تبدو العلاقة بين الكاتب العربي ودور النشر مختلّة وتشوبها الكثير من التناقضات، فمن جهة ثمّة تهافت على النشر مقابل ثمن يُدفع للناشر، وفي الغالب تكون الكتب التي تنشر على وفق هذه المعادلة كتبًا هزيلة المضمون وهابطة المستوى ولا تمتلك حظوظا في البيع والانتشار، ومن جهة أخرى ثمّة الكثير من دور النشر الجديدة في عالمنا العربي تأسست تلبية أو استغلالا لهذه الظاهرة سعيا وراء المال.
وبعيدا عن هذا الواقع المرّ، مازالت بعض دور النشر الجادّة تصارع من أجل المحافظة على التقاليد وترسيخها والعمل من أجل الوفاء للكاتب وضمان حقوقه، وإن بالحدود الدنيا، وتعمل على وفق عقود أصولية وقانونية، وهذه الدور تكون معاييرها صعبة للغاية بطبيعة الحال، لا سيّما أمام الكتّاب الجدد، ذلك لأن الناشر وإن كان مثقفا، يبقى مسؤولا بالدرجة الأولى عن الكثير من الالتزامات المالية التي يتطلب الإيفاء بها.
وتلك الالتزامات تتمثل في أجور الفحص وإحالة المخطوطة إلى خبير موثوق نقديا لتحديد مقدار متانة النص من عدمه، ومن ثم أجور تحرير النص وضبطه أسلوبيا ونحويا، تلي ذلك أجور تصميم الغلاف والتصميم الداخلي، وأخيرا تكاليف طباعة الكتاب وتخزينه أو شحنه والمشاركة به في معارض الكتاب والتعامل مع دوائر الرقابة المختلفة وغيرها من المشاق والجهود المضنية التي تتطلب من الناشر بذلها من أجل إخراج الكتاب إلى النّور وتوصيله الى القارئ، على أمل أن يستعيد الناشر جزءا من هذه التكاليف في عملية البيع اللاحقة.
من وجهة نظري، فإن عملية النشر عملية اقتصادية بحتة قبل أن تكون ثقافية، وتخضع الى العرض والطلب وقوانين سوق الكتاب، والناشر ما لم يكن متأكدا من بيع الكتاب وضمان استعادته تلك التكاليف الباهظة ومن ثم تحقيق ربح مناسب، لن يجازف بالنشر.
وعلى الرغم من أن هذه الإشكالية ليست مبررا لطغيان الهم التجاري البحت على عمل الكثير من الناشرين، إلاّ أن اختلال المعادلة التي تحكم عملية النشر في عالمنا العربي، واضطراب العلاقة بين الكاتب والناشر وتراجع مستويات القراءة وانحسار رقعة بيع الكتب لأسباب عدّة، قد تتطلب نوعا من الحلول التضامنية بين الطرفين، على ألا يفرّط الناشر بالمعايير الفنية وإن بحدودها الدنيا.
وباستثناء بعض دور النشر الطفيلية التي تأسست مؤخرا سعيا وراء الأرباح ولا تعنيها قضية الأدب والتأليف، فإن أغلب الناشرين الجادّين يحرصون على سمعة دورهم وترسيخ مكانتها في الحياة الثقافية. لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحا وهو ماذا يفعل الأديب الشاب وكيف يتمكن من نشر روايته الأولى، لا سيّما الذي لا يملك مبلغا من المال؟ وهل ستحقق روايته تلك، في حال نشرها، أيّة عوائد مالية له؟
إنّ قضية دعم أدب الشباب والكتّاب الجدد الذين من المرجح أن لا تباع كتبهم بطريقة جيَّدة، أو هكذا يتوقع الناشرون على الأقل، فتتطلب دعما ثقافيا مدروسا وأن يحظوا برعاية الدولة وبعض المؤسسات الداعمة التي لا تسعى الى الأرباح، لا سيّما اتحادات وروابط الكتّاب والأدباء المختلفة، التي يتحتم عليها السعي لدى الجهات والشركات الداعمة من أجل إيجاد منافذ مناسبة لنشر أدب هؤلاء الشباب، بعد مرورها على لجان فنية معتمدة لتحديد جودتها وصلاحيتها للنشر، وبذلك تكون هذه الاتحادات والروابط قد فوّتت الفرصة على بعض دور النشر الطفيلية التي تتصيّد الساعين الى النشر من الأدباء الشباب لتستغلهم وتبتز أموالهم الشحيحة مقابل طباعة عدد محدود من النسخ التي لا تحظى بالاهتمام والتوزيع، ومن جهة أخرى تحتفي بالتجارب المضيئة من تلك الكتابات التي طالما احتوت مضامين براقة وأساليب مبتكرة يصعب اكتشافها وسط الخضم الهائل لفوضى النشر.

عرض مقالات: