1

حين اندلعت الحرب صباح الخامس من حزيران 1967 كنت في مدرسة تراسنطة، الواقعة داخل سور القدس القديمة، أراقب الطلبة المتقدّمين لامتحان الشهادة الثانوية، مع عدد من زملائي المدرّسين. كانت المدينة في ذلك الصباح تحيا حياتها كالمعتاد، مع توقّعات بأن ثمة حربًا في أفق منطقتنا قد تقع، لكنّ موعد اندلاعها لم يكن معلومًا.

وكنت مثل كثيرين على قناعة بأن الحرب باتت على الأبواب، وبأن النصر على العدو بات قاب قوسين أو أدنى.

أعلنتُ غير مرّة أمام الأصدقاء (وربما أعلن آخرون غيري أمام أصدقائهم) أن ما وقع في العام 1948 لن يتكرّر مرّة ثانية. آنذاك، لم يكن ثمة استعداد كافٍ لمواجهة العدوان. كان ثمة جهل بالعدو وبقدراته، وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادتها التقليدية المحكومة بالمساومة وبالتردّد، غير قادرة على تنظيم الشعب، وعلى الاستفادة من قدراته على البذل والعطاء.

اكتشفت بعد الهزيمة المدوّية التي فاقت في نتائجها القريبة والبعيدة نكبة العام 1948 أنني كنت أعيش وهمًا مخادعًا.

جاءت هزيمة حزيران 1967 لتكسر الوهم، وجاءت في الوقت نفسه امتدادًا مرًّا لنكبة أيار 1948،  كنت، بعد الهزيمة، قد مضى على انتمائي الى الحزب الشيوعي سنتان. وكان الحزب يعاني مثل غيره من التنظيمات السياسية السرّية من ضعف بالغ، جرّاء سنوات الاعتقال الطويلة التي طالت كثيرين من أعضاء قيادته ومن كوادره ومنتسبيه، في حملتين ضاريتين قامت بهما أجهزة الأمن الأردنية، الأولى في العام 1957 والثانية في العام 1966. كانت تلك واحدة من مقدّمات الهزيمة على نحو ما، ولم نكن منتبهين إلى ذلك.

ولم تكن الهزيمة متوقّعة لدى أوساط واسعة من الناس.  كانت أجهزة الإعلام المصرية وغيرها، ممثلة في المذياع بشكل أساسي، وفي الصحافة اليومية والأسبوعية، تمنّينا بانتصار لا تشوبه شائبة، وبأن الدخول إلى قلب تل أبيب صار هدفًا قريب المنال. كنا نترقّب بلهفة تعليقات أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب، وكانت ثقتنا في جمال عبد الناصر لا تتزعزع. خطاباته المطوّلة أمام الجماهير المحتشدة تثير حماستنا، وتغذّي النزعة القومية الوحدوية في نفوسنا. كنت مؤمنًا بقيادة عبد الناصر رغم مواقفه المعادية للشيوعية التي تبناها في خمسينيات القرن العشرين وفي النصف الأول من عقد الستينيات. كنت آنذاك ناصريًّا، مقتنعًا بالتهمة التي أطلقها البعثيون ضد الشيوعيين حول موافقتهم على الصلح مع إسرائيل، بل إنني صدقت شائعة انتشرت في العام 1957، بعد الانقلاب الذي قام به الملك حسين ضد حكومة النابلسي الوطنية، وأتبعه بحظر نشاط الأحزاب السياسية، مفادها أن الدكتور يعقوب زيَّادين، ممثل الحزب الشيوعي في البرلمان الأردني، مختبئ في إسرائيل، بعد أن داهمت أجهزة الأمن الأردنية بيته في القدس لاعتقاله، ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي ترافقت مع إعلان الأحكام العرفية، ولم تخفَّ وطأة هذه الشائعة إلا حين قبض مخبر في جهاز المباحث ذات مساء على الدكتور زيادين في أحد شوارع رام الله.

ولم يكن أحد يتوقّع أن تصبح رام الله تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ.

2

كان يمكنني توقّع الهزيمة لو أنني انتبهت جيدًا إلى ما يحيط بي من ظواهر.

بالطبع،كان الوضع متشابكًا على نحو ما. انهارت الحداثة الناشئة في عموم البلاد جراء النكبة، وكانت القدس تعيش مثل باقي مدن البلاد تحت القمع السلطوي وهيمنة أجهزة الأمن. ورغم ذلك، كانت المدينة تنهض من عثرتها الفادحة، بعد أن سيطر الإسرائيليون على الجزء الغربي منها توسع العمران فيها نحو الشرق والشمال، وظهرت أحياء جديدة خارج السور. انتعشت التجارة والسياحة، وازداد عدد الفنادق فيها لاستيعاب حركة السياحة النشطة. وانتشرت المقاهي في مختلف أحيائها. وفي شارعي صلاح الدين والزهراء كانت هناك محالّ للرقص والغناء، يرتادها رجال ونساء. وكان في المدينة ثلاث دور للسينما، يواظب رجال القدس ونساؤها على حضور الأفلام التي يتم عرضها فيها كل يوم بانتظام.

وظهرت فيها منذ خمسينيات القرن  العشرين أربع صحف يومية، هي الجهاد، الدفاع، فلسطين، المنار. كانت الصحيفة الواحدة تصدر في أربع صفحات، وتصدر في ست صفحات في بعض الأحيان. وظهرت فيها أوائل الستينيات مجلة ثقافية هي "الأفق الجديد"، تجمع من حولها عدد غير قليل من الكتاب الشباب من القدس وعمان وغيرهما من مدن البلاد التي كانت تتشكل منها المملكة الأردنية الهاشمية. كان يرأس تحرير المجلة الشاعر أمين شنار، تبوأ في زمن سابق إمارة حزب التحرير في الأردن، ثم دخل السجن جراء انتمائه السياسي، وحينما غادر السجن لم يعد إلى صفوف الحزب، لكنه بقي إسلامي النزعة مع اعتدال وانفتاح على أفكار الآخرين من يساريين وقوميين.

وكانت المجلات والكتب القادمة من بيروت والقاهرة تشدّ اهتمامنا نحن الجيل الذي أطلق عليه فيما بعد: جيل الأفق الجديد. كانت مجلة الآداب تحديدًا من أهمّ المجلات العربية التي تركت فينا أثرًا مؤكدًا، وكانت ترجمات الدكتور سهيل إدريس، صاحب الآداب ومحررها، لكتابات سارتر وسيمون دو بوفوار، تلفت انتباهنا للوجوديّة وتثير في صفوفنا نقاشات عديدة، وبخاصة في مدى اقترابها أو ابتعادها من الماركسية.

ومن الجانب الآخر، كانت مجلتا "الطليعة" التي يشرف عليها لطفي الخولي، و "الكاتب" التي يشرف عليها أحمد عباس صالح، تحوزان على اهتمامنا. كان ثمة مناخ ثقافي يتشكل من حول الأفق الجديد، لم يلبث أن تبدّد مع توقف المجلة  عن الصدور في العام 1966 لأسباب مالية، ومع وقوع هزيمة حزيران التي فرّقت شمل المثقفين، وضربت استمرار الحراك الثقافي وازدهاره إلى سنوات قادمة.

كانت القدس آنذاك مدينة تعدّدية بالقدر الذي تسمح به تجربتها الناشئة في العصر الحديث. لم تكن محافظة متزمتة مثلما هو حالها اليوم بعد خمسين سنة من الاحتلال. من أبرز الأمثلة على انفتاح أفقها وتعدّديتها، أن يعقوب زيادين، الطبيب الشيوعي الأردني الكركي المسيحي، فاز بأعلى الأصوات ممثلاً للمدينة في انتخابات البرلمان الأردني للعام 1956 ، وثمة شواهد أخرى على التآخي الإسلامي المسيحي في المدينة منذ ما قبل النكبة وإلى ما بعدها.

على الصعيد السياسي، انتعشت الحياة السياسية ونشاط الأحزاب في القدس وفي عموم البلاد إثر هزيمة حلف بغداد، وعدم جرّ الأردن للدخول في الحلف، وإثر الأشهر القليلة التي عاشتها حكومة سليمان النابلسي الوطنية.

