أفرزت انتفاضة تشرين المجيدة الجارية فصولها في العراق هذه الأيّام، الكثير من المواقف المتباينة في اوساط المثقفين العراقيين، وكشفت عن تخاذل البعض منهم في نصرة الحراك الجماهيري الواسع، منطلقين من مصالح ذاتية تربطهم بنظام المحاصصة والفساد، ومن هؤلاء من اثرى على حساب الثقافة ومن عمل مستشارًا للحكام الفاسدين ولعل الأمر يحيلنا إلى إشكالية متجذرة في الوجدان الثقافي عبر التاريخ، خاصة بالتركيبة النفسية والأخلاقية للمثقف.
يتساءل الباحث الأنكليزي روبرت مالكوم عن السبب الذي يجعل المثقفين ثوريين مترددين؟ ويردف: على الرغم من المفهوم الرومانسي للثورة الذي يسبغه الكتّاب، لم يجرؤ سوى القلة القليلة منهم على النوم خلف المتاريس. وهذه الرؤية تحيلنا إلى طبيعة الفعل الثوري ووقوده الحقيقي المتمثل بالشباب الذي قد لا يمتلك وعي المثقف ونظرياته، لكنّه يحمل بالفطرة ذلك الحس الوطني والارتباط الوجداني بمفهوم الوطن.
إنّ الأمثلة على تخاذل المثقف وخذلانه الثورة احياناً كثيرة في تاريخ الشعوب وثوراتها، ومن هذه الأمثلة فاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا وألكسندر سولجينتسين في الاتحاد السوفييتي السابق وغيرهما.
وإذا كانت موضوعة الأدب والثورة رومانسية إلى حد ما، لكنها بالنسبة للبعض نادرة بشكل مدهش.
ومن الكتّاب الذين حاولوا خوض غمار السياسة وإحداث التغيير الثوري بطريقة ما، انتوني ترولوب الذي ترشح للبرلمان بوصفه ليبراليًا، لكنّه جاء في أسفل القائمة، مما دفعه لوصف تلك التجربة بأنّها "الأكثر بؤسًا وانعدام رجولة". ومنهم أيضًا غراهام غرين* الذي كان يعتقد بأنّ "الكاتب ليس عاجزًا كما يشعر عادة، ويمكنه أن يحول الكلمة إلى رصاصة ويفجر الدّم". وفي فرنسا ترشح فيكتور هيغو لمنصب الرئيس في العام 1848 لكن انتهى في آخر المطاف كبائع صحف.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية ترشح نورمان ميلر لمنصب عمدة مدينة نيويورك رافعًا شعارًا ثوريًا مفاده: "لا مزيد من الهراء"، لكنّه جاء في المرتبة الرابعة. حتى في روسيا، حيث تميزت العلاقة بين الكتاب والثورة بعبثية لم تخل من بعض الجوانب البطولية الرومانسية، فقد حارب سولجينتسين ضد النازيين في العام 1944 لكنّه أصيب بخيبة أمل كبيرة من ستالين، عندما كتب طرفة عابرة عن شارب القائد، فاعترضته الكي جي بي وقبض عليه وحُكم بالسجن لمدة ثماني سنوات مع العمل الشاق بتهمة "نشر دعاية معادية للسوفييت". وكانت تجربته في السجن مصدر إلهام له بكتابة "أرخبيل الغولاغ". وعندما انهار الاتحاد السوفييتي في العام 1991 كان سولجنتسين يعيش في منفاه في ولاية فيرمونت الأمريكية**.
من الواضح جدًا بأنّ الروائيين العظماء يميلون لتجنب المتاريس، مهما بدت فكرة المعارضة أو الثورة رومانسية بالنسبة لهم. ويحتضن الأدب بشكل عام الاهتمامات الإنسانية بغض النظر عما يحيط بها من ممارسات، كما أنّه يسعى للانتقال بتلك الاهتمامات والأحداث إلى مرحلة الخيال. وبما أننا نعيش حالة من التقلبات الثورية المزمنة في منطقتنا العربية، فأن إشكالية الثورة بمفاهيمها المختلفة ستبقى واحدة من أهم التحديات التي يواجهها الكاتب المعاصر. لكن هذه الإشكالية لا بدّ ان تطرح أمامنا السؤال التاريخي، هل يصلح المثقف بشكل عام والروائي بشكل خاص للعمل الثوري؟ الجواب نعم يصلح، لكن فقط في إضفاء الجانب الرومانسي للثورة والكتابة عنها عندما يدرك أهمية اللحظة التاريخية ويدع تفصيلات الثورة اليومية تختمر في مخيّلته، إضافة لاستلهامه لغة ومفردات الثورة الشعبية وأدراك طريقة تفكير الثوار وفهمهم الفطري لمفهوم الوطنية، حتى يتمكن من صياغتها لاحقًا في قالب أدبي مناسب. لكنّه في جميع الأحوال، حسب ماكروم، لا يصلح للمكوث خلف المتاريس.

عرض مقالات: