إن البحث عن تغلغل العنصر المؤنث فاعلا مهيمنا أو عنصرا مهمشا في ملحمة جلجامش هو تأصيل للأسبقية في عملية الريادة الفكرية والامتياز المخيالي للمرأة في الأدب والفكر الرافديني، ودعائم إثبات هذا السبق هو ما وصل إلينا من حكايات وأساطير جمعتها ملحمة جلجامش حتى غدا المخروم منها والساقط مما لم يتم العثور عليه هو في أغلبه يكاد أن يكون في المواضع التي فيها بوح أنثوي أو تبيان لحقيقة نسوية ما، تقال بحق المرأة الإلهة.
ولقد احتل الخلق مكان الصدارة في حكايات الآلهة النسوية كتمثيل لاعتقادات دينية متخيلة، ومثلما أن حكايات الخلق منفصلة عن حكايات الإخصاب فكذلك لا تختلف الحكاية في مضامينها عن الأسطورة وحين بزغت فكرة الإلوهية المؤنثة التي مصدرها المياه انتقلت الحياة من العماء البوهيمي إلى التبصر الإنساني، بسبب ما أدته المرأة من دور أمومي في تعليم البشر الاعتقاد الروحي بما بعد الحياة بعد أن أدركت ببصيرتها أن التوحش لن يضيف للإنسان شيئا، لكن المعرفة والحكمة عن الجسد والتناسل والإخصاب هي التي ستسمو بالبشر. وبهذا يكون دورها هو الاهتداء لمسلك الخلود وليس الإغواء باتجاه الخطيئة التي حرص النقد الذكوري على إشاعة التصاقها بالمؤنث خشية هيمنته استحواذا على الذكورية.
ولقد كانت أسطورة "الأم الكبرى" أقدم ما أبدعه المخيال الإنساني عن المرأة ودورها في تأنيث الكون وتفسيره بناءً على تصور أحادي للوجود مفاده أن الانسان أتى إلى هذا العالم كنتاج قوة روحية أنتجتها كائنات أنثوية خفية اقترنت روحها بالمياه فانعكست ماديا في صورة إنسان ولقد اعتقد السومريون أن الماء أصل الخليقة ومنه نشأت الأم الكبرى مع أن هناك من يرى أنها خلقت نفسها بنفسها. ولكن المرجح في أسطورة الخلق أن الأم الكبرى استقت من الماء عنصرا لوجودها فكانت هي أم البشر وأساس الحياة منها نشأ العنصر الأنثوي والذكري على حوضي دجلة والفرات كأول تجمع بشري عرفته الأرض.
وللأم الكبرى تسميات كثيرة تنوعت في بلاد الرافدين فهي ارورو أو موممو أو مامي أو تيامة أو تعامة وننماخ وننخرساج وتنتو وما تنوع أسمائها إلا دلالة على علو مكانتها واتساع مدى تأثيرها.
وهذه الإلهة الأم التي هي أصل الحياة الأولى وأصل الكون كانت قد شقت منها الأرض والسماء وهي ربة الخلق والولادة صانعة الكائنات نباتا وحيوانا وبشرا
ولأن العصر الذي سادت فيه الأم الكبرى كان عصرا ذهبيا ويوتوبيا لذلك سيظل الانسان في المجتمع الذكوري البطريركي يحلم بالعودة إليه ولقد أكد الأستاذ طه باقر أن السومريين أنفسهم كانوا يبكون عصرا ذهبيا سبقهم فقال:" فالطريف ذكره أن العراقيين القدامى قد تصوروا أنفسهم حديثي عهد بالحضارة والمدينة وأنهم كانوا ورثاء أرض بعيد مجيد تخيلوه على أنه عصر ذهبي كان السلام والوئام يسودان العالم فلا خوف ولا حزن ولا بغضاء وكان الخير والرفاه يعمان البشر وهم يمجدون الإله انليل بلسان واحد" ملحمة جلجامش وقصص أخرى عن جلجامش والطوفان.
هناك أمران أسهما في جعل تلك اليوتوبيا حلما: الأمر الأول التسامح الأنثوي الامومي والآخر أن اختراع الكتابة كان إيذانا بانتهاء المرحلة اليوتوبية الشفاهية الميتافيزيقية ما قبل الكتابية التي كان الجنس النسائي فيها مركزي الهيمنة ولقد تحولت الأم الكبرى في العصر الأشوري إلى كائن مؤنث مختلط بكائن خرافي يشبه التنين يفتقر إلى أساس واقعي.
ولقد ظل مجمع الآلهة أنثويا إلى أن تطور المجتمع فاحتلت الآلهة المذكرة الوليدة والفتية مكان الآلهة المؤنثة وجعلتها تابعة لها وهذا ما أتاح المجال للهيمنة الذكورية أن تظهر ومع مجيء العصر البابلي تغلب العنصر الذكوري فتبدل توصيف هذه الإلهة من الأحادية إلى الثنائية وفي ملحة اتراحاسيس تقاسمت الآلهة ذكورا وإناثا المناصب ثم غلبت الآلهة المذكرة فصارت السيادة لانو وسين وشمش وادد ومردوخ وننورتا وانليل ونوسكو وكيررا ونركال وتراجعت الآلهة المؤنثة أمثال نينخو ورسالك وننيتو لتلعب دورا ثانويا أو وسيطا.
وصار الإيمان بوجود ثنائية مؤنثة ومذكرة منطلقا من الرغبة في التعايش لبلوغ حياة أكثر سعادة واستقرارا، فيها الكتابة مضاف ابتكاري سيؤثر في تثبيت الفكر الاعتقادي الشفاهي القديم ويحوله إلى ما يماثله كتابيا؛ إلا إن الأمر لن يكون بهذه الايجابية لاحقا. لأن لهذا الإيمان الاعتقادي تفسير ينضوي تحت مسمى الحتمية التاريخية المادية مفاده أن الروح المطلقة ترى الوجود يحتوي في داخله على عراك وتمزق باطن، ينتهي في الخطوة التالية ولا يلبث أن يرتفع ثم يعود من جديد وهكذا باستمرار.. كشيء تفرغ فيه هذه الروح مضمونها وهناك تفسير آخر ينبني على أساس أصولي تفرضه الطبيعة، فصار التشارك مع العنصر المذكر فاعلا أمرا محتما لا مفر منه ومن هنا استعانت الآلهة المؤنثة بالآلهة المذكرة ودمجتها معها في ظل مرحلة جديدة تالية لمرحلة النقاء المخيالي الأول.
وباختراع الكتابة صار أمام الفكر الأنثوي مهمة جديدة وهي فرض سيطرتها على هذا الجيل الجديد من الآلهة المذكرة الفتية وجعلها مسخّرة في صالحها، فهل ستستطيع الآلهة الأنثوية العتيدة أن تظل محافظة على مركزيتها الدينية والدنيوية؟
بالطبع لا لكن الأسطورة ستظل فاعلة بسبب لا زمنيتها التي ستجعلها تتجدد على مر العصور ضمن مستوى معين من العلاقة الوسيطة المشتركة بينها وبين التاريخ.
وقد تساءل ليفي شتراوس متى تنتهي الأساطير؟ ومتى يبدأ التاريخ؟.. فبيّن" أن الطابع المفتوح للتاريخ يتم ضمانه من خلال الطرق العديدة التي من خلالها يتم تنظيم الخلايا الأسطورية.. التي كانت أسطورية في الأصل
ما كان للنزوع الذكوري نحو السيطرة والاستحواذ أن يظهر لولا الكتابة التي أتاحت تدوين ما يراد والتغاضي عما هو ليس مرغوبا فيه وهذا ما حملته أول مدونة/ كتابية أدبية عرفها التاريخ وهي ملحمة جلجامش.
وهنا نقف عند سؤال مركزي يتعلق بحضور الأمومة ودورها الالوهي في الإبداع الادبي الرافديني، لنصل الى سؤال أهم هو كيف تآمرت عشتار على جلجامش؟ أو بعبارة أخرى ما دلائل اتهام عشتار بالسلبية والشهوانية والتآمر؟ لقد مرّت البشرية بمراحل مختلفة من العصيان والانقلاب كان أولها وأهمها هو انقلاب الابن على الأم وليس انقلاب الابن على الأب كما أشاعته أدبيات النقد الذكوري وروجت له المنظورات النفسانية في إطار عقدتي الكترا وأوديب والسبب أن هذا الانقلاب ـ انقلاب الابن على الأب ـ كان قد حصل في مرحلة لاحقة لهذه المرحلة التي نحن بصددها.
وليس هذا غريبا إذا ما عرفنا أن طغيان صورة المرأة في الادب كرمز للإغواء والخطيئة بوصفها التابع والموضوع الذي لا قيمة له سوى الجسد إنما هو من صنيع النقد الذكوري الذي سرّبه وأشاعه حتى صار من الثوابت التي سوّغت لها المنظومة الثقافية الأبوية عهودا طويلة، وهذا ما يرفضه النقد النسوي الذي يفسر صورة المرأة في الادب أنها قيمة معرفية وكينونة ثقافية ترمز للمعرفة والاهتداء.

عرض مقالات: