائل، المهم تحمي ابنتي و عائلتكم و تبتعد عن السياسيين الزكرتيه اللي ماعدهم شغل و لا عمل بس الكعدة بالمقاهي و النقاشات . . هذا طويل و هذا قصير و هذا كذا ، ابني احرص على زوجتك و هي امانة برقبتك، و تجدني دائماً ساعدك الايمن !!

. . . .

. . . .

وجد رحيم في سعاد الزوجة و الاخت المخلصة و الرفيقة الوفية، حين قالت له :

ـ انا اتفهمك و الاحظ ماتعانيه لشهور من السكن مع اهلي، رغم ان الوالدة معنا و تساندنا و هي تحبك كإبنها . . انا افكّر ببناء قطعة الارض التي ورثتها من المرحوم والدي لتكون بيتنا و لكن علينا تدبير نفقات ذلك، مارأيك ؟ هل نستطيع ؟؟

اجابها بحماسة :

ـ عظيم عيني سعاد !! سأعمل ما بوسعي لتدبير المال و القروض .

ـ نعم !! و نعمل معاً . .

و بعد دراسات و نقاشات متنوعة عن البناء و الامكانيات المالية و كيفية توفيرها في وقت تزايد غلاء الاسعار، توصلا الى انهما يستطيعان بناء غرفتين و صالة، يقابلهما من الجهة الأخرى سرداب ضروري لمواجهة حرّ الصيف، اضافة الى مطبخ و مرافق، و الباقي من المساحة يمكن ان يكون حديقة لا بأس بها خاصة و انها بقعة تشرق عليها الشمس الى ما بعد الظهر . . كمرحلة اولى صالحة و كافية للسكن خاصة و ان سعاد كانت تنتظر مولودها البكر، مرحلة يمكن استكمالها لاحقاً عند توفر الشروط اللازمة و خاصة المالية . .

فقدما على قروض من المصرف العقاري و مصرف الرهون اللذين كانا يصرفان القروض وفق نسب الرواتب، الاّ انهما قدّما عليها رغم رواتبهما القليلة كمعلمين شابيّن . . و قد تفاجآ بالمنحة التي قدمتها لهما الحاجة امينة بارتهان ذهبها و منحة من التكية الصوفية، و المنحة التي قدّمها لهما القس داود من كنيسة المشرق، و الهدية المالية الثمينة التي ارسلتها الخالة وجيهة ام مزهر من الحلة، اضافة الى منحة من الاسرة التعليمية في مدرسة الشفق التي كانت تعمل فيها المعلمة سعاد . . و كانا قد استلما رسالة قلبية من يقظان من سجن نقرة السلمان يهنئهما فيها و معها مبلغ مجزي من عوائل السجناء السياسيين هناك . . (يتبع)

6

سعدون

جمعت حلقات الورق و الشرب و اللهو في مضيف ابو الهيل السيد عبد المحسن الذي كان مديراً عاماً في متصرفية لواء الحلّة، و هو ابن الضابط العثماني الذي كان يعود الى عائلة معروفة من نجد اهّلته لأكمال كلية الحقوق الحربية في اسطنبول و تزوج من ابنة احد رؤوساء عشائر الفرات الذي كان قادماً من نجد ايضاً . . جمعته بعبد الإله و سعدون .

وكانت الجلسات الجادة بينهم بين دورة ورق و اخرى تدور عن الإستفادة من الإنكليز و علومهم و معارفهم و عن التحرر منهم . . و تطورت تلك الجلسات الى النوادي الليلية في حلب ثم في بيروت، اضافة الى الملاهي بين بغداد و بيوتات الفرات . .

كان الملازم سعدون يبحث عن الزعامة كعديد من ضباط مقرات القيادة، و كان يقرأ الكثير من الكتب و الصحف الهابطة و التافهة عن آفّاقين تزعموا دولهم مثل هتلر و ستالين . . كما كان يردد. و كان يرى في الشعوب بكونها لا أكثر من قطعان ماشية، تسير وراء من تخاف منه و من سوطه، و كان يردد كلهم خرفان !! و ان السلطة لا تأتي الاّ من سيقان النساء و سراويلهن، اللواتي يجمعن لك اسرار كبار القوم و اهل القوة في سراويلهن، ان اهتممت بهن و اشبعتهن و رعيتهن بسريّة و بعيداً عن العيون . . هكذا كان يفكّر، و يصرّح بذلك للقريبين بما كان يفكّر به احياناً.

و كان يزداد تعمّقاً، في دراسة كيفية اثارة الفتن و المؤامرات، و كيفية اخمادها ايضاً، و دراسة الحسد و التوريطات لإسقاط بعض و تصعيد آخر، و عن حرب الإشاعات، التي كان يقول عنها: بعمل طَرَقَة صغيرة كاشاعة لقضية لاأخلاقية و سترون تاثيرها الهائل خاصة ان قصد بها امرأة معروفة بحسنها او ثروتها، او زوجة فلان و علاّن خاصة ان كان مشهوراً . . اضافة الى توريطات كبار من خلال حثالات مدفوع لها، سواء كانوا اشقياء او موظفين صغار و غيرهم، مع عدم نسيان ان الإحتماء يكون بالدولة و القوانين، و الإستفادة منها كدرع واقٍ في كل الاحوال . .

. . . .

. . . .

و فيما كانت احوال الفرات و ريف الحلة و الديوانية ملتهبة بسبب انتفاضات الفلاحين و الخلافات بين المزارعين و الملاكين، و مشاكل التسنن و التشيّع . . استطاع عبد المحسن كمدير عام في متصرفية الحلة تهدئة المواقف الملتهبة بالمنح المالية و بوضع اليد على اسباب تبني فخذ من عشيرة ما المذهب الشيعي الجعفري، و الفخذ الآخر السُّني الحنفي، رغم انهما من عشيرة واحدة و لماذا تحوّل قسم من السنة الى الشيعة و بالعكس، و وضع يده على ان المصالح المادية و حب الزعامة و النفوذ لا غيرهما كانا وراء ذلك، فيما يخص تقسيم الإرث و حقوق الارض و الماء، التي تختلف بين شريعة السنّه و الشيّعة . .

استطاع عبد المحسن بمساعدة نشاط و دبلوماسية و مغامرات سعدون، و بمساعدة مزهر و مجبل و عمّهما سعوّدي، استطاع حلّ مشكلة نزاع اكبر عشيرتين في المنطقة و ايصالهما الى التصاهر لتثبيت الصلح المبرم بينهما و قد اوصل تحالف العشيرتين الى نجاحات كبيرة للحكومة في مناطق الفرات، كآل جابر بقوة شكيمة رجالها الذين برز منهم الشيخ شعلان الذي ورثه بالشجاعة و البأس ابنه مجبل، الذي وجد السيد عبد المحسن نفسه يعتمد على بأسه و جماعته في السيطرة و في حماية اراضي العشيرة الممتدة في الفرات في مناطق و انحاء طويريج (الهندية)، و التفاهم مع العشيرة الأخرى على الارض و السقي . .

في وقت كانت افخاذ من العشيرتين تتبع المذهب الجعفري و افخاذ اخرى تتبع مذهب ابو حنيفة النعمان لأسباب عادت ايضاً الى الموقف من الحكم العثماني و الحكم الذي تلاه و للتقرب منه، و الى سبل الحفاظ على الأرض و الماء . . و قد لعب ذلك التنوع و التبادل دورا كبيراً في زيادة فعالية العشيرتين الموحدتين، بعد التفاهم مع آل سعد الذين اشتهروا بصناعة و اجادة الخشوت (المفرد خِشِتْ، و هو نوع من السكاكين الطويلة الشبيهه بالقامات) الذين كان الضابط سعدون يعود لهم . .

و بسبب تلك النجاحات الكبيرة في الفرات، تم استيزار السيد عبد المحسن، و ترتّب على ذلك النجاح انتقال سكن السيد عبد المحسن الى العاصمة بغداد، و سفر الضابط سعدون معه لخدمة الوزير و لمرافقته و حمايته، و استطاع الوزير بتوصياته وعلاقاته، ان يوصي بسعدون بالانتقال الى القوة الجوية التي تأسست حديثاً، و قد قبل فيها رغم قصر قامته، و ساعده في ذلك مباشرة الملازم " سعيد المصلوب " ابن صديق السيد عبد المحسن الذي كان من كبار تجار الموصل ... و بالمقابل ساعد عبد المحسن على ان تُشدّ لسعيد الرتبة العسكرية بعد اختيار السيد مولود نائب الوزير عبد المحسن ايّاه كمرافق له ... و صار بعد ذلك صديقاَ لـ سعدون، و نُسّب الى الشرطة العسكرية (الانضباط العسكري).

و هكذا استطاع سعدون عبر راتبه من ديوان الوزير، ثم من مخصصاته كمتدرب في القوة الجوية التي تأسست عام 1950 ،ومن الإكراميات والهدايا و الرشاوي ان يؤمن له مورداً شهرياً جيداً

يؤهله لدفع ايجار سكن جيد بدل الثكنة العسكرية، و بدأ بالسؤال و الاستفسار عن بيت للايجار مع تفكيره و تساؤلاته بمن سيعتني بالبيت، رجل ام امرأة و من ؟؟ لأنه لا يطيق اعمال المنزل من كنس و مسح و تنظيف و طبخ !!

بعد نقاشات متنوعة اتفق مع فكرة سعيد المصلوب بالسكن في بانسيون نظيف يقدم الطعام بوجباته . . فكلّف سعيد الجندي المرافق له جورج، بمساعدة سعدون و مرافقته الى نزل لعائلة ارمنية من العوائل التي اضطرتها المذابح و المعارك والأحداث في جنوب تركيا وفي فايدة . . الى الهروب و الهجرة . .

و صار سعدون يسكن في بانسيون راقي في محلة البتاوين في جنوب بغداد . . حيث تزايد اختلاطه مع عدد من العوائل المسيحية الفقيرة التي اضطرتها ظروفها المعاشية الصعبة و القاسية في الريف الجبلي في مناطق كردستان في شمال البلاد، بسبب ظلم الأقطاع و بسبب الأضطهاد الديني و القومي . . فاشتغلوا بشتى المهن كي يعيشوا ، و خاصة في البارات و المراقص الحديثة، كبوابين و خدم و منظفين و آخرين منهم كسمسارين و قوادين . .

وتزايد اختلاطه مع عدد من نزلاء البانسيون الاجانب من العاملين في المصالح البريطانية، و قرر ان يصاحبهم لتقوية لغته الأنكليزية، بعد ان عرّفه عليهم صديقه سعيد المصلوب الذي كان يتكلّم الأنكليزية بطلاقة . . و هو دائب على اللغة الانكليزية باعتبارها اللغة الأساسية في مدرسة الطيران العسكري .

كان سعدون متأنقاً متعطراً دوماً، و يحمل تحت ابطه مسدساً، و كان واضحاً لمن يقابله بكونه مسلّحاً، و قد احتمى به كثيرون و اغدقوا له العطاء مقابل الحماية، حتى صار ينظّم ايرادات ذلك في تشكيل مورد معتبرٍ اضافي له. وبقدر ما كان سعدون نشيطاً في اعماله و كثير الجدّ، الا انه كان شرّاباً عربيداً للخمر، و مهووساً بالنساء الى حد اللعنة . . وقد اكثر من ارتياد بانسيوناً لأمرأة اربعينية تدعى ماري امتهنت السمسرة، و كانت تهتم به و تسعى لأرضاءه، بعد ضمان سعيد له و تعريفه عليها.

ولاحظ سعدون بصمت الصداقة الغرامية القوية التي ربطت ابنتها ذات الجاذبية الجنسية الخيالية جوزفين المدلّعة باسم جوزة، بسعيد رغم امتهان جوزة الدعارة مقابل مبالغ خيالية، حيث كان يتردد عليها في مخدعها ضباط متنوعون بريطانيون و عراقيون من الرتب العالية، وسط سكوت سعيد و عدم تدخله، معتبراً ان ذلك شأناً خاصاً بها، مادامت لاتثقل عليه بمصاريفها و ملابسها الانيقة و عطورها، التي كانت تشتريها من باريس . .

. . . .

. . . .

ذات خميس و بينما كان سعدون جالساً عند محل زياد الشلاتي للدانتيلا و الازرار المنوّعة، كعادته في اماسي الخميس حيث يجلس عند دكان صديقه زياد الملقّب بـ " الشلاتي " في سوق دانيال للحاجات النسائية، و هو السوق المتفرّع عن سوق السراي، والذي تؤمه النساء في العادة . . لجمع الاخبار لقريبه الوزير و للتمتع برؤية النساء اللواتي في العادة يكُنّ بلا غطاء وجه او سافرات، و التمتع بمناظر اثدائهن نصف العاريات خاصة اثناء تفتيشهن في المحل، عن حاجات في الاسفل و يضطررن الى ان ينحنين باقصى ما استطعن للبحث عن الاجمل و الافضل، و منهن من كنّ تتمتعن من جانبهن ايضاً بنظرات رجل فاحصة على الاقل، نظرات تعبّر عن الاهتمام و الرغبة بجمالهن و جمال اعضائهن ايّاها. و كذلك حين كان يلتقي بـ الشلاتي في نزل للمسافرين في محلة التوراة، الذي يؤمه باحثون عن ليالي حمراء . .

جاءت امرأتان قدّر ان احداهما ام و الثانية ابنتها، كانت الأم تلبس ملابس عادية و تلف شعرها بمنديل حريري، وكانت البنت تلبس فستاناً من قطعة واحدة لبست عليه صداري داكنة اللون مطرّزة بحبات معدنية رقيقة و دائرية الشكل لامعة كانت تدعى باللهجة الشعبية (بُلَكْ)، شعرها الكستنائي معقوص خلف الرأس، ذات عينين عسليتين .

اثار منظر المرأتين السافرتين انتباه سعدون كالعادة واثاره اكثر جمال الشابة ذات البشرة البيضاء المائلة الى الأحمرار المثير، بعينيها الجميلتين الشبيهتين بعيني قطة جميلة جذّابة، كانت تنظر بشكل مباشر نظرات متعالية تزيدها جاذبية و وحشية، كما ترائى له .

قدّر سعدون من متابعته تعامل الأم مع البائع زياد الشلاتي ، " انها على الأكثر خيّاطة " كما حدّث نفسه و تأكّد بذلك بعدئذ من زياد . . كان سعدون يتابع الشابة بكل حوّاسه ملاحظاً شعوره بتزايد دقات قلبه و زيادتها عنفاً ثم بحركة في عضوه، حتى التقت عيناهما و شعر بخدر لذيذ يسري في جسده . . فيما كان وجهها يتضرّج حمرة . .

وبينما كانت السيدة تتحدّث مع البائع ويتحدّث معها، قال سعدون لنفسه :

" لابدّ و انها ليست المرّة الأولى التي تزوره فيها ، او انها احدى زبوناته الدائمات المجئ الى دكانه ، نظرات الفتاة اليّ تدل بلا جدال على انها تتجاوب مع نظراتي " . .

لاحقهما لاهثاً من شدة الانفعال في السوق، و الى سوق البزّازين . . و لم يحصل على اكثر من نظرة اعجاب لامعة، و رجع الى صديقه زياد متقهقراً جارّاً اذيال الهزيمة . . و فجأة كسر خوفه من تنزيل نفسه و التعبير عن احساسه لصديقه و سأله ان كان يعرفهما، فقال زياد :

ـ الأم خياطة و تأتي في العادة مرة كل اسبوعين مع ابنتها او بدونها لشراء حاجات للخياطة، و ان راقبت لهجتها يكون من الواضح انها من مسيحيات الموصل و على الاكثر من اللاجئين من المذابح التركية بحق اهل الديانات غير الاسلامية . .

في تلك الليلة عاد سعدون الى بانسيون ماري و استمر بالشرب و لم يستطع النوم رغم سكره و بقي متقلباً في فراشه و تارة يخرج لبار البانسيون و تارة الى فراشه . . . لم يعرْ اي اهتمام لأية ممن رغبن به تلك الليلة في البانسيون، حتى وصل بالطفهن اليه ريتا الى ان تخلع سروالها و ترميه بلطف على وجهه بعطره و هي تهمس " سعدوني . . سويّلك همة . . صدّقني من هسه انت منثار كما اشاهد بعيني " . . " زين ارافقك بهدوء و دون كلام الى السرير"، لم يجب و هو يردد بقهر (رمتني بسهمها و انسلّت) واضعاً عضده على رقبتها و يده تداعب ثديها الطري النافر. ساعدته على خلع ملابسه و هي تداعب عضوه الذي لاحراك به، الذي بقي دون حراك حتى داعبته بثديها و يدها تدور بلطف على مؤخرته . . فتحرّك، و انسلت معه تحت الغطاء . .

. . . .

. . . .

 

بعد ان نام قليلاً عند الفجر، استيقظ سعدون و وجه الفتاة لايغادر خياله، و في اثناء الفطور سألته ريتا:

ـ كنت تردد امس انه اصابك سهم او سكيّن و السلّ، هل تعني مرض السلّ ؟؟ يعني انت معاشر وحده عدها سلّ ؟؟ ماتخاف على نفسك و عليّ ؟؟

ـ لا عيني ريتا ياسلّ يا بطيّخ، ماكو هيجي شي . . كنت اخرّف بسبب المشروب اللي اعتقد انه كان مغشوش !!

ـ الحمد الله آني هم حسيّت هالشكل !!

و لبس ملابسه العسكرية و مسدسه و تحرّك فوراً الى صديقه زياد في سوق دانيال و سأله رأساً :

ـ هل سيأتون هذا الخميس ؟؟

ـ مممماماما . . . ما ادري بالضبط بس اكيد الاسبوع القادم لأنها ارادت التأكد هل وافقت الازرار لون القميص الذي تخيّطه و يمكن اكثر من قميص . .

ـ عزيزي زياد اكتب اليك رقم تلفون البانسيون و تلفون مكتبي و تلفون الثكنة . . ان لم اكن هنا معك عند مجيئهم اتصل بي فوراً و اخبرني !!

و دخل مع زياد الشلاتي في نقاش حول زواج المسلم بالمسيحية و لماذا محرّم ؟؟ و لماذا المسيحيون يرفضون تزويج بناتهم لمسلمين و المسلمين يرفضون تزويج بناتهم لمسيحيين ؟؟

قال زياد :

ـ على حد علمي ، انه في الزواج يعود الابناء لدين آبائهم عدا اليهود فانهم يعودون الى دين امهاتهم . . و بما اننا دولة مسلمة، تحافظ الدولة على ديانة المواليد الجدد ليكونوا مسلمين و هذا يثير المسيحيين و يمكن حقهم لأنهم سيخسرون ابنتهم و اطفالها، لأن القانون عندنا لحد الآن يفرض على المسيحية الاسلام ان قررت الزواج بمسلم، و ان تغيّر هذا القانون بان تحتفظ المسيحية بدينها في هكذا حالات، تقل المشاكل بالتأكيد.

و لذلك هم حازمون في هذه المسألة و تنتشر قضايا الثأر و الغيرة على دينهم، من جهة اخرى فإن المرأة المسيحية اكثر تحرراً من المسلمة، فالحجاب غير مفروض عليها، و لا مفروض عليها البقاء في البيت، فالمرأة المسيحية تشتغل و تختلط بالمجتمع حالها حال الرجل، و الاختلاط عندهم عادي من الطفولة اضافة الى شرب الخمر بالنسبة للبالغات . . و هي امور تجعل نساء الطرفين في عالمين مختلفين . .

. . . .

. . . .

و في مساء الخميس اللاحق و بينما كان سعدون جالساً على مقعد امام دكان صديقه زياد و هو بملابسه العسكرية و مسدسه . . جاءت الام لاهثة من ثقل لفات القماش التي كانت تحملها، و لم تكن ابنتها معها، فوقف سعدون لا إرادياً و بقي صامتاً و ملئت الحمرة وجهه . . و بعد التحية طلبت الأم ازراراً اضافية لما قد اشترته في المرة السابقة . . حيّاها زياد و احضر لها ما ارادت و قال :

ـ تبدين متعبة خاتون و لم تأتِ معك الخاتون الصغيرة اللي اعتقد انها ابنتك.

ـ نعم و الله تعبانة و ابنتي لم تأتِ معي لإصابتها بنزلة برد . .

تدخل سعدون قائلاً :

ـ خاتون لا تهتميّ انا مستعد لحمل الحوائج و ايصالك للمنزل بسيارتي. و نظر الى زياد بقوة متمنياً ان يقول شيئاً يجعل الأم توافق، و استجاب زياد بسرعة قائلاً :

ـ اقدّم لك سعدون و هو ابن عميّ و انسان طيّب حاضر للمساعدات الضرورية و يخفف عنك الاحمال.

اجابته بابتسامة :

ـ و انا كثيرة الامتنان و لكن بيتنا بعيد يقع في منطقة الغدير في اطراف بغداد، يمكن زحمة عليك !

ـ ابداً يللا . .

وضع سعدون الاحمال بسيارته الدودج الحمراء و دعاها للجلوس على المقعد الامامي، الاّ انها رفضت قائلة قد يُساء تفسير ذلك عندنا و استسمحته مستأذنة بالجلوس في الخلف و انتظرت، و جلست في الخلف و هي تنظر الى قيافته العسكرية الجويّة بنجمتين على كتفه، بعد ان ابتسم بالموافقة . .

و على طول الطريق استمرا بالحديث معاً، و استطاع ان يكوّن صداقة و الفة بينهما، و عرف بانهم آثوريين من الخابور، و دخلوا في معارك مع الجندرمة الاتراك و مع انواع العصابات التي كانت ترعاها دول كبرى، و خسروا اباهم و اخوين، و بقيت الام و ابنتها من العائلة، و يسكن بالقرب منهم عمّهم الذي خسر ابناُ، و يعيش الآن مع عائلته قربهم . .

بعد ماقارب الساعة، دخلا الى منطقة الغدير شبه القاحلة و من منطقة مرتفعة من الشارع اطلّت السيارة على صفوف من البيوت البيضاء، مصفوفة و كأنها مخيم عسكري، و بعد الشارع الرئيسي دخلت السيارة الى طريق فرعي و اشارت الى بيتها المرقم 8 ، فاوقف سيارته و انزلت المرأة حوائجها و هي تلحّ عليه بتناول العشاء معهم و هو يعتذر و بالحاحها و وصولها الى " نبني صداقتنا بالخبز و الملح و الاّ فانت ترفض صداقتنا " ، نزل عند طلبها و حمل معها بعض الاغراض . .

و سلّم على الصبية الحلوة " الماس " التي عرف اسمها من امها، و عرف ان الام تدعى " ياسمين " و على الطعام اللذيذ و بعد انواع الاحاديث و استراقه النظر كلما سنحت الفرصة، الى الماس التي وجدها فرحة بوجوده رائحة غادية لخدمة المائدة . . شرب قدحاً صغيراً من الشراب الذي اتت به الام، بصحتهن !

و بلغة عالية التهذيب و بشعور من الخجل في مرّة من المرات القليلة في حياته . . اوضح لهما استعداده الكامل لمساعدتهما و في اية حاجة، و اعطى لهما ارقام تلفوناته للحالات الطارئة المستعدّ لها و هو الضابط و مكتبه في ديوان وزارة. اتفق مع الام في زياراتها الى سوق دانيال على الاوقات التي يكون هو فيها هناك، بشرط ان يخدمهم بسيارته مقابل عشاء المنزل اللذيذ عندهم في ذلك اليوم لإشتياقه لطعام المنزل لأنه يعيش عزّابي، فوافقتا بفرح على ذلك، خاصة و انه صار معروفاً لهم من عناوينه و من كونه يعود الى الوزير الفلاني و يعمل في ديوانه.

. . . .

. . . .

و من حي الغدير ذهب سعدون بسيارته الى بانسيون ماري، و التقى هناك بصديقه سعيد المصلوب الذي وجده غارقاً في حضن جوزة و استأذن منه للذهاب الى مائدة اخرى بانتظار ريتا التي وجدها بملابس تشبه المايو البكيني مرتدية عليها روب شفاف و هي تجالس ضابطاً بريطانياً كبيراً و كانا غارقين بالحديث و الضحك و يشربان من زجاجة ويسكي فاخر غالي الثمن و كانت الزجاجة شبه فارغة . . و بعد فترة قصيرة بدا ان الضابط البريطاني كان قد انهى ما جاء من اجله مع ريتا، او شاهدها و هي تتلصلص على سعدون مبتسمة و بعيدة عنه، و استاذن منها و ذهب . .

فقامت ريتا و ذهبت مسرعة الى سعدون مرحّبة به، و سعدون يحاول تقليد سعيد في لامبالاته من زوار جوزة. قال سعدون :

ـ ها شلونها الاموّرة . . يبيّن هسه القيادة البريطانية تزورك ؟؟

ضحكت ريتا ضحكة رنانة و هي تقول بهمس :

ـ يبيّن المطي سقط في غرامي . .

ـ شلون يعني ؟

ـ يعني اخذ المقسوم و يريد بعد، و لم اسمح له . . و بعد ان اخبرني بالقوات الضاربة الجديدة التي اتت من بريطانيا و كان يرافقها، قال انه يريد الزواج منيّ، او يرتبط بي بالشكل الذي يناسبني . .

ابدى سعدون عصبيّته قائلاً :

ـ يضحك عليك هذا الكلب، لاتصدّقيه !!

ـ ها غرِتْ ؟؟ و هي تبتسم من غيرته عليها . . بس انت ماتهتم بيّ، طبعاً آني هم ابحث عن نصيبي . .

فعانقها بقوة و هو يقول : الحق معك و سأتجاوز اخطائي و سنتكلم بالتفاصيل . .

ـ يعني صدك انت تحبني ؟؟ و الله من الآن لن آخذ منك فلوس عن كل مرّة، بس انتظر هداياك !

و سحبها من يدها و هو يربّت على مؤخرتها بلطف نحو غرفتها، و هي تحلّ رباط الروب . . بعد ان شعر بعمق نفسه انه ضامن ان الماس ستكون له وحده، الأمر الذي قوىّ عزيمته و رجولته !! (يتبع)

7

تحطم طائرة

ازدادت لقاءات سعدون بسعيد اكثر من السابق، ليس في بانسيون ماري وحده و انما في مكاتب العمل و في النزهات و المقاهي، و ازدادت نقاشاتهم حول البلد و الانكليز و ابن عمه الوزير عبد المحسن و مواقفه الوطنية التي تساندها مواقف نائبه السيد مولود والد سعيد و ازدادوا تعاهداً على موافاتهما باحدث الاخبار و المعلومات التي يمكن ان يستقوها بكل الوسائل، و خاصة ممن هم على احتكاك برجال القوة و النفوذ في البلاد . .

و توصلا الى ضرورة الاهتمام اكثر بريتا و جوزة لأنهما يملكان اكبر رأسمال في تلك العلاقات، و اضاف سعيد :

ـ لأنهما على احتكاك و صداقة ليس مع كبار الضباط الانكليز فقط، بل مع كبار الضباط و الموظفين العرب و العراقيين ايضاً.

و اتفقا على الكتمان و على ضرورة الاستفادة من علوم و خبرات الانكليز و العمل على مكافحة استغلالهم للبلاد من كل النواحي و على تحرر البلاد من التبعية للاجانب . . و من كثرة نشاطاتهم كوّنت صلاتهم و علاقاتهم، مايشبه اتصالات و علاقات منظّمة صارت تكبر بمرور الوقت، و توصلا الى ضرورة اقناع ماري بان تجلب فرق استعراضية راقصة اوروبية مثيرة تؤدي كل الخدمات للزبائن العرب و العراقيين، لتقوية معلوماتهما عن الضباط و السياسيين العراقيين و العرب و فرز من هم وطنيون و من هم عملاء . . خاصة و ان ماري تثق بقدراتهما لكونهما ضباط ذوي نفوذ و في اماكن حساسة، و سيساعدانها حتماً في تذليل المعاملات المطلوبة . .

الاّ ان سعدون بقي على عناده في الزعامة و في اعتقاده بأن القوة تأتي من النساء و مما يملكن من سحر و جاذبية و اغراء، و الاّ لما كان لمؤسس الجيش الفريق جعفر العسكري محظية ارمنية و لما كان لكبار الضباط و اصحاب القوة انواع العلاقات النسائية الثابتة و العابرة، و الاّ لما التقى بكبار الضباط و هم يقضوّن اوقاتهم بفرح و نشاط مع غواني بانسيون ماري، و بينهم ليس الضحكات المجلجلة فقط بل و انواع الاحاديث الهامسة كما كانت تخبره ريتا . . و هذه المسائل تتطلب الشجاعة و المغامرة و توطين النفس عليها، كما كان يردد مع نفسه . .

و تصور سعدون ان ابن عمه الوزير لابد و انه و نائبه يعملان لإشعال ثورة ضد الانكليز، و ان عليه المساعدة في توفير مستلزمات ذلك و بكل الطرق الممكنة، و قد فهم ذلك من معارضته العلنية لقرارات الحكومة بعقد معاهدات عسكرية مذلة مع البريطانيين، و تسببت تلك المعارضة بأزمة كبرى للحكومة و بانطلاق تظاهرات شعبية متزايدة في العاصمة بغداد . .

من جهة اخرى و من كثرة تردده على بيت السيدة ياسمين و ابنتها تعرّف سعدون على عم الماس السيد ميخائيل (ميخا) الذي كان فورمن في تنظيف المجاري و لديه فريق عمل في ذلك المجال، و قد عرف منه بأن هناك ثوّار آثوريين في الجبال يحقدون على البريطانيين لنكثهم بوعودهم لهم ثم لرفع يدهم عنهم لإنقاذهم، حتى صاروا هم و عوائلهم مطاردين من حلفاء البريطانيين بالسلاح . . و هم على علاقات قوية مع قادة كرد يواصلون ثورتهم من اجل حقوقهم القومية، لعبت قراهم دوراً لاينكر في انقاذ و مساعدة الآثوريين من المذابح آنذاك . . و بتواصل لقاءاتهما و نقاشاتهما، كسب سعدون ثقة العم ميخائيل و عرف منه انه على صلة وثيقة بثوّار الجبال . .

الاّ ان كثرة تردد الضابط سعدون على بيت ياسمين و جلوسه طويلاً هناك مع امرأتين وحيدتين في ذلك المحيط الآثوري الضيق من اللاجئين، تسبب بالكثير من القيل و القال بحق المرأتين، و حيكت انواع القصص و الشائعات اللاأخلاقية حولهما، لعب فيها شابيّن حالمين بالزواج من الماس، و اهلهما ايضاً الذين لعبوا دوراً كبيراً فيها، اضافة الى الكثير من الحاسدين لقيام ضابط بخدمتهما . . حتى وصل الامر الى الم و غضب ياسمين الأم و دخولها في مشاجرات كلامية مع جيرانها، و وصل بالماس الى ان تترك المنزل كلما زارهما سعدون، تاركة الام تتعشى لوحدها مع سعدون باعذار متنوعة . .

و تزايد الم سعدون مما يجري و تزايدت استفساراته من الأم " ماذا يحصل ؟ هل تصرفتُ انا تصرفاً غير لائق بحق الماس ؟ هل صارت تكرهني ؟ انا بالحقيقة احبكم و احب ياسمين " و قال الجملة الأخيرة و الدماء تصعد الى وجهه " و كانت تجيبه دائماً " احنا هم نحبّك لانك صرت واحد مننا، الماس صاحبة مزاج، مرة هيج و مرة هيج " . .

الى ان اخبرت الأم ياسمين سعدون، بعد مشاجرة كلامية مع الجيران و كان جالساً في صالون البيت " عزيزي سيد سعدون، احنا ريفيين و نجونا باعجوبة من الموت بسبب المذابح المستمرة بحقنا، نجونا بانقاذ بعضنا البعض و بوقوفنا حتى الموت معه، و لدينا تزمّتنا و تقاليدنا اللي هي سرّ بقائنا في الحياة حتى الان، و نحن صريحين مع بعضنا، ابوابنا دائماً مفتوحة بوجه بعض، و الآثوري اللي يزورنا يدخل بدون استئذان، الاّ الصداقة مع الغريب عن ملّتنا، العفو . . . علينا ان نقدّم انواع التوضيحات و التفسيرات على صداقتنا معه. . "

صعدت الغيرة برأس سعدون و قال :

ـ آني الهم . . و الله لأعلّمهم !!

بعد ان عرف مع من تشاجرت ياسمين، جلب ميخا معه و وقف امام ذلك البيت و صاح :

ـ و الله اذا ما تنهون هوستكم مع السيدة ياسمين، اكلب الدنيا عليكم . . اشتكي عليكم بالمحاكم و النتيجة يشمروكم انتو و غراضكم برّه . . ويلك انتو مكان ماتشكروني على رعايتي لإمرأة ارملة تشتغل حتى تطلّع خبزتها، ترموها باتهامات . . ولكم لا الله و لا المسيح و لا الاسلام يقبلون بذلك ياسرسرية . . انتم الاخلاقسزيّه . . و تشوفون !!

ارتجف ميخا من كلام سعدون و هو واقف صامت جنبه، لأنه لا يعرف ماذا سيحصل بسبب امرأة اخيه، و ماذا عليه ان يعمل ؟؟ و تحرّكا و جلس سعدون على بقايا حائط و اخذ يدخّن . . و بعد فترة عاد الى بيت ياسمين و معه ميخا و الاثنين صامتين، و وجدا جمعاً من الناس في باب المنزل، و ابتعد الجميع عن طريقهما مسرعين . . و دخلا البيت و وجدا امرأة الجيران التي تشاجرت مع ياسمين قبل حين و هي جاثيه على ركبتيها تقبّل يد و ركبة ياسمين معتذرة منها و هي تسبّ حالها و لسانها و تحلف بالمسيح بانها تابت الى العذراء مريم !! كما ترجم ميخا كلامها الى سعدون.

جلس سعدون بقيافته العسكرية و تحدّث بمنتهى الهدوء :

ـ ياسيدة ياسمين . . انا احب الماس على نيّة الزواج منها و اعتقد انها ايضاً تحبني، و سأكون خير سند لكم، في هذه الاوقات العصيبة . .

سكتت ياسمين ثم قالت :

ـ سيّد سعدون احنا يشرّفنا طلبك و الماس يمكن لديها نفس شعورك و لكن . . المشكلة مشكلة الدين و يستطيع عمها ميخا ان يشرح لك ذلك . . و حسب ما اعرف انه في هذه الحالة عليك الحصول على اذن من الحبر الاعظم لكنيستنا و ملّتنا و مقره الآن في قبرص كما اعرف، اذا تمت الموافقة . .

سكت سعدون مفكّراً تتقلبه اكثر من فكرة في مقدمتها، هل الدين عائق الى هذا الحد ؟؟ لاجئين و حسرة عليهم لقمة العيش و بهذا الموقف ؟؟ هل يشكّل الدين و ايمانهم به الرابط القوي في تلاحمهم الى هذا الحد ؟؟ ام هو ردّ الفعل الطبيعي البشري على سلوك الحاكمين المدّعين، بانهم يحكمون باسم الإسلام و يحاربون الاديان السماوية الاخرى و انهم مكلفون بذلك ؟؟ و لايُعرف ممن مكلفون ؟؟ ام ان الإنسان يحتاج الى قوة مادية و معنوية نفسية ليدافع عن وجوده، و يشكّل دينهم تلك القوة في ظروف المذابح الإجرامية المقامة ضدّهم ؟؟

الاّ ان سعدون فرح كثيراً بكلام ياسمين لأنه عرف ان الزواج ممكن . . بل و فرح كثيراً جداً و هو يلمح ابتسامة الماس الخجولة المطلّة من الكوّة بين الصالون و بين المطبخ، و هو يقول سابذل كل جهدي و ثقي باني سانجح !! و سأوفر لألماس حياة هانئة سعيدة . . و غادر سعدون المنزل بعد السلام مسرعاً و كأنما كان يركض من شدّة فرحه، بعد ان عادت اليه الروح و احيَتْه . .

. . . .

. . . .

و بعد ان سرّ صديقه سعيد بمشروعه للزواج، سأله :

ـ كيف ؟ هل تحب امرأتين في وقت واحد ؟ ماذا ستفعل مع ريتا ؟

ـ ريتا بالنسبة لي كجوزة بالنسبة لك . . اننا نهتم بهما و نحميهما و نصرف عليهما، مقابل مانحصل على معلومات منهن، و طبيعي نحن مستعدين لمساعدتهما ان ارادا ان يتزوجا بمن يحبّان . . انا لا اعتقد اننا نحبهما ذلك الحب من اجل الزواج و هما بخبرتيهما مع الرجال يعرفان ذلك، هما يداريننا و نحن نداريهما و نحميهما، حتى صرنا اصدقاء . . هل نسيت كيف حميناهن من الشقي (محمد ماما)

حين هدد ماري و العاملات عندها، حين هددهم بالطعن بقنينة كسرها على البار ؟؟ نحن لانضحك عليهن او نستغلهن و لا احنا من جلبهما او تسبب بجلبهما الى بانسيون ماري، و احتمال هناك من يشغّلهن لحسابه نحو اهداف لا نعرفها الى الآن و نحن حذرون . . هنّ بعملهن يعرفن الكثير من اسرار البلد من انواع الخرفان من الحكّام . . وافقه سعيد على كلامه الذي قوىّ علاقتهما اكثر من السابق و نظّمها نحو هدف مساعدة المناضلين الوطنيين .

و بعد مناقشات متنوعة عن كيفية الحصول على موافقة الحبر الاعظم، و آراء اصدقائهم في وزارة الخارجية و اتصالاتهم بمن يعرفوه في الممثلية العراقية في قبرص، توصّلوا الى ان الحل الوحيد هو ان يتزوجا في قبرص و يتسجلا هناك حيث لاتدقيق بمسألة الديانات و بحضور ممثل عن مكتب الحبر الاعظم هناك، و على سعدون و الماس ان يرسلا اوراقهما الثبوتية التي حُددت، على ان تكون مترجمة للانكليزية، و في حالة الموافقة . . سيرسل مكتب الحبر الاعظم رسالة مسجّلة تفتح بتوقيع المستلم و فيها بطاقة السفر و الفيزا كهدية من المكتب للزوجين الشابيّن . .

و غرق سعدون في توفير الاوراق الثبوتية و اصدارها و خاصة مايخص الماس منها، و في مساعدة السيدة ياسمين اسبوعياً في نقل الاغراض من سوق دانيال و التسوق الاسبوعي، اضافة الى عمله كمرافق للوزير عبد المحسن و مراسلاته و ضيوفه من انواع السياسيين و وجوه العشائر و المجتمع، في ظروف ملتهبة بسبب نيّة البريطانيين بعقد المعاهدة العسكرية الجديدة، التي كان يرفضها السيد عبد المحسن كاحد الوزراء البارزين في الحكومة آنذاك، لكون لا داعي لها للبلاد و لأنها ستكبّل العراق بقيود جديدة . .

من جهة اخرى، كان سعدون يفكّر كثيراً بما يقرأه في الثكنة العسكرية في اوامر القسم الثاني الخاص باطلاع الضباط ، و هو يلاحظ قوائم متواصلة باحالة عديد من الضباط و خاصة من الشباب على التقاعد، بتهم : الشيوعية و الصهيونية و الافكار الهدّامة، و كان يعرف قسماً من المحالين جيداً بكونهم من اكفأ الضباط، و اندهش اكثر بإحالة الضابط الطيار الشهير بكفاءاته و علمه العسكري . . جلال الأوقاتي . . و كان يتساءل مع نفسه و مع صديقه سعيد و عدد من الضباط الشباب المقرّبين، هل يريدون انهاء الجيش العراقي و معاقبته اثر نجاحاته في حرب 1948 مع اسرائيل ؟؟ و هو يتذكر كيف كان ابن عمه الوزير يقول بعصبية و الم : هي نفس السياسة . . تسريح الضباط الأكفّاء و عقد المعاهدة العسكرية الجديدة لإيفاد ضباط انكليز بدلهم !!

. . . .

. . . .

في ظهيرة احد الايام و هو في قاعدة الرشيد الجويّة و في خضم تلك المشاغل الكثيرة و المتنوعة، اتّصلت به السيدة ياسمين تلفونياً و هي شاهقة ببكاء مرّ :

ـ الله يخليك سيد سعدون . . انقذ الماس، الله يوفقك . . هاجت عليها آلام كليتها و لم تعد المسكّنات التي وصفها لها الطبيب تنفع، و يقول ضروري نقلها بسرعة الى مستشفى تتوفر فيها اجهزة تشخيص و تخطيط و انواع الفحوص الحديثة . . انا لا افهم فيها . . ارجوك بسرعة بسرعة !!

اضطرب سعدون و قد افقدته تلك المكالمة صوابه، المكالمة التي جعلته يخاف على الماس من الموت، و ان كل دقيقة هي هامة جداً للحفاظ على حياتها . . فذهب مسرعاً الى طائرة التدريب، و اخبر برج المراقبة بانه سيطير الى الغدير !!! و كان يعرف ان هناك مهبط طوارئ عسكري سابق متروك، اعده البريطانيون ايام مايس 1941 لمواجهة محاولة انقلاب عقداء المربع الذهبي العراقيين على سلطة الوصي على العرش عبد الإله، و انه لايزال مدرج على لائحة المطارات العسكرية . . رغم تركه و عدم استخدامه منذ سنين.

و كان يردد مع نفسه:

ـ لم اعرف ان الماس مريضة بالكلية . . ان شاء الله تكون بخير اسألك ربيّ . . الطائرة تختصر الزمن عشرين مرّة، ساحملها بالطائرة و ارجع بها الى مستشفى الرشيد العسكري، هناك عندهم كل شئ، و اذا لم تصلح طائرة التدريب لحملها لصغرها، ممكن احملها باية سيارة من الجيران . .

و رغم صياح برج المراقبة بالجهاز عليه بأنه لم تأتِ موافقة بالطيران . . بعد دقائق وصل منطقة الغدير و حسَبَ : بالنظر و التخمين و الدوران بالطائرة، حتى قرر اين موقع المهبط . . هبط على مهبط الغدير بسلام الاّ ان الطائرة بعد هبوطها و في سيرها على الارض و قبل ان تتوقف اخذت تجنح و تميل الى جهة و لم يعرف السبب، الى ان نزل من الطائرة و تفحّص الجانب الجانح و عرف ان السبب يكمن في ارتطام احدى عجلات الطائرة بصخرة ناتئة تسببت بتمزيق اطارها و تهشيم الاطار المعدني لها . .

حمد الله على ان الطائرة لم تتحطم و على نجاته . . لإنقاذ الماس، و اخذ يركض الى بيتها و هو تحت انظار اهالي الغدير الآثوريين الذين احتشد قسم منهم بهوساتهم و تحياتهم في باب بيت السيدة ياسمين . . مبدين استعدادهم لمساعدته بأي شكل و هم فخورين بوجود ضابط مسلم من الحكاّم يهرع لإنقاذ ابنتهم . .

حملوا الماس و هي تأنّ و تصيح من الاوجاع صحبة امها ياسمين . . حملوها بنقّالة عسكرية كانت في احد البيوت، الى سيارة بيك آب مغلقة بشادور احضرها سائقها الشاب الذي يشتغل عليها للاجرة، متبرعاً . . جلس سعدون جنب السائق، و الام و عمّها ميخا و زوجته جنب الماس، يعملون على تثبيتها مع الاغطية و التخفيف عليها من ارتجاجات السيارة السريعة على شوارع لم تكن مبلّطة

و تثير غباراً اقلّ من السابق لانها زُفّتت قبل شهر . .

بعد اربعين دقيقة وصلت البيك آب الى الباب الرئيس لمستشفى الرشيد العسكري، و سمح الحرس بعد ادائهم التحية العسكرية، بدخولهم فوراً بعد رؤيتهم للضابط الطيار الجالس في الصدر بقيافته العسكرية الميدانية ذات النجمتين . . و عمل سعدون كل مايستطيع لإدخال الماس للمستشفى بصفة قريبة ضابط طيّار، و ادخلت الى قسم الطوارئ للحالات الحرجة، امها كمرافقة رسمية معها، و تحت عناية و متابعة سعدون . .

و في تلك الأثناء ضجّ مجمّع الآثوريين في الغدير بانواع العواطف، اضافة الى القصص و الروايات و الأحاديث التي لايُعرف صدقها من كذبها عن البطل الطيار سعدون و حبيبته الآثوريّة :

ـ اعزائي هذا البطل الطيار فعلاً يحب الماس، و الاّ ماقام بكل تلك المغامرات في سبيلها

ـ صدك انسان شريف

ـ عطب الطائرة و خرابها هي مؤامرة بريطانية لتحطيم القوة الجوية العراقية . . صدك هاي طائرة تدريب لو طائرة خبط لزق . .

ـ هذه من الخطط لقتل الطيارين العراقيين، و جلب المزيد من البريطانيين ليحلّوا محلهم

ـ الحكومة غير راضية على زواج الطيار سعدون من آثورية

ـ يحكي اقاربي في جيش الليفي انه ممنوع ان يتزوج ضابط عراقي بمسيحية . .

ـ و المسيح . . اذا تزوّجوا سيكون هذا الطيار خير عون النا

ـ و العذره . . علينا نساعدهم و نبارك الهم زواجهم

. . . .

. . . .

و بينما اجريت عملية جراحية لألماس لإستئصال احجار من كليتها اليسرى و بقيت راقدة في المستشفى لتتمائل للشفاء و تخرج الى البيت . . استُدعي سعدون على عجل الى مقر وزارة الدفاع و أُحيل الى مجلس تأديبي عسكري فوري، قرر عدم صلاحيته للقوة الجوية و احالته الى القوات البرية حسب حاجتها . . بسبب عدم انضباطه و لتصرفه باملاك الدولة و تلفها بحماقة، و بسبب انصياعه لعواطفه الهائجة التي لاتُعرف غاياتها، و يُحرم من جدول الترقية المرشح له اصولياً . . حيث كان مرشحاً لنيل النجمة الثالثة ليكون نقيباً !

و عند مقابلته لإبن عمه الوزير عبد المحسن، انهال عليه بشتى النعوت التي لم ينطقها بحقه من قبل :

ـ تريد تهجم بيتي و سمعتي ؟؟ انا اواجه انواع الأعداء و المتربصين و سارقي قوت الشعب و هم يترصدوني و يحاولون ايقاعي بفخاخهم . . هل نسيت انت مرافقي و مدير مكتبي و موضع اسراري و تقديري ؟؟؟ بهذا تجازيني ؟؟ قلت انك احببت هذه الآثورية و هي تحبّك، و انا ابديت كل استعدادي لمساعدتك و لسفرك معها الى قبرص و و . . لكن ان تزورها بالطائرة و تحطّمها عند قدميها ؟؟ و اين ؟؟ في الغدير اللي فيها انواع الاشقياء و القتلة و المجرمين كما يصفوهم، و تجينا بحقهم يوميّاً انواع الشكاوي من (محترمي) مجلس النواب، اللي اكثرها كما اعرف ملفقة و كاذبة، و لكنها شكاوي مسجلة رسميّاً و تطالب و تطالب و تطالب بطرد هالمساكين من ضحايا المذابح . . الله لايسامحك تدخّلنا بهالمشاكل و هاي اكبر ضربة اواجهها حتى الان لتلويث سمعتي باني اعتمد على خير و اقرب مساعد لي يقوم بذلك و يُطرد من القوة الجوية، لأسباب لايصفوها الاّ بكونها تخريبية او لناس لا يحترمون القانون !! احنا مو بين اهلنا و عشائرنا نتحرك بكيفنا و نصادق من نريد نصادقه بحرية، احنا في دولة و خاصة انت، لأنك ضابط اللي جايّه من الضبط و الربط !!

(يتبع)

8

ذات صيف

بُني القسم الاول من البيت الكائن في محلة الشيوخ في الأعظمية، من غرفتين احداهما تطل على الشارع بشباك و الثانية خلفها تطل على حديقة البيت الصغيرة بشباك ايضاً تقع عنده وسائد نوم رحيم و سعاد. . و الغرفتان تقابلان السرداب الضروري بنائه، لمواجهة الصيف الحار الذي كان له مدخل خلفي، و بينهم الصالة . . و كانت الأسرة في ايام الصيف المعتدلة، تلتف مع الجدة الحاجة امينة على سقف السرداب بعد ترطيبه بالماء، و كان سقف السرداب المرتفع قليلاً عن ارضية المنزل، كان يطلّ على الحديقة الصغيرة و على طارمة كان يجاورها حائط الجيران الموصليين المرتفع، الذي كان يخضرّ بفعل نبات شجر الليف المتسلق الكثيف . . حين كان الناس يبحثون عن اثمار الليف، للغسل و التنظيف، و كانت العائله توهبه لمتسولين كانوا يبيعونه و يستفيدون من اثمانه . .
و في موسم الطماطة حين تهبط اسعارها الى الكيلو بفلسين، كان نساء العائلة و الاقارب و الجيران، يجتمعن لعمل معجون الطماطة، و يضعنه بعد اعداده في صواني كبيرة كي يجف في ذلك الصيف الشديد الحرارة . . و في صباح ذات يوم وجدنا نحن الصغار اثنين او ثلاثة من قارض الكاروب (الحفّار) في احدى الصواني الكبيرة لمعجون الطماطة التي لم تُغطىّ بالشاش او لأنهن نسين وضع الشاش عليها . . و اوضح لنا الوالد ماهو الكاروب و كيف يقتل النباتات بقضم جذورها، و علينا القضاء عليه عند رؤيته في الحديقة او في اي مكان رطب، و اوضح بانه يستطيع الطيران، مع الحذر كونه ينشط عند حلول الظلام .
و في تلك المواسم كانت تهبّ عواصف رملية كثيفة من الجزيرة العربية، و كانت تغطيّ ضوء الشمس لعدة ايام و تثير انواع الامراض للذين يعانون من ضيق التنفس و يبقى غبارها و رملها على الاسطح و الشوارع ما لم تُغسل . . و المشكلة المخيفة التي كانت تحصل احياناً ان تلك العواصف كانت تحمل عقارب طيّارة سامة، كان المعروف انها كانت تأتي من نجد في المملكة السعودية، و هي غير العواصف التي كانت تهب من البحرين و الكويت التي كانت تحمل اسراباً هائلة من الجراد، الذي قيل ان اهل البصرة و مناطق الاهوار كانوا يقلّوه بقليل من الزيت ويأكلوه . .
تقع محلة الشيوخ في الأعظمية و تطلّ على نهر دجلة، في المنطقة القريبة من ضريح الإمام ابو حنيفة النعمان، و تمتد عمقاً من ضفة النهر الى الداخل . . و كانت تتكون من قسمين، القسم الاول و هو القسم القديم الذي ضمّ آلاف الدور الصغيرة المبنية من الزمن العثماني، كانت تقيم فيها اعداد كبيرة من الكادحين و المعدمين و انواع الكسبة لإيجارها الرخيص و لكون اعداد منها كانت قديمة او آيله للسقوط ، و القسم الثاني المحادد للنهر، كان يضم الأحياء الأحدث بشوارعها النظيفة، و كان يضم انواع من البيوت الكبيرة و فيلات كانت تطلّ على النهر . . و كانت تسكنها وجوه بغدادية معروفة، لها مواقعها في الدولة و في الاسواق و في انواع المصالح . .
كان بيتنا يقع مقابل ساحة تطل عليها مقهى محمد راغب الذي كان يلقّب بالكاولي و يقال انه أُختطف من الكاولية في طفولته و عاش بينهم، الاّ انه استطاع الهرب منهم في صباه، و كانت المقهى من المقاهي الحديثة في ذلك الزمن، و ملتقى لمثقفين معروفين و سياسيين و لتجار و كبار الملاّكين، بعد اغلاق المقهى الأم الكبيرة الواقعة في نهاية نفس الشارع الفرعي في وقتها، و هي مقهى حجازي التي هُدّت و بقيت ساحة خالية . .
حتى صارت ارض مقهى حجازي، الارض التي كان يستقر فيها دورياً و حسب الطلبات، بياعو الملح المحمّل بأكياس على ظهور الجمال القادمة من الصحراء، حيث يستقرون هناك الى ان ينتهوا من بيع احمالهم، التي كان ينظمها تجار الجلود و الدباغون الذين يملكون شارعاً فرعياً بكامله و ببيوته لتنظيف و خزن الجلود . .
و كانت تقيم على تلك الارض من آن لآخر، مجاميع الكاوليه و الغجر بحميرهم و احمالهم المكونة من ادوات الاسنان، التجميل، الدفوف و مستلزمات الرقص، الذين لدى مجيئهم تحذّر العوائل ابنائها من الاقتراب منهم، لأنهم يختطفون الاطفال و خاصة الحلوات و الحلوين منهم . . و كان الاطفال يرتعبون عندما كانت تتعالى صرخات لا يمكن تفسيرها في الليل، كان الأهل يقولون . . انهم يختطفون اطفال او يخنقوهم ليكسبوا ثواباً حسب معتقداتهم ؟!!
و كانت الجدّات يحذّرن احفادهن من الاقتراب من شاطئ النهر في الظلام، لأن هناك انواع الوحوش التي تخرج من ذلك النهر العملاق كالطنطل و السعالي في الظلام، و يتجولون على الشاطئ للبحث عن الاطفال لإختطافهم الى الماء، و الله اكبر يمكن يأكلوهم او يأخذوهم معهم الى اعماق الماء، كما كانت جدتي توصف و نحن الصغار نرتعد من الخوف، و نلتزم بتلك التوصيات، و لكن لفضولنا كنّا نسأل الجدة، كيف يكون شكلهم ؟؟ لأنهم يزورونا في المنامات و نستيقظ من الرعب ؟؟
سكن في تلك المحلة الوجيه البغدادي الذائع الصيت آنذاك ناجي الخضيري، الذي كانت فيلّته قصراً كبيراً مشيداً على الطريقة الايطالية كما قيل، ملحقة به زريبة ابقار حديثة لتوفير الحليب للقصر . . و كان يطلّ على دجلة باطلالة كونكريتية مبنية لتصل الى ماء النهر، تحوي رافعات، لتنظيم حركة زورقين بخاريين، القصر الذي اشتهر بعقد الملك فيصل الاول فيه اول اجتماع لأعيان و وجوه العاصمة بغداد، بعد ان نودي به ملكاً.
و من العوائل المعروفة التي سكنت هناك، بيوت آل الضامن التي ضمّت سياسيين قوميين تحرريين و يساريين، الذين كانوا بعوائلهم يسكنون الشارع الفرعي الرئيسي، القريب مما يملكون من بيوت الجلود . . و كان رجال الامن السياسي يطرقون ابوابهم في فجر ايام عدة و لعدة مرّات، و لكنهم كانوا لايصلون الى المطلوبين منهم، و قيل ان السريّ كان يحذرهم، مقابل دفوعات . .
و سكنت هناك العائلة المعروفة، عائلة بيت محسوب الذي صنع ساعة ضريح ابو حنيفة النعمان على غرار ساعة روضة الشيخ عبد القادر الكيلاني القديمة المستهلكة . . و جرى تكريمه عدة مرات على قدراته، اضافة الى بيوت رجال دين من الشيخ فخري، الشيخ راجي، الشيخ احمد سامح و آخرين، و الى عائلة الملاح الموصلية التي كان ابنها الكبير استاذاً في كلية الصيدلة . .
اضافة الى بناية كبيرة مرتفعة، كانت مرابط ابقار السياسي المعروف حكمت سليمان بابوابها العالية المغلقة بإحكام، و الى بيت الهندي المهاجرين الاغنياء من الهند الذين كانوا يتعاونون مع رجال الامن للقبض على اليساريين، و الى السفيهة ام سناء قرج المحلة و بناتها طويلات اللسان و منافستها الخبازة لويزي التي كان ابنها يلتقي باشقياء متنوعين عندها . . و الى بيت السريّ ، الذي يمكن انه كان مفوضا في الشرطة، و لكنه كان معروفاً و يمكن شرائه . .
و في الطريق الفرعي الذاهب الى جهة النهر، يتفرّع طريق ذو فضوة في نهايته و يُغلق، حيث سكن آل العبايجي في بيوت متعددة و كان الوجه البارز لهم الضابط الرئيس هيثم الذي هاجم الكاولية بمسدسه مهدداً ايّاهم برميهم بالرصاص، ان وصلوا الى طريقهم . . خوفاً على بنات عوائلهم. و كانت لبيوت آل العبايجي، اشجار لالنكي (يوسفي) وارفة و محملة بتلك الفاكهة اللذيذة الغالية الثمن التي كان يندر وجودها في البيوت . . و كاطفال توّاقون لتك الفاكهة، كنّا كمجاميع من الاطفال نتسلق سرّاً اسيجتهم بكل حذر و تكتّم لننهب اللالكي الناضج المتدلي عند الاسيجة . .
و في الطرف الآخر من المحلة، سكن ضابط الداخلية الكبير السامرائي و عوائلهم، الذي كان يستلطف و يتعاطف مع الكاولية و الغجر، و الشعّارين الذين كانوا يرقصون كالنساء و يدّقون بالجنجانات النحاسية باصابعهم، كان الصغار يخافون منهم بوجوههم المحفوفة الخالية من الشعر و بشعورهم الطويلة التي يتمايلون بها كالنساء . . و كانت هناك دربونة مغلقة سكن فيها بيت ابو البيض الذين كانوا يبيعون البيض الطازج في بيتهم من اعداد كثيرة من الاقفاص الموجودة في حوش البيت، و من وجوههم برز عازف الجوزة في المقام العراقي شعّوبي ابراهيم، و سكن هناك التاجر الكبير الحاج الجلبي و بيت الهيتي . .
بمرور الوقت نشأ ذلك التنوّع من انتقال اهل المحلة القدماء بسبب وفيات كبار السن و نشوء عوائل جديدة من ابنائهم، ومجئ اوساط جديدة بين كادحة وكسبة غرباء لتوفر عمل ما في السوق العتيق و اثر افتتاح السوق الجديد، و لأعمال النقل و التسوّق و في حماية المرقد الديني، اضافة الى وافدين جدد من طلبة كلية الشريعة الاسلامية و عوائلهم و غيرهم . .
و قد ضغطت تكاليف العائلة الجديدة كثيراً على رحيم، فقد اخذ يعمل في مجالات متنوعة و خاصة في مسك الحسابات لأمانته و ثقة اكثر من شركة به، في ساعات مسائية اضافة الى عمله كمعلم . . و كانت التكاليف تنبع من ضرورة تأمين الأطفال، لأنه و زوجته يعملان في مجال التعليم و يغيبان عن المنزل، و اذا كانت الحاجة امينة تؤمنهم في بيتها و في مجيئها الى بيت رحيم و سعاد لفترة ، فانها لم تستطع المواظبة الدائمة على ذلك لأسباب متنوعة، منها المرض و الانشغال بالمواليد و بالتكية الدينية و بابنتها الصغرى التي كانت لاتستقر على رأي، و تعارض ان تكون والدتها كـ (خادمة) في بيت اختها سعاد و زوجها . .
فكان لابد من الإتيان بشابة ترعى الاطفال عند غياب والديهم، و استطاعت سعاد ان تأتي باكثر من شابة بالتتالي لذلك الغرض مقابل طعامها و شرابها و سكنها، اضافة الى اجرة تدفع لها، ساعدتها في ذلك عدد من زميلاتها المعلمات و عاملات مدرستها . . اضافة الى عناية الخالة وجيهة من الحلة بارسال شابات من العشيرة للمساعدة . . اضافة الى تلك التكاليف، كانت تكاليف اكمال بناء البيت، الذي أُكمل بناؤه بعد شهور . .
. . . .
. . . .
في احد الأيام اتفقت الحاجة امينة مع الحاجة ام ثامر على الذهاب الى حمام السوق، و اعدتا ماتحتاجانه من مناشف و ملابس و مؤونة فواكه لتناولها في الحمام، اضافة الى مناشف كهدايا للحمام و صاحبته بمناسبة زواج ابنتها، و اتفقتا على ان تأخذان حفيديهما معهما لحمل الأغراض للحمام، و اختارتني جدتي لمرافقتها و اختارت ام ثامر حفيدها فواز الذي كان صديق الطفولة و من عمري، لحمل الاغراض . .
فاخترقنا السوق القديم المسقوف، ماريّن بمحل التجهيزات المنزلية الكبير و الشهير، محلات رشيد شلال، الذي كان موضع ثقة الأهالي و كان يتحاسب مع محدودي الدخل بالحساب الشهري، و يقف لمن يثق بهم ايام المحن، و محل الحاج ياسين للقرطاسية و الكماليات، و ابو البوريات و محلات الدواجن . .
الى منطقة خالية، جرى تفليش ابنيتها القديمة للتأسيس لبناء جسر الأئمة الحديث هناك، و كانت تدور انواع الاحاديث عن شركات البناء و حاجتها الى الايدي العاملة مقابل اجور مغرية للفقراء، و شروط تلك الشركات بالكتمان لأنها وجدت لأكثر من مرة قطعاً آثارية ثمينة او دينية مقدسة اثناء عمليات الحفر هناك . .
و بعد تلك المنطقة الخالية، يأتي السور المرتفع لضريح الإمام ابو حنيفة، و الى يمينه زقاق عريض لمحلة الحمّام و سميّ بشارع الحمّام الذي يوصل الى محلّة السفينة و جسر الاعظمية الخشبي القديم . . و في مقدمة شارع الحمّام كانت محلات فواكه عطا اخوان الشهيرة ببيع الفواكه الطازجة و الخاصة المستوردة باسعار غالية، الاّ انه كان يهدينا مجاناً بعض الفواكه تيمناً بجدّنا الشيخ فخري . . و اهدانا منها هذه المرّة و هو يلاحظ جهدنا في حمل الأغراض.
و المحلات الاولى لحلويات نعوّش التي توسعت و اشتهرت بعدئذ بمحلاتها الكبيرة في جهة اخرى من المنطقة لتبيع الذّ انواع الحلويات و باسعار متهاودة لأبناء و عوائل المنطقة، و كان البعض يشتري منه صواني البقلاوة التي تأخّر اخراجها من الفرن و تشوّه منظرها و باسعار رخيصة، كان الصحفي الرياضي برهوم يشتريها منه لتوفير وجبات فطور لذيذة و رخيصة لأكثر من عائلة، فكسب حبّها و التفافها حوله، حتى جمعت له اكثر من عائلة تكاليف دورة اللغة الانكليزية الصحفية برموزها السريعة، التي جعلت منه معلقاً رياضياً بارزاً في البلاد . .
وصلنا الحمّام و دخلنا الى الصالة، و دفعت جدتي الأجرة بعد احتسابنا نحن الاطفال كنفرين كاملين . . نظرت صاحبة الحمام الينا نظرات فاحصة من فوق الى تحت و سألت جدتي :
ـ حجيّة امينة كم اعمار الاطفال الله يحفظهم ؟
ـ بحدود خمس سنوات، مو هيج ام ثامر ؟؟
ـ بلي و الله ام محمد !
و قالت جدتي :
ـ جئنا بهما الى الحمام ليساعدونا في حمل الاغراض و الهدايا للحمام . .
ـ ممنونين جداً حجية بس السؤال واجب كما تعرفين لأن الحمام حمام نسوان !
و بعد مرورنا بممر عريض لتبديل الملابس و الى ممر آخر انتشرت فيه ابخرة المياه و روائحها الخاصة اضافة الى روائح انواع الصابون و العطور النسائية، و الى انواع الأصوات النسائية و هي تغنيّ الاغاني و الاهازيج الشعبية على وقع الدفوف، و المدائح النبوية . .
حتى دخلنا صالة الحمام و دكّاته . . و انشدهنا نحن الصغار برؤية انواع النساء العاريات و مناظرهن التي كأنما سحرتنا، و نحن نشاهد بطن زوجة المختار و مؤخرة بنت الجيران الرشيقة و انواع الأثداء الرجراجة الشابة، و بين ضحكات الصبايا بوجوهنا و هنّ يتدلّعن عاريات بضحكات مجلجلة محاولات اظهار مفاتهن و اعضائهن لنا نحن الاطفال اثناء تغسيل جداتنا لنا حين كنّا نصارع ماء الغسل كي نشاهد بملئ اعيننا ما كان ممنوعاً و محرّماً و يُعاقب عليه حدّ الموت لمن يخالف، و كنا نحاول رد تحياتهن لنا بإيماءات ايدينا الصغيرة . .
كانت هناك رغبة غير مفهومة لنا في صراعنا لمشاهدة النساء العاريات و محاولة انفاذ نظرنا الى الزوايا المحرّمة و المظلمة من اجسادهن، في صالة حمام امتلأت بانواع النساء العاريات و هن يغتسلن في نقاشات زواج و طلاق، و نقاشات هامسة، و كأنما كانت هناك فحوصات لصبايا تقوم بها نساء مسنّات قيل انهن يبحثن عن زوجات صحيحات البناء و التكوين، لأبنائهن الشباب . .
و نقاشات بأن فلانة بيّن عليها الحمل و الحمد لله، و فلانة عاهرة بنت عاهرة (شوفي شلون تتغنّج و مفتّحة كل ابوابها بلا حدود) و لم نفهم اية ابواب و دققنا النظر فيها و لم نجد اية باب، الاّ انها كانت شابة رشيقة بيضاء بشعر فاحم طويل مسدل الى خصرها، ذات نظرات ساحرة بلمعانها . . قيل انها محظية الحاج سلطان الثري . .
و وسط ذلك المهرجان النسائي و استمتاعنا به، واجهتنا نظرات جادة غاضبة من زوجة المختار و زوجة مدير مخفر الشرطة، و هنّ يولولن بأن ( ضاع العَرْض و الشرف . . ضاع)، و ذهبتا الى صاحبة الحمام مطالبات بإخراجنا لأن وجودنا يخالف الشريعة، و بأننا نثير الشابات الغبيّات اللواتي (صرن يتباهين باظهار عوراتهن لهم) . . و تجيبهم صاحبة الحمّام :
ـ يابه هذول اطفال بعمر خمس سنوات ! و انا اكثر واحدة هنا تصون الشرف و العفاف !
ـ شوفي اذا ماتطلّعيهم و الله نسد الحمام عليج و كولي ما كالت سريّة خاتون !!
و ذهبت صاحبة الحمام الى جدّتي و اخبرتها بهمس بضرورة اخراج الطفلين و الاّ هم يحلفون بأن يسدوّن الحمام، و يسووها تره حجيّة . . وحده مرة المختار و الثانية مرة مأمور مركز الشرطة !! الله يخليّج حجية يطلعون و ارجّع الج اجرة النَفَرين اللي دفعتوهم عنهم، يا دافع البلاء يا الله . . حجيّة هذول مو اكثر ممن اصابهن مسّ، خاصة مرة المأمور اللي زوجها يوميّة نايم و ايّا وحده غيرها من مرة ابو الطرشي الى مرة . . آغا و ذكرت الأخيرة بهمس، و يحاول يسكّتها بالفلوس و باظهار تنفيذه لما تريد و تشتهي . .
قالت لنا جدتي و ام ثامر بهدوء، باننا قد نَظَفْنا بعد الغسل . . " تشربون شاي الحامض عند صاحبة الحمام و تحملون مناشفكم و المناشف الزايدة و الملابس اللي بدّلتوها ، و تذهبون الى البيت و لا تتأخرون " . . و هكذا أُخرجنا من الحمّام و عدنا الى منازلنا. و بعد ايّام سمعنا ان مأمور المركز سكر بعد ان سمع كلاماً قاسياً من ابو الطرشي المح فيه بأنه يعرف مايدور بينه و بين زوجته و هدده بالمحاكم و عقوبة الزنا، بعد ان قال له ( لأن مو غيري . . اني شفتك شلون راكب عليها، و شفت مؤخرتك العارية، بالعلامة اللي عليها شامة) . . . و اشبع سريّة خاتون ضرباً و هو يصيح بها بصوت عالي و يسمّع الجيران :
ـ ولج سريّة يا كحبه انتي اللي تعلميّن حجية امينة الادب و الدين ؟؟ . . يا ام الالف . . و لج نسيتي شلون طلّعتج من الكلّجية و سميّتج خاتون ياقندرة . . تروحين على حجية امينة و تبوسين قندرتها و تتوسلين بيها ان تقبل اعتذارج . . و هاي شرطيين اثنين ويّاج هَمْ يسوقوج الى هناك و هَمْ يشهدون اذا وافقت الحجية على اعتذارج او لا ، توكعين على قندرتها افتهمتي . . و الله اذا ماوافقت اسوكج بالجلاليق مسلّخه الى هناك !!!
من جهة اخرى كان مأمور المركز يخاف من ابو الطرشي، لأنه الشقي المخيف في محلّة الحمّام ، الذي كان كثيرون يتهامسون حوله، بأن زوجته هي التي صنعت منه صاحب صنعة و نفوذ و شقي، و انه صعد في مجتمعه بفضل هياج زوجته الباحثة على تطويع الرجال دوماً، التي زوّجها ابوها له دون رغبتها، و صارت تكره الرجال و تسعى لإذلالهم، و لاتبالي مما يظهر من جسمها عارياً بسبب لهيب الحرّ كما كانت تقول و هي تقهقه عالياً . . حتى اخافت زوجها بأن شهرت سكيّن الطرشي الكبيرة بوجهه يوماً مهددة إيّاه بقتله ان عاتبها على النوم مع رجل اشتهته هي . . كما كان يتداول سرّاً في جلسات النساء . .
و كانت تقول علناً ان : ( لا أحد اشبعني و اشبع جسدي من كل المنافذ كدرويش مجيد . . اين انت يامجيد ؟؟ يامخيف الشرطة و العسس و السريين ؟؟؟ . . كنّا نتوافى مرّات و مرّات و من كل مكان ممكن كل ليلة . . الى ان اقع كجثة من التعب و انام نوماً لذيذاً فقط في احضان مجيد الذي لايكلّ و لا يتعب . . ) ، حين كان زوجها (الشقي) يترك البيت بحجة ان زوجته تنام نوماً عميقاً و لايريد ازعاجها، و في الحقيقة كانت هي الشقي الحقيقي و الاساس في نجاح و تطور تجارة الطرشي و كان (الشقي) زوجها لا اكثر من اجير يعمل عندها و رهن اشارتها حتى حين كانت تريد النوم معه، لأنها شرعاً زوجته و لا تريد الخروج على الشرع، و استغفر الله . . كما تقول.
. . . .
. . . .
في ظهيرة يوم قائظ اندلعت مشاجرة عنيفة بين القرج ام سناء التي هاجمت الحاجة الموصلية ام سامح لأنها طرقت الباب عليها، معاتبة ايّاها على عدم ترك الأزبال في الشارع حتى صار مدخل بيت ام سناء مزبلة كبيرة تتلاعب عليها الكلاب و القطط و الجرذان . . و انطلق صوت ام سناء و هي تهاجم ام سامح بالفاظ لم نألفها من قبل :
ـ امشي ولج بيت مصلاوي قيقو يتمرجلون علينا !!
ـ يسقط عملاء موسكو عملاء الروبل
ـ و الله ابن الحرام ابنك اخذ شهادة بالتزوير و الاّ شلون يصير استاذ في كلية الصيدلة ؟؟ لأنه من الكفّار
و الاّ شنو جابكم من الموصل الى هنا . . سرسرية انعل ابوكم لابو بيت الملاّح
لم تجب ام سامح بنظاراتها الطبية فقط باشارة قالت فيها :
ـ العتب مو عليكم، العتب على اللي يحاول ينظّف المحلة، و تصوّر انه يتحدث مع اوادم . .
و انسحبت الى بيتها وسط عياط ام سناء و بناتها المستمر بالشتائم على ام سامح.
اما نحن الصغار، فلم نفهم مامعنى عملاء و تصورنا انها تعني معاميل مثل معاميل البقال، و لم نعرف مامعنى الروبل، و لماذا تسبّ موسكو عاصمة اعظم دولة حطّمت النازية و انشأت دولة تتحدى عمالقة العالم . . و ما علاقة الحاجة ام سامح بموسكو . . و لم نفهم انواع التفسيرات من الكبار حول ذلك، سوى ان نبتعد عن ام سناء السفيهة و بناتها . .
. . . .
. . . .
و وسط كل تلك الاحداث الكثيرة التناقض، كان رحيم مواظباً على استضافة اجتماعات هيئات النشاط المهني و الخيري في البيت، و كان ابرز الحضور : د. نزيهة الدليمي من الاعظمية، د. عبد الأمير السكافي من النجف و الذي اشتهر لاحقاً في منظمات انصار السلام و أغتيل على طريق الحلة ـ النجف بعد سنين، يمان اخو المناضل السجين السياسي يقظان من الفضل، المناضلة بثينة البستاني اخت السياسي القيادي عبد القادر البستاني من الكرادة و الناشطة في مجال ادامة الصلات مع السجناء السياسيين، اضافة الى د. عبد الصمد نعمان الاعظمي و الطالب الجامعي رحمن الضامن و هيئاتهم من الاعظمية . .
حين كانت تلك الهيئات تساعد عوائل السجناء السياسيين بالمال و السعي لهم للحصول على عمل، و محاولة ايجاد ابواب للرزق و المعيشة لهم . . اضافة الى محاولات دعم نجاح مرشحي مجلس النواب من الوطنيين بغض النظر عن القوائم التي يرشحوّن عنها، اضافة الى دعم المطالب النقابية و تشكيل النقابات و غيرها . . التي كانت تترصدها عيون السلطة السرية . . (يتبع)

عرض مقالات: