ميشائيل بري
ترجمة حازم كويي
في بدايات عام 2017 كنت تجد ماركس في العديد من الاماكن في المانيا ،شاخصاً على اعمدة الاعلانات والملصقات الجدارية و في دور السينما (عُرض لهُ موخراً فلم بعنوان ماركس الشاب) هذا المثقف اللامع والرأس المتقد الذي يريد تثوير العالم .
من يقرأ اعماله سياسياً واستراتيجياً ،عليه أن يأخذ مواضيعهه ونواياهه بجدية ،يشعرالمرء بالتعامل مع كتاباته أكثر الاحيان وكأنه يُحادثنا عن المجتمع الرأسمالي بشكل مباشر.
ماركس كان قبل كل شئ مُتحدث يمتلك التحليل المتداخل بالروايات وكما كتب في احدى رسائله الى أرنولد روغه في كتاب الحوليات الالمانية الفرنسية عام 1844 (...اهدافنا لايمكن ان تقف على لاشئ فشعارنا ومبدئنا يجب ان يكون أصلاح الوعي الذاتي لاعن طريق الجمود بل تحليل تصوف الوعي الذاتي الديني والسياسي غير الواضح ، يظهرفيها ان العالم منشغل منذ زمن بعيد بحلم شئ ،هو وجوب امتلاك الوعي ليحتل مكانه كحقيقة)
الوعي لدى ماركس أعتمد من حيث الجوهر على دراسة الظروف الواقعية ،حيث يخلق الناس وعيهم الخاص بهم. الاهداف هذه شكلت بشكل حاسم تحليلاته السياسية مع الاشتراكيين والشيوعيين الذين تنافسوا مثله مساهمين في خلق هذا الوعي .
من يريد فهم كارل ماركس ،يجب عليه معرفة أنَ فهم الشيوعية مرتبط بالنقد النظري الجديد.
واجاب ماركس من أن البروليتاريا الشيوعية هي البديل الطموح مقابل المجتمع البرجوازي كونهم الفاعلون البديلون الذين يقومون بهذه المهمة، اما النقاد المنظرون، يَرون ان مهمة هذا الامر خاصة بالمثقفين.
خلفيات هذا الموضوع كما رآها ماركس هي الاضطرابات التي حدثت اواسط عام 1840، حين توسعت الى ازمة سياسية كبيرة ، هيأت للثورة الاوربية عام 1848ـ1849،فالحرف الصناعية في ذلك الوقت كانت منتشرة في كل مكان ، ففي انكلترة تشكل بشكل واسع الاشتراكيون الايونيون (نسبة الى روبرت اوين)وكذلك حركة العمال الشارتيين ،اما في فرنسا فقد أتحد الاشتراكيون والشيوعيون لاهداف تهيئة الثورة القادمة.
المثقفون الالمان الراديكاليون كانوا آنذاك مصابين بالعجز وهم في اعلى درجات النقد العقلي السياسي.
لقد تأثر ماركس في البدايات بالهيجلين الشباب ،فويرباخ وفلسفة الحق الهيجلية واصبح فيما بعد رئيس تحرير الجريدة الرينانية ،ثم تحول راديكالياً أثر احداث ثورة 1848 والتي اعطته الوضوح بلا رجعة للتطبيق العملي نحو الشيوعية البروليتارية بدلاً من الراديكالية الديمقراطية والنضال ضد البرجوازية الراسمالية من خلال الثورة الشيوعية وفاعلها البروليتاريا.
كان القرار الاول الذي اتخذه ماركس بأن الشيوعية هي الحل الجذري لمشاكل ذلك الوقت ،وانشق عن محاولات هيجل للبحث عن وساطة للتناقضات بين المجتمع البرجوازي(المواطن كبرجوازي) والدولة (الانسان كمواطن)ولم يكن حرصه لايجاد اشكال جديدة للعمل ضد هذه الاضداد،بل لرفع الاضداد نفسها.
واعاد صياغة مفهوم التحررحيث كتب في المسألة اليهودية (كل اشكال التحرر تعود الى عالم البشرية وعلى الانسان نفسه في تجربته الحياتية وبعمله وعلاقاته ونموها مع الاخرين ، حينها يعرف انه قوة هادفة في المجتمع ليكون بالتالي قوة اجتماعية منظمة معترف بها لتحرير الانسان بالكامل).
فالمجتمع الشيوعي كما كتب ماركس في الجزء الاول من (رأس المال) ..(لنتصور اتحاداً حراً بين مجموعة من الناس يعملون بوسائل انتاج اجتماعية ،يحصلون فيها على اجورهم بأنفسهم ،تكون بذلك اجور اتعابهم أجتماعية وليست فردية).
فالمجتمع الشيوعي ليس أحادي الجانب ولاوجود لتعارض بين المجتمع ،التعاونيات والعمل الشخصي .
هذه الرؤية رغم جذريتها توضح ماهو عدم حق التنازل ،فالامر يتعلق هنا بمجتمع تضامني يكون التطور الحر للافراد ليس على حساب الآخرين وانما مساهمة لتنويع الاكثرية وبالاخص الاكثر سوءاً في الاقسام الاخرى منها.وهذا يفرض التساؤل المستمر عن كل خطوة ملموسة ،كل الاجراءات الاصلاحية وسلطة الدولة الثورية باتجاه تفكير ورؤى روزا لوكسمبورغ.
لكن الاصلاحيين لهم تصور آخر عن المجتمع الشيوعي ،كونه لايلغي تناقضات المجتمع المعقدة وأنما اعادة تشكيلها باعتبار ان التخلص من سيطرة رأس المال يكون بالطريق القانوني والسياسي لمجتمع متطور،وهنا أدار ماركس نقاشاً ضد أشتراكية برودون وأتباعه بانتقادهم كونهم برجوازية صغيرة تريد الابقاء على السوق ، النقد ، الدولة والقانون والتمسك لما بعد الرأسمالية وكأنها لاتحمل تناقضاتها الجديدة بنماذج لايمكن التكهن بها ،وترك ماركس هذه الاسئلة لاجيال المستقبل وانطلق في ذلك لتحليلاته كومونة باريس وأدار للبرودونية والباكونية الاذن الصماء ،رافضا تصوراتهم عن المجتمع الشيوعي من خلال معرفته للعديد من التجارب الشيوعية في زمنه بتناقضاتها وفشلها ليخرج باستنتاجه الوحيد ،أن دكتاتورية الطبقة العاملة بخطة اجتماعية شاملة تخلق الامكانية لتجنب الفشل كون كومونة باريس مثالاً لديمقراطية راديكالية بدستور فيدرالي لمجتمع جديد.
في اواسط القرن التاسع عشر شكلت الماركسية والبرودونية صفحتان متعارضتان لفهم الاشتراكية الحية ،ورأى ماركس في برودون الاخ العدو للشيوعية ،الذي يجب تهديمه.
وكأستنتاج لاشتراكية القرن الحادي والعشرين ،بأن لاتكون وعداً خيالياً لمجتمع المستقبل ،وانما اشتراكية كحركة وهدف بحد ذاتها مع فهم التناقضات الاساسية ،فالتحرر الفردي وتشكل الوعي الاجتماعي يؤسس تواصلاً للاقطاب المعارضة ،التي لايمكن ان تنهار على الفور. ولايتعلق الامر باشكال الرأسمالية غير الاعتيادية من هذه التناقضات.
في كتاب (نقد الاقتصاد السياسي ) الذي كتبه ماركس عام 1859كتحليل نقدي لنمط الانتاج الراسمالي ،كان قد طلب من أنجلزراجياً (في حالة إن كتبت حول هذا الموضوع عدم نسيان1،.أن جذورالبرودونية قد هزمت 2. والشئ نفسه في ابسط الحالات تحليل السلعة على وجه التحديد أجتماعياً وليس للطابع المطلق للانتاج البرجوازي بأي شكل من الاشكال .
في ذلك الوقت كانت هناك إجابتان عن البدائل الاشتراكية للاقتصاد السياسي ،احداها اجابة برودون المُعدة والثانية عمل ماركس غير الشامل عام 1859.والذي اكتمل لاحقاً في رأس المال من خلال الموقف الداخلي للاشتراكيين ضد البرودونية و يتعلق بالتركيز على تقليص ساعات العمل وزيادة الاجور ،عملهم في التنظيم النقابي كان غامضاً لو لم تستند على وثائق مشاورات جمعية العمال العالمية (الاممية الاولى) وقد ظهرت لديهم في صلب المواضيع اسئلة استراتيجية منها ،هل تتمكن النضالات النقابية على المدى البعيد من الحصول وبنجاح على اجور عالية ؟ وماهي الكيفية للوصول الى الاهداف السياسية لتحرر الطبقة العاملة ومنها الى السلطة كهدف؟
هل بألامكان التحول الى المجتمع الاشتراكي بالطريق الاصلاحي للمجتمع البرجوازي الرأسمالي؟ الذي يمتلك مؤسساته الاقتصادية في المجتمع (الملكية الخاصة)،الاسواق ،المنافسة ،القروض،البنوك التقاعد..الخ .وهذا ما مثل الموقف البرودوني، فالجديد يتوجب ان ينمو من القديم بأتحاد حر للعمال انفسهم. فهدف سياسة برودون الاشتراكية هي خلق افضل الشروط الممكنة باستراتيجية الممكن ،عكس ماركس الذي اختار الطريق الثوري من خلال دكتاتورية البروليتاريا الديمقراطية والممهدة كمعبر لنقل وتحويل الانتاجية ونمط الحياة الذي يقود الى طريق المجتمع الشيوعي .
ومن يقرأ الآن الوثائق التي قدمها ماركس بعد عام 1864وخاصة بعد اجتماعات الجمعية العمالية العالمية (الاممية الاولى)،يرى كيف أنه رسم الاهداف ذلك الوقت كمثقف اشتراكي بالرغم من عدم تصويته على الكثير من المواقف للبرودونيين وقيادات نقابات العمال البريطانية او البلانكيين، متطلعا الى استراتيجية شاملة ،وفي كل الكونفرنسات التي عقدت، حُصِدت الكثير من النقاشات المثمرة ومنها العلاقات مع الفلاحات و الفلاحين والاسئلة عن الدولة ،كفاح العمال ،تنظيم الميراث والنضال حول الملكية. برزفيها الدور القيادي لماركس في اجتماعات الجمعية العمالية بشكل غير مباشر في قيادة استراتيجية جلبت فوائدها في المجالات المختلفة. ضمن له كسب الاصوات من خلال النقاشات الاسبوعية المفتوحة التي كانت تعقد في لندن.
بعدعام 1871 تعرضت جمعية العمال العالمية (الاممية الاولى) الى انكسارات نتيجة توسع الخلافات.وكان هذا هو مصير الحركة الاشتراكية والحركة العمالية الماركسية او البرودونية والبرنشتينية بالكامل عندما وضع الفأس على التناقضات التي لاغنى عنها كونها تشكل حيوية الحركة رغم المحاولات التي قام بها ماركس لتثبيت المنظمة.
الانقسامات لايمكن تجنبها في بعض الاحيان والتي من الممكن ان تكون خطوة الى الامام وهذا ينطبق ،ان التناقضات الاساسية او الجوهرية للحركات الاشتراكية والشيوعية بوجوب اعادة تنظيم نفسها .والقرار الاخر الذي اتخذه ماركس عام 1843/1844 هو ان البروليتاريا في اي بلد اومجتمع هي القوة المحركة التي تحطم سلاسل القيود لتحرير نفسها جذرياً منطلقاً من الوصف التأريخي المكثف عن الثورة الفرنسية 1789والتي كتب فيها( دور المُحررينتقل بخط وحركة دراماتيكية على مختلف طبقات الشعب الفرنسي حتى تصل او تحط في النهاية الى الطبقة التي لم تكن لديها الحرية الاجتماعية ولاتخضع لشروط معينة بل لشروط التحديات في تنظيم الحرية الاجتماعية وحله من خلال البروليتاريا ).
وكان ماركس في البداية مدفوعا على وصفة هيجل والاقتصاد السياسي البرجوازي لآدم برغسون وآدم سمث.
ماكتبه انجلز في معنونته (ملامح حول نقد الاقتصاد الوطني) كان دافعاً لنقد السياسة وحق نقد الاقتصاد السياسي ،لان وضع العمال قد توضح بشكل تام من خلال التركيبة الاقتصادية وطور مفهمومه المادي للتأريخ وسياسته الاستراتيجية الهادفة الى تعزيز حركة عمالية مستقلة ومضمونة، وكان رأسماله الدائم هو تأسيس المهام التأريخية للبروليتاريا.
وهذا القرار هو ايضا للطبقة العاملة الصناعية كلاعبين اساسيين ثوريين لازاحة الرأسمالية والتي حَركت لنقاشات واسعة لانهائية.
من جهة اخرى كانت الحركة العمالية في القرن التاسع عشر ومابعدها في حالة مواجهة بعد خيانة الطبقة البرجوازية. حيث كانت الاجابة على تراجعهم بسياسة الاعتماد على النفس وزيادة قوة الطبقة العاملة وتعميق صلاتها، وكانت دعوة فلورا تريستان بشكل مبكر عام 1843 لحركة بروليتارية نسائية (أُطالب وبقناعة ، بحقوق المراة ، فالكوارث العالمية تأتي ،كون الرجل قد نسى حتى اليوم حقوقها واحتقرها، ولانه الطريق الوحيد لاعادة الاعتبار لها امام الكنيسة وامام القانون والمجتمع ،تحرير المرأة سيكون شرطا لتحرر العمال كطبقة).
وتعلق الامر بالعلاقة بين الحركة العمالية والطبقة الوسطى التي اصبحت في القرن التاسع عشر اقوى ،اضافة لزيادتها العددية ،واليوم تمثل البروليتارية الصناعية في الدول المتقدمة نسبياً بحدود 10 الى 20 بالمئة ،فالثورات الاشتراكية الكبرى في القرن العشرين كانت قد تشكلت من العمال والفلاحين كما في روسيا او الاكثرية الفلاحية في الصين تحت قيادة حزبها الشيوعي .
وطالب ماركس الحركة العمالية بسياسة مستقلة والتوجه في نفس الوقت الى اتحاد مع البرجوازية الصغيرة وطبقة الفلاحين.
كومونة باريس اوضحت لنا بأن النصر غير ممكن دون هكذا اتحاد ،في روسيا كانت الثورة ضد الاقطاع والنظام القيصري ،وتجلت رؤية ماركس في النضال ضد الكولونيالية وبالربط لثورة اشتراكية بقيادة الطبقة العاملة في غرب ووسط اوربا مع ثورة ضد الكولونيالية والاقطاع في الشرق ومحاولته لتتمركز عند الطبقة العاملة ( والانفتاح لاتحاد واسع مع اعداء الرأسمالية)،لنستطيع التعلم منها اليوم كما تعلم لينين ذلك الدرس قائلاً(من ينتظر ثورة اجتماعية نظيفة لايمكن ان يعيشها ابداً ،فهو ثوري بالاسم فقط ولايفهم الثورة حقاُ).
يجب قراءة ماركس استراتيجياً ،قالها انجلز على قبره(ماركس كان قبل كل شئ ثوريا ومشاركا بهذا الشكل او ذاك لتهديم المؤسسات الراسمالية والعمل لبناء مؤسسات تكون في خدمة البروليتاريا المتطورة.ليعطي لاول مرة شروط وعي تحررها وكانت هذه حقا وظيفته الحياتية وعنصرا من نضاله العاطفي المثابر مكافحاً بشغف ومثابرة وبنجاح ليس بالقليل )
نضال ماركس في عصره كان جزءاً لايتجزأ من التيار الواسع للاشتراكيين وحركة الطبقة العاملة والذي بذل فيها كل طاقاته ليعطي دفق الوعي والتوجيه كجزء من الحركة الاشتراكية والعمالية الثورية .قراءته استراتيجياً يعني قضاء وقت في فهم خطاباته الاستراتيجية لليسار،وسيكون غير ممكن دون بقايا من ، برودون ،ميشائيل باكونين ،فلورا تريستان وفرديناند لاسال ،جون ستيوارت مل ،لويس ميشائيل ،لويس اوتو بيترس ونيكولاي تشيرنيفسكي ،ولفهم مجمل نصوص ماركس يعني ايضاً ان الطرف المقابل لديه استقلاليته وادائه الخاص،وبنظرة خلفية اثبتت ،ان اخوته الاعداء لايلاحظون عدا القليل الطريق المشترك الذي يربطهم.
في الصراعات التضامنية تمكنت القوى الاشتراكية والشيوعية في القرن التاسع عشر من أدارة التناقض الذي لاغنى عنه للاشتراكية الحية وقد عمل ماركس على وضع الاقطاب المتناقضة في مكانها ونجح في تأكيد هذه الاقطاب بجميع عناصرها ،التي لايمكن الاستغناء عنها اجمالاً في اتجاة السياسة الثورية.
على اليسار الآن الاعداد والتهيئة لقرارات استراتيجية بقراءة ماركس على هذه الخلفية وقادرة على التغيير في بداية القرن الحادي والعشرين باتجاه واضح لكسر رأسمالية السوق المالي النيوليبرالي .