بعد ذلك أعلنت الأحكام العرفية، وتسيَّد القمع على مصير البلاد. لكن هذا لم يمنع الأحزاب، وبخاصة الحزب الشيوعي من مواصلة النشاط السري، وإن كان ذلك بصعوبة بالغة. في العام 1964 شهدت القدس مؤتمرًا فلسطينيًّا تم الإعلان فيه عن ولادة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري. في العام التالي، تمّ الإفراج عن المعتقلين السياسيين في سجن الجفر الأردني الصحراوي، وهم في الأساس من قيادة  الحزب الشيوعي وكوادره الذين مضى على اعتقالهم ثماني سنوات.

انتعش النشاط السياسي إلى حد ما بعد هذا الإفراج. ثم جرت حملة اعتقالات جديدة في العام 1966 طالت الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب. ولم يصمد كثيرون من المعتقلين هذه المرّة أمام المحقّقين، كما كانت حالهم من قبل. عقد ضباط مخابرات جلسات تحقيق مع عدد من المعتقلين من كوادر الأحزاب وقياداتها، تمَّ بثّها من إذاعة عمَّان، وتمَّ نشرها في الصحف، فيها اعترافات على الخلايا السرية، وفيها تراجع عن القناعات، وفيها إحباط. كان ذلك مؤشّرًا غير مريح على هزيمة قادمة.

في ذلك العام، قامت وزارة الإعلام الأردنية بتقليص تمركز الصحف اليوميّة في القدس. دمجت  صحيفتي "الدفاع" و "المنار" في صحيفة واحدة هي "الدستور"، ونقلت مقرها إلى عمان. ودمجت صحيفتي "الجهاد" و"فلسطين" في صحيفة واحدة، هي "القدس"، وأبقت مقرها في القدس، في المبنى نفسه الذي كانت تصدر منه صحيفة "الجهاد". وأرسلت من عمّان أربعة موظّفين للإشراف على الصحيفة الجديدة، من بينهم محمود الكايد.

كان الكايد ممن أمضوا ثماني سنوات في سجن الجفر الصحراوي بتهمة الإنتماء الى الحزب الشيوعي. نشأت لديه وهو في السجن وجهة نظر مفادها أن عبد الناصر، بعد التحولات التي قام بها في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، يبني الاشتراكية في مصر، وفي هذه الحالة لا حاجة لحزب شيوعي للقيام بهذه المهمة، ولا ضرورة لأن يبقى الشيوعيون في السجن. كان يجاهر بذلك في صفوف المعتقلين، لكنه لم يفكر للحظة واحدة باستنكار الحزب، وهو التقليد الذي كان متبعًا لدى جهاز المخابرات الأردنية: اكتب استنكارًا للحزب وولاء لجلالة الملك، وانشره في الصحيفة المحلية، ومن ثم تغادر السجن. لم يقبل محمود الكايد ذلك. بقي في السجن إلى أن تمّ العفو عنه وعن بقية المعتقلين بقرار من الملك. وحين غادر السجن لم يعد إلى صفوف الحزب.

كان ذلك مؤشّرًا على خلل ما، وكان للقمع السياسي الذي امتدّ وطال تأثيرٌ سلبي على انتشار النشاط الحزبي في البلاد. كانت  الأوضاع في البلاد لا تؤهّلها للصمود في وجه العدوان. الأمر نفسه كان يشوب أوضاع بلدان عربية أخرى مع تفاوت في ما بينها، ولم نكن نرى ذلك، بسبب دخان الدعاية اليومية التي تمجّد الأنظمة والحكام المستعدين ليوم النصر المبين، يوم تحرير فلسطين.

كانت الأوهام كبيرة، ولذلك جاءت خيبة الأمل وما رافقها من إحباط ويأس وهوان أكبر وأفدح على نحو مريع.

3

مساء اليوم الأول للحرب غادرنا بيتنا نحو أقارب لنا مقيمين على مسافة من جبل المكبر الذي يدور حوله قتال.

ذكّرني هذا المساء بمساء آخر في العام 1948 . أيقظتني أمّي من نومي، وكنت آنذاك في السابعة من العمر. وحالما استيقظت سمعت انفجارات القذائف وصوت إطلاق الرصاص. قالت: اليهود هجموا على الجبل. شاهدت أبي وهو يحمل بندقيته الانكليزية، وجدي وهو يتمنطق بحزام من الفشك، ويحمل بندقيته الصواري الألماني. صدرت الأوامر لأمّي ولنا نحن الأطفال بالتوجه شرقًا للنجاة بأنفسنا في حال تقدمت القوات المهاجمة نحو بيتنا. كان بيتنا على مبعدة ألف متر من جبل المكبر حيث تدور المعركة.

حملت أمّي بعض المتاع الذي قد يلزمنا في ليلة الصيف هذه. كنا في تموز أو آب 1948 . مضينا أنا وشقيقاتي مع أمي، وكان من حولنا نساء وأطفال يدرجون في العتمة نحو الوادي في اتجاه حي "الجديرة"، حيث تعيش عائلات تنتمي لعشيرة الشقيرات. بقينا هناك أمام أحد البيوت، تحت السماء المملوءة بنجوم لا تحصى. لا أدري إن كنت نمت أم بقيت مستيقظًا على أصوات الانفجارات. لكنني بالتأكيد كنت أفتقد البيت وحالة الطمأنينة التي كانت تعمّني وأنا في فراشي بين جدرانه المتينة. الآن، أنا بعيد من البيت، أفتقد الأمن والأمان.

قُربَ الفجر، جاءنا صائح يصيح: اليهود يقتربون.

حملنا متاعنا الخفيف، ومضينا مبتعدين من حي "الجديرة". قطعنا طريقًا طويلة نحو قرية "السواحرة الشرقية"، حيث لنا أقارب هناك أيضًا. أقمنا في بيت أحد الأقارب، ولم تكن ثمة طمأنينة حتى ونحن في بيت الأقارب. كان بيتنا بعيدًا ونحن هنا بعيدون. عند الضحى جاءنا الخبر المؤلم: اليهود قتلوا صاحب البيت الذي نقيم فيه. عمَّنا الحزن والبكاء، وانهمكت النساء في اللطم وفي تمزيق ثيابهن عن صدورهن.

خرجت بنا أمّي إلى صخرة في الجوار، وكان من حولنا نساء وأطفال ممن نزحوا من الجبل. ثبّتت أمي بساطًا منسوجًا من صوف الأغنام فوق صخرتين متقابلتين لكي يقينا حرَّ الشمس، أقمنا تحته يومين أو ثلاثة أيام إلى أن جاء أبي من الجبل.

استأجرنا بيتًا في "السواحرة الشرقية"، أقمنا فيه أربعة أشهر، ثم عدنا إلى بيتنا في الجبل. كانت المأساة قد اكتملت. وكانت "السواحرة الغربية" ومن ضمنها "جبل المكبر" قد أصبحت قرية حدودية، سيجري احتلالها بعد ذلك التاريخ بتسعَ عشرة سنة.

4

مساء اليوم الأول لحرب حزيران مشينا في الطريق نفسها إلى أقارب لنا في منطقة "أمّ عراق" التي تبعد عن بيتنا بحوالي ثلاثة كيلومترات، ولا يمكن للسيارات العسكرية أن تصلها. فالمنطقة معزولة وغائرة في سفح "جبل الحرذان".

كنا أدركنا أن الحرب لا تسير على نحو مُطمْئن منذ ساعاتها الأولى. كان ثمة أمل في ما تبثّه الإذاعات عن انتصارات، لكن الوضع على الأرض لم يكن متطابقًا مع كلام الإذاعات. جاء أحد الشباب ممن هرعوا منذ الطلقة الأولى إلى جبهة القتال، شاهدوا أعدادًا من جنود الحيش الأردني يتقدَّمون نحو أقاصي الجبل، تحمس الشباب وتبعوهم، ولم يكونوا مزوّدين بأية أسلحة. كان منطق الفزعة هو الذي يحركهم. جاء الشاب وهو ينزف دمًا من بطنه بعد أن أصابته رصاصة. لم يكن هناك مستشفى قريب. ولم يكن هناك إسعاف ولا مواصلات ولا وسائل اتصالات. كنا نقيم في بيت أحد أعمامي حتى تلك اللحظة. بيت مندحر قليلاً عن مديات إطلاق النار. جاء الشاب واستغاث بي لكي أسعفه. حاولت إسعافه بوسائل بدائية. ولم ينقطع نزف دمه إلى أن فارق الحياة.

في المساء، اتجهنا نحو بيوت أقاربنا في "أمّ عراق". كان ثمة نازحون آخرون. جاء جندي أردني منسحب من المعركة إلى بيوت الأقارب. بندقيته في يمينه، والحزن بادٍ على ملامحه. فهمنا أن المعركة على الجبل لم تكن في صالحنا. قال الجندي: إنها الهزيمة.

في اليوم التالي، كانت الهزيمة تتضح على نحو أكثر سطوعًا. أعداد من أهالي القدس يمرون في سيل من البشر لا ينقطع، يمشون على غير هدى نحو الشرق، بعد أن اجتاح جيش الغزاة المدينة. وقعت بلبلة في صفوفنا نحن المقيمين عند الأقارب.كانت طائرات العدو تحلق في السماء القريبة فوق رؤوسنا. من يضمن لنا ألا تقصفنا الطائرات؟! من يضمن لنا ألا يتقدم نحونا الجنود الغزاة؟! كان ثمة من يفكرون في النزوح نحو الشرق، نحو الأردن كما وقع لأناس آخرين من أبناء فلسطين في العام 1948 .

بعضنا نزح نحو الشرق، رغم التحذيرات والنصائح. كثيرون منا قالوا: نموت في أرضنا ولا نرحل. هكذا بقينا في البلاد. عدنا إلى بيتنا في الجبل بعد أسبوعين من انتهاء الحرب بهزيمة نكراء. عدنا ونحن متخوفون من مداهمة مفاجئة. كان بيتنا مثل بيوت أخرى في الحي، قد تعرض لعملية تطهير قام بها الجيش المحتل. وجدنا طلقات رصاص قد اخترقت أبواب الحديد. وجدنا أبوابًا مخلّعة. وجدنا غبرة الحرب على جلد البلاد. كان ثمة قتلى من رجال ونساء بقوا في البيوت. كان ثمة شهداء من الجنود. كانت أيامًا من حزن وإحباط وذهول.

وكانت الإذاعة الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية تبث برامج وأغاني تشتمّ منها رائحة الشماتة والتشفّي والتباهي بالنصر السريع الذي أحرزه جيش لم يحارب إلا قليلاً على مختلف الجبهات.

وقعت الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان في أيدي الأعداء.

وأصبحت فلسطين كلها في قبضة الإسرائيليين.

أصبحت القدس الشرقية تحت الاحتلال.

5

دخلتُها بعد انتهاء الحرب.

ثمّة سيارات عسكرية، وفيها جنود صاخبون، تجتاز شوارع المدينة. كانت القدس منكسرة إلى أبعد الحدود، وثمّة متاجر مخلوعة الأبواب وبيوت أصابتها القذائف وتركت عليها أثار دمار.

كانت وجوه الناس حزينة معتكرة، والإحباط يتبدّى في العيون. وثمّة جموع من الإسرائيليين والإسرائيليات يجوبون أسواق المدينة وعلى الوجوه نشوة الانتصار. دوريّات الجنود الراجلة تتمركز هنا وهناك،

وكنا؛ قبل الهزيمة، أثناء تجمّعنا من حول مجلة "الأفق الجديد" جعلنا من بعض مقاهيها ومحالّ الكافتيريا فيها، ملتقى ثابتًا لنا. كانت كافتيريا "ساندريلا" الواقعة في شارع صلاح الدين تشكّل علامة فارقة في المدينة، إذ تعمل فيها فتاة جميلة تقدّم الطلبات للزبائن. كان هذا الأمر يجذب انتباهنا لانسجامه مع نزعة الحداثة التي تشق طريقها بحذر، وكان زبائن الكافتيريا في العادة من الرجال والنساء، على العكس من المقاهي الأخرى التي لا تستقبل إلا الرجال. كنا نلتقي في هذه الكافتيريا ونحن نتأبط كتبًا اشتريناها من المكتبات المنتشرة في شارع صلاح الدين، نتأبطها لكي نلفت انتباه فتاة الكافتيريا وغيرها إلى أننا مثقفون لا يُشقّ لنا غبار.

وكانت كافتيريا "جروبي" في شارع السلطان سليمان في عداد الأماكن التي نتردّد عليها، وأثناء ذلك يقدّم لنا صاحب الكافتيريا الكهل المهذب المتأمّل الصموت "أبو عطا" كل أنواع المشروبات، ما يساعدنا على مزيد من الحوارات السياسية والثقافية التي تذهب بنا مذاهب شتى.

بعد الهزيمة، زرت كافتيريا "جروبي". كان "أبو عطا" واقفًا كعادته خلف الكاونتر، عيناه على رصيف الشارع حيث تنداح أعداد من البشر مثل سيل لا ينقطع. سيجارته بين شفتيه لا يقبض عليها بين إصبعيه إلا على فترات متباعدة. شاهدته وهو مكتئب حزين. قال إن ابنه ذهب متطوّعًا للقتال منذ اليوم الأول للحرب، ولم يكن هذا الابن متدربًا على استخدام السلاح. ذهب ولم يعد حتى الآن، شأنه في ذلك شأن شباب كثيرين.

كان "أبو عطا" يرنو بعينيه الحزينتين نحو الرصيف، كما لو أنه ينتظر أن يرى ابنه الغائب وهو يعود فجأة. وها قد مرّت خمسون سنة على الهزيمة ولم يعد الابن الغائب. مات "أبو عطا" وفي نفسه لوعة على فقدان ابنه العزيز. وبعد سنوات من الهزيمة لم تعد كافتيريا "جروبي" موجودة. تمّ تحويلها إلى مطعم ملحق بمطعم مجاور. لم تعد كافتيريا "ساندريلا" موجودة كذلك. ومع تفشي نزعة المحافظة وانتعاش الأصولية الدينية في المدينة، أغلقت مقاهٍ عديدة، وتحولت إلى محالٍّ لبيع الأحذية أو لبيع الجلابيب للنساء. أغلقت دور السينما الثلاث كذلك، وتمّ إحياء الدواوين العائلية، وتعزَّز نفوذ العائلة الممتدة على الأفراد، وازداد  العنف الداخلي بين أبناء المجتمع، وتحوَّل الجزء الشرقي من القدس إلى قرية كبيرة.

في الوقت نفسه، أمعنت سلطات الاحتلال في تهويد المدينة، في زرع بؤر استيطانية كثيرة داخل البلدة القديمة، في الاستيلاء على بيوت عديدة فيها وتحويلها إلى كنس ومدارس دينية توراتية، في تحويل حارة المغاربة وحي الشرف إلى حي استيطاني يهودي، في إحاطة المدينة بسلسلة من المستوطنات، علاوة على محاصرتها بجدار الفصل العنصري، وفي تغيير المشهد العمراني فيها وإحاطتها ببنايات ضخمة تحجب المشهد الأصيل داخل سورها.

6

كانت هزيمة فادحة، ما زلنا نعاني من آثارها حتى الآن.

استفاق الشعب الفلسطيني من صدمة الذهول، وقدّم تضحيات جمّة على امتداد السنوات الخمسين الماضية، وما زال حتى اليوم يقدّم التضحيات. لم ييأس ولم يهن، وما زال الإصرار على الصمود وتحقيق الأهداف المشروعة في رأس قائمة الاهتمامات، رغم ما يحيط بالقضية الفلسطينية من تعقيدات، ومن محاولات دائبة لتصفيتها وتبديدها، ورغم ما تعانيه الحركة الوطنية الفلسطينية من تشرذم وانقسام وضعف وخلافات.

وأما القدس، فإن نزعة المحافظة التي تتبدى فيها عبر مظاهر عديدة، ما زالت تسهم في إضعاف النزعة المدنيّة فيها، وما كانت تعنيه هذه النزعة من تعدّدية وانفتاح.

وهي ما زالت تتعرّض للتهويد، ولعلَّ الهجمة الأخيرة على المسجد الأقصى وتكبيله بالبوابات الإلكترونية التي أسقطتها هبّة الجماهير، أوضح دليل على ذلك.

غيرَ أن مواطني القدس، مسلمين ومسيحيّين، مثلهم مثل باقي الفلسطينييّن في الوطن وفي الشتات، ما زالوا يحيون على الأمل، والإصرار على الولاء للوطن ورفض الهزيمة، رغم التباسات المرحلة وما فيها من مخاطر وصعوبات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • مجلة الدراسات الفلسطينية/ العدد 112- خريف 2017