قيام ثورة اكتوبر والتوجه العام للسلطة السوفياتية لم يعجب البرجوازية العالمية وواجهته الرجعية المحلية وايتام النظام القيصري بالعداء الصريح المكشوف الذي وصل حد رفع السلاح بوجهها في التمرد الذي تزعمه اثنان من كبار جنرالات القيصر : دينيكين وكولجاك واقتحام الحدود السوفياتية من الشرق ( القوات اليابانية ) ومن الغرب قوات التحالف الدولي المعادي للسلطة السوفياتية .
ومن اجل توفير لقمة الخبز للشعب ومواجهة التمرد والتدخل الدولي اضطرت الحكومة السوفياتية الى تطبيق ما سمي في حينه (( شيوعية الحرب )) أي نظام مصادرة المنتجات الزراعية الفائضة عن حاجة الفلاحين لضمان معيشة عوائلهم وحتى (( غير الفائضه في بعض الاحيان )) كما اشار لينين في بعض كتاباته عن تلك الفترة. وكما يؤكد لينين فقد اشترك الفلاحون الاغنياء، حالهم حال باقي الفلاحين، في القتال ضد التمرد والتدخل الاجنبي فهم ادركوا تماماً - الفلاحون جميع الفلاحين - بان انتصار التمرد واسقاط السلطة السوفياتية يعني الغاء مرسوم الارض وعودة النبلاء الروس الى السلطة.
وهذا ايضا ما حدا بلينين ان يوصي باحترام ملكية الفلاحين الاغنياء وتلبية مطاليبهم بعد انتهاء الحرب ضد التدخل الخارجي والقتال ضد قوات دينيكين وكولجاك وتحقيق النصر النهائي عليها وان تقرر الدولة انهاء ((شيوعية الحرب)) والغاء نظام المصادرة للمنتجات الزراعية واللجوء الى نظام ((الضريبة العينية)) واتباع سياسة اقتصادية جديدة حملت العنوان ((النيب)) وللنيب محاوره العديدة.
في ما كتبه لينين بعد ثورة اكتوبر عن بناء الاشتراكية في روسيا السوفياتية والاتحاد السوفياتي بعد اعلانه اواخر عام 1922 - اوائل العام 1923 ، اشار الى واقع التخلف الاقتصادي في روسيا ؛ الصناعي في المدن والزراعي في الارياف، لحد ان بعض السكان كانوا يعيشون في البوادي على تربية المواشي .
سكان روسيا كانوا وقت الثورة مائة وخمسين مليون وان اكثر من ثمانين مليون منهم فلاحون والبروليتاريا لا يزيد تعدادها على العشرة ملايين فكيف تبنى الاشتراكية والبلد في حالة تخلف اقتصادي وفكري ايضاً وهذا ما حدا بلينين الى ان يقول وبصراحة وهو يتحدث عن سياسة النيب التي بديء بتطبيقها ((لقد اخطأنا عندما طبقنا الاشتراكية)) وعليه فنحن ((نعود الى الرأسمالية)) ((انها عودة الى الرأسمالية يا رفاق)) وقال بحزن ((لقد هزمنا يا رفاق)).
كان حزينا فقط وليس يائساً ومهزوماً وهذه الحالة هي ما اسماها الدكتور ماهر الشريف في الحلقة الثالثة من حديثه عن الذكرى المئوية لثورة اكتوبر المنشورة في طريق الشعب بـــ ((استراحة محارب))، اجل انها استراحة للمحارب وليست التراجع والهروب من ساحة المعركة، الم يكتب لينين ((خطوتان الى وراء، خطوة الى امام))؟
بعد قيام الثورة في روسيا واستلام البلاشفة للسلطة وصل الى موسكو وفد من منغوليا وعرضوا عليه انهم يريدون بناء الاشتراكية في بلادهم فرد عليهم بالسؤال ((كيف تستطيعون ذلك وشعبكم يسكن الخيام)) فكيف يراد من لينين وهو التلميذ الامين لماركس ان يباشر فوراً في بناء الاشتراكية في روسيا وهي بهذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟ ان المادية التاريخية ترفض رفضاً قاطعاً ان توضع الخطط والمشاريع وتقرر السياسة وفقاً للارادوية والذاتوية والاماني والرغبات بل وفقاً للواقع والامكانيات وقد كتب لينين وقتها عن ضرورة وجود مرحلة وسطية بين الواقع المتخلف والانتقال نحو بناء الاشتراكية تستكمل فيها عملية تهيئة الاسس المادية المطلوبة لذلك الانتقال.
في مسودة اولية للموضوعات في المسألة الزراعية كتب يقول :
((ان الظروف الخاصة التي عقدت وعرقلت نضال البروليتاريا ضد كبار الفلاحين في روسيا بعد ان تغلبت البروليتاريا على البرجوازية انما تنحصر خصوصاً في كون الثورة الروسية قد اجتازت بعد انقلاب 7 نوفمبر 1917 مرحلة نضال ((ديمقراطي عام)) – القويسات هنا من وضع لينين - أي ديمقراطي برجوازي من حيث الاساس قام به جميع الفلاحين ضد الملاكين العقاريين ومرد هذه الظروف ايضاً الى ضعف بروليتاريا المدن ثقافة وعدداً واخيراً اتساع البلاد الشاسع وشدة طرق مواصلاتها)) .
ان الحياة فرضت على لينين والحزب والسلطة الجديدة ((استراحة المحارب)) أي سياسة ((النيب)) – السياسة الاقتصادية الجديدة - .
كان ينبغي بناء الصناعة الثقيلة دع عنك الصناعة الخفيفة، وان الصناعتين مطلوبتان، وهذا يتطلب رؤوس اموال ضخمة، ورؤوس الاموال موجودة لدى اصحابها في الدول الامبريالية فعرضت السلطة السوفياتية عليهم توظيف رؤوس اموالهم والتكنولوجيا المتوفرة لديهم داخل البلاد السوفياتية فوافق البعض منهم رغم الحصار المفروض على روسيا. لدى زيارتنا نحن اعضاء الكروب العراقي في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو عام 1974 الى معمل كاليبر للاجهزة الدقيقة في موسكو علمت انه احد المؤسسات الصناعية التي انشأها الاستثمار الخارجي خلال فترة سياسة النيب، وكذلك قيل لنا لدى زيارتنا الى معمل نسيج في مدينة لينينغراد في كانون الثاني من العام 1975.
في الريف بعد النصر على التمرد وقوات التدخل الاجنبي وتوزيع الاراضي على فقراء الفلاحين وتحولهم الى ((برجوازيين صغار)) وفقاً لما قاله لينين، والتخلي عن شيوعية الحرب ((اللجوء الى الضريبة العينية)) اصبحت هناك ضرورة لفسح المجال لجميع الفلاحين بالمتاجرة بمنتوجاتهم الزراعية لصالحهم هم وهذا مظهر من مظاهر الرأسمالية وهو يولدها في كل دقيقة وثانية وهذا ما يعرفه جيداً علماء الاقتصاد السياسي .
ولمواجهة هذا الواقع كان ينبغي ان يكون هناك فرع اقتصادي يمسك في يديه بزمام قيادة الاقتصاد، وهذا النوع كما نصت سياسة النيب ((هو رأسمالية الدولة)) و– رأسمالية الدولة – هذه تختلف تمام الاختلاف عما يسمى ((رأسمالية الدولة الاحتكارية)). كان ينبغي ان تشاد في روسيا (( راسمالية الدولة )) ولكن من اين تأتي الدولة بالنقود لتشييد هذا الفرع الهام من فروع الاقتصاد الوطني والمكلف طبعاً ؟
وهنا جاءت المبادرة من عمال محطة قطار قازان الذين قرروا العمل كل يوم سبت من كل اسبوع بدون اجر تبرعاً منهم للدولة كي تتوفر لديها السيولة النقدية اللازمة وانتشرت تلك المبادرة لتشمل كافة ارجاء روسيا السوفياتية تحت اسم السبوت الشيوعية وهذه المبادرة هي ما استند اليه لينين في مقالته ((فظيع وغريب)) رداً منه على القرار الذي اتخذته اللجنة القيادية لمنظمة الحزب في موسكو احتجاجاً منها على معاهدة صلح بريست ليتوفسك والتي ورد في قرارها ان السلطة السوفياتية قد اصبحت ((سلطة شكلية بحته)) .
هذا التقليد استمر بعد ان اصبح مرة واحدة كل عام. عام 1975 كنت في موسكو وبعد ان مر يوم السبت الشيوعي لذلك العام سألت عما جمع عمل ذلك اليوم للدولة من سيولة نقدية فكان الجواب ((مائتي مليون روبل)) والروبل الواحد كان آنذاك يعادل دولاراً امريكياً وربع الدولار. وسألت عن الوجهة التي تقررت للتصرف بذلك المبلغ فكان الجواب خصصت لمعهد ابحاث مكافحة مرض السرطان دعماً لنشاطه المتميز والذي كان يشارك فيه اضافة الى مجموعة من العلماء الاختصاصيين السوفيات، مجموعة من العلماء القادمين من مختلف البلدان الاشتراكية . شخصيا زرت المعهد ذلك العام وشاهدت بنفسي ما يدور فيه من ابحاث وقد كتب لينين حول رأسمالية الدولة معتبراً اياها الدرجة التي تقف الى جانب الانتقال الى مرحلة البناء الاشتراكي حيث الانتقال المباشر منها دون المرور بمرحلة وسيطة كانوا بحاجة الى التبادل التجاري مع الدول الاخرى والتي كانت تفرض الحصار على روسيا لخنقها ومنعها من التطور الاقتصادي، الا انهم لم يستطيعوا الاستمرار في حصارهم ذاك فهم كانوا بحاجة الى المتاجرة مع روسيا ،ومن حديث للينين مع مجموعة من الناشطين، وكان قد علم تواً بقرار احدى الدول الاوروبية بفتح باب التجارة مع روسيا السوفياتية يتضح كم كان مبتهجاً لذلك الخبر وحول التجارة قال في مقالته المعنونة ((حول اهمية الذهب اليوم وبعد انتصار الاشتراكية التام)) :
(( كتبت في نيسان 1918 في المهام المباشرة امام السلطة السوفياتية ما يلي : لا يكفي المرء ان يكون ثورياً ونصيراً للاشتراكية او شيوعياً بوجه عام انما ينبغي له ان يعرف كيف يجد في كل فترة خاصة، الحلقة الخاصة في السلسلة والتي يجب عليه التمسك بها بكل قواه من اجل عدم اضاعة السلسلة كلها وتحضير الانتقال الى الحلقة التالية تحضيراً متيناً)) .
ما هي الحلقة الرئيسة في تلك اللحظة – فترة سياسة النيب ؟ اوضح لينين انها ((التجارة)) .
تحدث لاكثر من مرة عن استبدال نظام المصادرة بالضريبة العينية واوضح بالارقام ان الدولة كانت تجبي من الفلاحين وفقاً لنظام الضريبة العينية اضعاف ما كانت تحصل عليه خلال فترة ((المصادرة)) .
هذه كانت اتجاهات سياسة النيب والتي تعزز من خلالها تحالف العمال والفلاحين وهذا ما جرى الاخلال به بعد وفاة لينين واستلام ستالين زمام القيادة والخلل الذي اصاب جماعية العمل في قيادة الحزب اوائل ثلاثينيات القرن العشرين. لقد ضربت عرض الحائط طريقة لينين في التعامل مع الفلاحين، أي ان لا تفرض عليهم الامور فرضاً وبقرارات فوقية حيث اخذوا ينظرون بعين الريبة للقرارات التي تصدر عن زعامة الدولة وتصورها خاطئة حتى اذا كانت صحيحة، الامر الذي كانت له نتائج عكسية جرى الحديث عنها وايضاحها كثيراً. وللاستيعاب اكثر انصح هنا بالرجوع الى روايتي شولوخوف الارض البكر حرثناها ((والدون الهادئ)) ورواية جنكيز اتيماتوف
((المعلم الاول)). شولوخوف في الارض البكر حرثناها يشير الى فلاح مسن كان جالساً على حافة الطريق بانتظار عودة قطيع الماشية من المرعى ليمضي الليل في حضيرة الحيوانات التي اعدت للمواشي التي جمعت من البيوت واصبحت ملكاً عاماً للكولخوز ينهض من مكانه ويحتضن عجلاً من العجول ويشبعه تقيبلاً وهو يردد ((اخذوك مني الظلاّم)) !.
اجل ظّلام هكذا اصبحت السلطة السوفياتية في نظر ذلك الفلاح. اما في الدون الهادئ فهو يرسم صورة عن كيف جرى التفريط بتحالف العمال والفلاحين والذي استهدفت سياسة النيب تمتينه.
ايتماتوف يرسم صورة محزنة عن الوضع في الكولخوز الذي ارسل ((المعلم الاول)) اليه ليكون المسؤول الحزبي فيه ومعالجته.

عرض مقالات: