لم تترك مدينة اثراً عميقا، كما حفرت "مدينة الثورة" في عقولنا نحن "المهووسون أو العشاق "هكذا كان يطلق علينا" ويعنون (من يحملون جنونهم واحلامهم مغمسة بالجمال) هكذا هي مدينتنا كبيرة جميلة.. مغناج، ما أن يبدأ صباحها حتى تنتشر في سمائها روائح الخبز الساخن من تنانير الطين مصحوبا بموسيقى صياح بائعات القيمر.. مدينتي الجميلة فضلا عن جمالها فهي عصية أبداً على القتلة، وقفت بوجه محاولات البعث الذي سعى الى تهميشها وقتل بذرة الانحياز للجمال فيها. لا اريد هنا ان افتح بوابة ومسمى كبير اسمه "مدينة الثورة" إذا دخلناه لا نخرج إلا بآلاف الصفحات، ولكني سأعرج الى الروائي شوقي كريم حسن عبر بوابة هذه المدينة، العصية على القتلة، منتجة الجمال، اسماء كبيرة اقترنت طفولتها في تلك الازقة الترابية، وحفرت اسماءها على صفوف وسبورات مدارسها العتيدة.. (قتيبة.. بورسعيد.. الثورة.. البحتري..) وغيرها من المدارس التي اذا اردنا ان نفصلها، سنجد انفسنا ازاء مادة واسعة وخصبة تقطر جمالا وإيجابية ومحبة.. كما هي لذيذة هذه المدينة، كذلك هو شوقي كريم الشروكي المعتد بشروكيته، تلك الخصيصة الكامنة في ابداعه وما حرصه على أن ينهل قصصه وحكاياته من المدينة "الأم" إلا هو الانحياز لهذا الرحم الكبير. كان لقائي الاول به "وجها لوجه" في ممر معتم من ممرات سجن "أبي غريب" سيئ الصيت، اما معرفتي به جماليا فقد امتدت منذ اصداره هو ومجموعة من اصدقائي قصص "اصوات عالية" هذا الفتى المشاكس حينما التقيته اول مرة في سجن الاحكام الخاصة، لفت انتباهي انه يديم الحياة ويفصلها بجمل بسيطة مليئة بالمشاكسات وابتسامة لا تفارق وجهه في احلك الظروف.. لم أره حزينا الا في ذلك اليوم، حينما ودعته وخرجت من بوابة سجن الاحكام الخاصة.. بقي هو في الممر ينظر الي نظرة بقيت عالقة في ذهني الى يومي هذا. في سفرة جمعتنا انا وشوقي الى البصرة "ملتقى السياب الاول الذي اقامته جامعة البصرة".. اقتربت كثيرا منه عبر جلسات كثيرة وحوارات،  قدم لي يومها دفترا مدرسي"ابو المية".. تلك الدفاتر الملونة وذات الاغلفة السميكة، والمحفورة عليها زخارف تشبه المثلثات والدوائر.. شممت في الدفتر فترة غائرة في العمق، قال لي "هذا الدفتر يحتوي على مشروع روايتي الاولى" وتساءلت مع نفسي.. في اي عام بدأت تكتب ياشوقي!؟.. اذا كنت قد كتبت رواية وأنت لم تزل طالبا في المتوسطة "وهذا ماخرجت به بعد قراءتي للرواية المخطوطة في الدفتر المدرسي" اذن هل ولد شوقي والقلم في يده "يومها ضحكنا.. لكني كنت أعني ما قلت، قال لي: صدقني أنا أول من أسس فرقة مسرحية في مدينة الثورة وكنت اعمل في الفرقة كاتبا ومخرجا وممثلا.. شوقي اليوم أعده شعلة نشاط كبيرة.. اما احتكاكي الآخر به، كان حينما تسلم مهمة تحرير الصفحة الرئيسية الاولى والثانية لجريدة الاتحاد التي عمل فيها لسنوات... قلقت قليلا على شوقي لا لشيء إلا لأن الجريدة محسوبة على حزب الاتحاد الوطني والفترة تلك كانت تمتلك الكثير من الحساسية التي تتطلب الدقة والابتعاد عن الخطأ... لكن صديقنا العتيد عدنان منشد.. اكد لي ان شوقي ومنذ اليوم الاول تأقلم مع الصفحة الاولى واخبارها وحساسيتها بسرعة هائلة.. اما سلسلته الشهيرة والتي وعدنا انه بصدد اكمال أجزائها.. شروكيه وخوشيه والنباشون وهتلية وقنزه ونزه، فما هي الا سياحة سردية هائلة في مدينته الاولى، تناول الكثير من الشخصيات.. وما موضوعة الخوشية "شقاوات" مدينة الثورة إلا أنموذجا، فقد اقترب منهم كثيرا ووقف على تفاصيل تعاملهم مع القوى الوطنية ومناصرتهم لليسار نكاية بالحكومة وحبهم للمثقفين، دليل على تأثير وتأثر بالرحم الكبير والواسع لاكبر مدينة عشنا فيها اجمل حيواتنا واكثرها حراكا.. محبة لشوقي قاصا.. وروائيا ومسرحيا.. وممثلا.. وخوشيا وشروكيا.

عرض مقالات: