مذ لقائي الأول بها قبل نصف قرن من الزمان، كان للآصرة التي ربطتني ـ قارئأً ـ بالصحافة الشيوعية، سمة العشق وتميّز الوجد، ربما لأنها تسللت خلسة الى ثنايا الروح، يوم كانت سرية العلاقة بها منجاة من بطش البغاة، وربما للدهشة الآسرة التي رافقت ما تركته في الوعي من مساحات مشرقة، وربما للتحدي الذي أوجدته في كيان فتى ريفي، كان يخطو بحذر ليتصالح مع مدينة متمردة، كبغداد.
وبقيت جذوة العشق تذكي حرارة اللقاء حتى بعد أن بدأت أنشر فيها بعضاً مما أكتبه، فلا زلت أفضل الاستمتاع بقراءتها لوحدي وفي جو هادئ، تاركاً بعض الفواصل في القراءة، تمنح الذهن فرصاً أكبر سواءً في التمتع بما يكتسبه من معارف، أو في التفاعل الأسلم مع نصوصها أو التدقيق في تلكم النصوص كي لا تختلط بأية شائبة. وكان للمسيرة القاسية التي قطعتها صحافة الحزب بشموخ يغبطها عليه أصدقاؤها وخصومها، الكثير مما أبقى صلة القلب بها ترادف صلة العقل، وصار الزهو بها وبصمودها ونجاحاتها لصيقاً برقةٍ يعمد القلب أن يكسو بها أي نقد أو إشارة الى عيب أو خلل ما.
لقد دأبت هذه الصحافة على قراءة الواقع كما هو لا كما ينبغي أن يكون، ومحت الغشاوة عن العيون، لتنّمي الوعي وتمّكن الشعب من إدراك سبل الخلاص. ومن أجل هذا نجحت في أن تعزز ما بثته في وجدان الناس من قيم الحرية والعدالة، وأن تجعلهم قادرين على الدفاع عن تلك القيم وإن بأشكال مختلفة وبمنحنيات تتصاعد أو تتباطأ توافقاً مع حجم الصعاب والعذابات، تلك التي قدمت الصحافة الشيوعية في مواجهتها دماءً غالية وشهداءً أماجد. وللتواصل مع هذا المسار القاسي والعذب في آن، إنشغلت صحافة الحزب بالدفاع عن حقوق الشغيلة والكادحين وتوجيه كفاحهم لبناء وطن خال من كل ما ينتهك آدمية البشر، وبالدفاع عن سيادة الوطن وحريته وعن الهوية الوطنية الجامعة لكل العراقيين، وعن الحقوق القومية العادلة لشعبنا الكردي ولكل القوميات العراقية المتآخية وفي فضح الأفكار الشوفينية والمتطرفة والمعادية لحرية البشر ومساواتهم وسعادتهم.
كما تبنت وببسالة قضية المرأة، مساواتها بالرجل، حقوقها، حريتها، تعلمها، مساهمتها الفاعلة في بناء الدولة، فالموقف منها يحدد ـ كما قال ماركس ـ درجة تحوّل سلوك الإنسان الطبيعي الى سلوك إنساني، ودفعت ثمنا باهظاً من أجل ذلك دون أن تلين، حين عمّد الرجعيون والفاشيون الى اتهامها بأبشع التهم، عسى أن يعزلوها عن قرائها وناسها. وعلى ذات المسار احتضنت صحافتنا آلاف المواهب وجعلتها تتفتح وتنمو لتسطع في سماء العراق، دعماً وتأصيلاً وصيانة للثقافة الوطنية، حتى ارتبطت أسماء كبار الشعراء والادباء والفنانيين وسائر المبدعين بها، وساهموا بدورهم لا في إغنائها وتطويرها فحسب بل وأيضا في الدفاع عنها.
وإذ تقف صحافتنا اليوم، حيث يحل العيد الثالث والثمانون للصحافة الشيوعية العراقية، في ذات المواقع دفاعاً عن استقلال العراق وطهارة أرضه من أي تواجد أو نفوذ أجنبي، وعن حرية الشعب وحقه في التمتع بثروات بلاده وخلاصه من التمزق والاستقطابات الطائفية والإثنية، ومن ويلات الإرهاب وطغيان الفاسدين ومن الجوع والتخلف، وتمكينه من الحصول على الخدمات الأساسية وعلى العيش الكريم، وإذ يعيد الشيوعيون وكل أنصارهم الديمقراطيين، ذات الإلتزام بالأسس التي وضعوها لكفاحهم المشرق، يكون من المفيد الإشارة الى ضرورة إدراكنا جميعاً للصلة الوثيقة بين تطور صحافتنا وبين تكريس تقليد سليم، يفضي لدراسة تجربتها في كل عام، وتشخيص نقاط القوة والضعف، والسعى لتأصيل فن الإصغاء للآخرين والتفاعل مع كل الآراء السديدة والمخلصة وإعمال العقل فيما تطرحه الحياة من رؤى وأفكار، وفي كيفية التحول الى فضاء طلق وورشة عمل مفعمة بالحركة والاختلاف الخلّاق.
وبديهي أن يرتكز نجاح هذا التقليد على الجماعية وعلى التعددية في إطار وحدة الإرادة والعمل، وعلى التحرر من أية تابوات أو أنساق مغلقة، والتمسك بالتجديد، وزج الشباب بمسارات تحقيقه وإطلاق طاقاتهم ومبادراتهم. كما يرتكز أيضاً على الاهتمام بالتقدم التقني في مجال الإعلام وإعتماد الإستثمار فيه كأولوية حيوية للحزب ومسيرته الكفاحية المجيدة.
في العيد، تزهو صحافتنا ببسمات الشهداء وهم يطّلون علينا من عوالم المجد فرحين بتواصل المسار رغم الصعاب.. في العيد، ننحني لصانعي الكلمة المقاتلة، للصحافة الشيوعية الباسلة، ونقول لها كل عام وأنت والحزب بخير.

عرض مقالات: