في الثامن عشر من آذار عام 1871 ارتفعت على قاعة بلدية باريس راية الثورة لتعلن ميلاد أول "دولة" للعمال في التاريخ. وأصاب العالم الرأسمالي الهلع لدى رؤيته هذه الراية تخفق في قلب أوروبا مهددة بالاطاحة بسلطة رأس المال. وعلى الرغم من أن كومونة باريس لم تستمر اكثر من 72 يوماً، حيث سقط آخر مقاتليها يوم 28 ايار 1871، الا أنها استطاعت، في هذه الأيام القليلة، أن تقدم أغنى الدروس حول مهمات الاطاحة بالنظام القديم وتحرير المجتمع. وأظهرت الكومونة كيف أن البرجوازية لا تلقي السلاح بل تحارب، بكل ضراوة، أية محاولة لبناء المجتمع الجديد. لم تقف البرجوازية مكتوفة الأيدي وهي ترى الكومونة تهدد سلطة رأس المال، ورأت أن عليها أن تتحد لمواجهة هذا الخطر، فاتحد أعداء الأمس، بسمارك وتيير، لمواجهة عمال باريس. أما السبب الرئيسي لهزيمة الكومونة فيكمن في عدم وجود تنظيم مستقل للعمال، بينما كانت أفكار بلانكي وبرودون حول وهم خلود الملكية الصغيرة مهيمنة.

خبرة الكومونة .. بطولة ثوارها

كان ماركس قد حذر عمال باريس في خريف عام 1870، أي قبل الكومونة بأشهر عدة، من أن أية محاولة لاسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع اليها اليأس. ولكن عندما فرضت المعركة الفاصلة في آذار 1871، وعندما غدت الانتفاضة واقعاً، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماس رغم نذر الشر. ولم يصر ماركس على اتخاذ موقف متحذلق لادانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها"، كما فعل الماركسي الروسي بليخانوف عندما كتب في تشرين الثاني 1905 مشجعاً نضال العمال والفلاحين، ولكنه أخذ يصرخ بعد كانون الأول 1905 على طريقة الليبراليين "ما كان ينبغي حمل السلاح" !
ولم يكتف ماركس بالتعبير عن الاعجاب الحماسي ببطولة ثوار الكومونة الذين "هبّوا لاقتحام السماء" حسب تعبيره، بل رأى في هذه الحركة الثورية، على الرغم من إخفاقها في تحقيق غاياتها، خبرة تاريخية ذات أهمية عظمى، وخطوة عملية أهم من مئات البرامج والمناقشات.
ووضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه التجربة واستخلاص الدروس منها، وإعادة النظر في أفكاره على ضوئها. وكان "التصحيح" الوحيد الذي رأى ماركس ضرورة ادخاله على "البيان الشيوعي" مستوحى من الخبرة الثورية لكومونة باريس.
وفي آخر مقدمة للطبعة الألمانية الجديدة من "البيان الشيوعي"، والتي تحمل توقيع المؤلفين: ماركس وانجلز، بتاريخ 24 كانون الثاني 1872 يقول المؤلفان إن برنامج البيان الشيوعي "قد عفا الزمن على بعض تفاصيله". ويضيفان: "لقد أثبتت الكومونة شيئاً واحداً، على وجه الخصوص، وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع، ببساطة، أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة".
وهذه الفقرة الأخيرة اقتبسها المؤلفان من كتاب ماركس (الحرب الأهلية في فرنسا). وهكذا اعتبر ماركس وانجلز أحد الدروس الرئيسية لكومونة باريس يتمتع بأهمية عظمى حملتهما على ادخاله كتصحيح للبيان الشيوعي.

أيام الكومونة

في عام 1949 كتب بريخت، المسرحي الالماني الشهير، مسرحيته (أيام الكومونة) ذات الدلالات البليغة، والتي تتسم براهنيتها.
وفي هذه المسرحية، التي تكشف، من بين أمور أخرى، عن كيفية انتقال المواقف، وتحالف الخصوم، تحت راية الأرستقراطية الفرنسية، لينتهي هذا الحلف غير المقدس الى سحق كومونة باريس .. تيير، القزم الوحشي، حسب توصيف ماركس، يتحالف مع الأرستقراطية الفرنسية العريقة، وهي امتداد لأسرة آل بوربون، بل ويتحالف مع العدو التاريخي لفرنسا، بسمارك ألمانيا.
في هذه المسرحية نقرأ حواراً مروّعاً بين جنفياف، إحدى ألمع ثائرات الكومونة، وكانت تعمل مدرسة، ورفيقها جان كابيه ..
ذات لحظة، واذ تصبح هزيمة ثوار الكومونة حقيقة واقعة تتطلع جنفياف الى جان قائلة: في هذه اللحظة، حسب، صرنا يا جان قادرين على أن نتعلم. فيقول لها جان بمرارة: لكن ما جدوى أن نتعلم طالما أننا، أنت وأنا، سنموت لا محالة ؟ تنظر جنفياف الى رفيقها بدهشة وتقول: أنا لا أتحدث عنك وعني، أنا أقول نحن .. ونحن أكبر كثيراً من مجرد أنت وأنا ..
أجل .. فالتاريخ يمضي، ويطرح سؤال الانسان، وهو يحمل خنوعه وبؤسه من جانب، وثورته وحلمه من جانب آخر !

لهيب الانتفاضة الثورية

في تموز 1970 قام شارل لويس بونابرت (نابليون الثالث) بشن حرب ضد بروسيا، وهي الحرب التي قابلها عمال باريس، وعمال ألمانيا أيضاً، بالاحتجاج. وأصدرت جمعية الشغيلة العالمية (الأممية الأولى) بياناً جاء فيه: "إن الحرب من أجل التفوق أو الحرب لمصلحة أسرة مالكة لا يمكن أن تكون في نظر العمال الا جنوناً اجرامياً. فنحن نريد السلام والعمل والحرية. ونحن نعلن أن عمال العالم هم أصدقاؤنا، وأن طغاة العالم هم أعداؤنا".
وانتهت حرب لويس بونابرت بهزيمته وأسره في أيلول 1970 ليتم اعلان الجمهورية وتكوين حكومة الدفاع الوطني، التي كانت تمثل، بالأساس، الرأسماليين والملاك العقاريين وكبار موظفي الدولة الطفيليين. واستلمت البرجوازية السلطة والجيش الألماني يهدد باقتحام باريس. غير أن حكومة "الدفاع الوطني" البرجوازية أدركت أن انتصار باريس على القوات الألمانية يعني، في الوقت نفسه، انتصار العامل الفرنسي على الرأسمالي الفرنسي. وكان عليها الاختيار بين الدفاع عن فرنسا وبين مصالحها الطبقية، أي بين تسليم فرنسا لألمانيا أو تسليم السلطة للعمال. وكان من الطبيعي أن تتخذ البرجوازية موقف التمسك بمصالحها الطبقية، وهو ما أدى الى استسلام حكومة الدفاع الوطني لقوات بسمارك.
وولت حكومة الدفاع الوطني هاربة من باريس الى فرساي، لتبدأ تنفيذ دورها الأساسي الذي رسمته معاهدة استسلامها لألمانيا، متمثلاً بقمع عمال باريس ونزع أسلحتهم، فأعدمت بلانكي، الثوري الفرنسي الشهير، وشن تيير، رئيس حكومة الدفاع الوطني، حملة للاستيلاء على أسلحة الحرس الوطني. وأرسل الجنرال لاكومت بصحبة قوات لنزع سلاح العمال المدافعين عن باريس في محاولة للاستيلاء على مدافع الحرس الوطني التي كانت تحرس تل مونمارتر الشمالي..
دقت أجراس الكنيسة الانذار، وتكاتفت الكتائب الثورية للعمال والفلاحين والنساء مع جنود الحكومة، وقاموا بانشاء المتاريس. وعندما أصدر لاكومت الأمر باطلاق النيران على الحشود، رفض الجنود تنفيذ الأمر، وقاموا، بدلاً من ذلك، بقتل لاكومت!
هكذا رد العمال على هذا العسف بالاستيلاء على بلدية باريس، واعلان اللجنة المركزية للحرس الوطني استلام السلطة في بيان جاء فيه: "ان بروليتاريي باريس فهموا، وسط اخفاقات وخيانات الطبقات الحاكمة، أن الساعة قد دقت لانقاذ الوضع، وذلك بأن يأخذوا بأيديهم ادارة الشؤون العامة".
وكان أن انبثقت كومونة باريس بهذا الشكل العفوي، اذ أدت الهزيمة في الحرب ضد ألمانيا، وعواقب الحصار، وانتشار البطالة في صفوف العمال، والخراب في صفوف البرجوازية الصغيرة، وسياسات الحكومة البرجوازية المعادية لمصالح العمال والكادحين، أدت الى تعاظم السخط الشعبي واندلاع لهيب الانتفاضة.
غير أن البرجوازية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام تهديد الكومونة سلطة رأس المال، فهبت لمواجهة الخطر، واتحد أعداء الأمس، بسمارك وتيير، لمواجهة عمال باريس. وبدأ جيش فرساي المدعوم من ألمانيا بمهاجمة باريس المحاصرة. وفي 21 أيار استطاع اقتحامها مقترفاً مذابح لا نظير لها في تاريخ فرنسا. وفي 28 أيار سقطت الكومونة مضرجة بدماء ما يتراوح بين 25 و30 ألفاً من عمال وثوار باريس، وحفرت المقابر الجماعية في أنحاء المدينة، وخيم الموت والدمار.

بانية المتاريس

كتب ماركس يقول ان النساء لم يشاركن في التصويت العام على الكومونة. وعلى الرغم من ذلك كان الدور الذي اضطلعت به النساء مثيراً للدهشة. ففي الطريق المؤدي الى مونمارتر ظهرت لويز ميشيل، بطلة الكومونة التي حملت لقب "بانية المتاريس"، وهي تهرول نحو جهة المدافع .. مالت المرأة البالغة 41 عاماً نحو رجل مصاب، وهي تسمع واحداً من الجنرالات يقول إن باريس، الآن، في قبضة الجيش الفرنسي، وان "الرعاع القذرين الذين أخذوا هذا السلاح من المكان الذي يجب أن يكون فيه، سيتلقون درساً قاسياً".
أدركت لويز جيداً ماذا يعني هذا .. المشكلة أنه كان هناك عداء مستحكم ضد أية امرأة تتمتع بأفكار مستقلة. غير أنها تمكنت، رغم ذلك، من كسب مصداقية كبيرة. وكانت قد التحقت بالاتحاد الأممي للرجال العاملين، الذي أسسه ماركس وآخرون. وكان من الصعب أن تنضم الى تشكيل "ذكوري"، كما هو حال انضمامها الشاق الى الحرس الوطني !
وعندما سمعت ميشيل ما قاله الجنرال أمرت بقرع أجراس الكنيسة. وفجأة سمع الجنود البؤساء، الذين كانوا لا يزالون يحرسون المدافع، أصوات الناس المقبلين عليهم تتزعمهم لويز ميشيل التي تمكنت من حشد ما يقرب من 200 سيدة، أغلبهن مسلحات بالبنادق باتجاه الجنود الثلاثة آلاف المسلحين.
كتبت ميشيل لاحقاً: "كنا نسير بأسرع ما يمكن، عارفين أن الجيش ينتظرنا هناك. من أجل الحرية كنا نتوقع الموت. كل الناس كانوا هناك، لا أعلم كيف". أمر الجنرال جنوده ثلاث مرات، لكنهم رفضوا ذلك. وفجأة هتف رقيب: "لابد أن نتمرد". كان المشهد مهيباً، حيث احتضن الناس الجنود، وتشاركوا زجاجات النبيذ.
وكانت لويز ميشيل تناقش كل من تعرفه باصرار بالغ: "لابد أن نسير الى فرساي. هذا هو الوقت المناسب".
تمكنت لويز مشيل من الفرار من الموت المحقق اثر هزيمة الكومونة، غير أنها لم تكن محظوظة بما فيه الكفاية للافلات من القمع. فقد نقلت للعمل في المستعمرات، ثم سجنت بعد ذلك عند عودتها الى فرنسا. لكنها لم تفقد روح التحدي يوماً. وحين كانت على فراش الموت جاءها خبر الثورة الروسية عام 1905، انتفضت من فراشها ورقصت في أرجاء الغرفة، ثم استلقت ثانية وهي تقول: "حسناً، أنا الآن مستعدة للموت".

انجازات الكومونة

على الرغم من أن كومونة باريس لم تستمر أكثر من 72 يوماً، فقد استطاعت أن تطرح، في هذه الأيام القليلة، مهام الثورة الاشتراكية وتحرير الطبقة العاملة. وكشفت الكومونة عن حقيقة كيف أن البرجوازية تقاوم، بكل وحشية، أية محاولة للاطاحة بالنظام القديم. كما أكدت الكومونة الأهمية الحاسمة لدور الحزب الثوري في استمرار الثورة البروليتارية.
وقامت الكومونة باصلاحات سياسية واقتصادية هائلة لصالح العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، اذ ألغت الجيش الدائم واستعاضت عنه بالعمال المسلحين (الحرس الوطني)، كما ألغت الشرطة واستعاضت عنها بالدوريات العمالية المسلحة، التي ساعدت على أن تتحول باريس الى مدينة هادئة بلا جرائم ولا حوادث قتل أو سرقة.
وأنهت الكومونة استقلالية القضاء الوهمية، كما ألغت جميع الامتيازات البيروقراطية. وقامت بفصل الكنيسة عن الدولة، وجعلت التعليم الزامياً ومجانياً.
غير أنه نتيجة لعدم الحسم لم يتم الاستيلاء على بنك فرنسا المركزي، وهو ما كان سيوجه ضربة قاتلة للبرجوازية تجبر ألمانيا على التفاوض مع الكومونة، وسحب دعمها لجيش فرساي ولو مؤقتاً.

رسائل ماركس الى كوغلمان

تتسم رسائل ماركس الى كوغلمان، صديق ماركس والاشتراكي الديمقراطي الألماني البارز الذي شارك في ثورة 1848، بأهمية بالغة لفهم "سياسة ماركس الثورية" حسب تعبير لينين.
فمن المعلوم أن ماركس كان قد أبدى حكماً قاطعاً حول ثورة 1848 الألمانية، ثم استنكر، بنفسه، عام 1850، أوهامه التي أبداها عام 1848 حول حدوث ثورة اشتراكية وشيكة. وفي عام 1866 حين أخذ يلاحظ تنامي أزمات سياسية جديدة كتب يقول في رسالة مؤرخة في 6 نيسان من ذلك العام: "هل يدرك أصحابنا التافهون، ضيقو الأفق (المقصود بهم البرجوازيون الليبراليون الألمان) أخيراً أن الأمر سيصل بنا، في آخر المطاف، الى حرب جديدة كحرب الثلاثين سنة، إذا لم تنشب ثورة تطيح بآل هابسبورغ وآل هوهنزوللرن ..."
وبعد ثلاث سنوات (أنظروا الى رسالة ماركس الى كوغلمان بتاريخ 3 آذار 1869) تحدث ماركس بحماسة حقيقية عن أن "الباريسيين أخذوا، حقاً وصدقاً، يدرسون ماضيهم الثوري القريب العهد استعداداً للنضال الثوري الجديد الذي يقترب". وبعد أن وصف ماركس النضال الطبقي، كما يبينه هذا التحليل للماضي، استنتج قائلاً: "هكذا تغلي قدر التاريخ الساحر، فمتى نبلغ الحال عندنا (في ألمانيا)".
وهذا، كما يؤكد لينين في مقدمة الطبعة الروسية للرسائل، "ما ينبغي أن يتعلمه من ماركس أولئك الماركسيون المثقفون الروس، الذين أوهنهم الارتياب، وصيّرهم الادعاء بالعلم والمعرفة بلداء بلهاء، والذين يميلون الى خطب الندامة، ويتعبون من الثورة ويحلمون بجنازتها، كما يحلمون بعيد من الأعياد، مستعيضين عنها بنثر دستوري. ينبغي عليهم أن يتعلموا من نظري البروليتاريا وزعيمها الايمان بالثورة، والطريقة التي ينبغي بها دعوة الطبقة العاملة الى الدفاع حتى النهاية عن مهماتها الثورية المباشرة، والصلابة الروحية التي لا ترضى بنحيب الوجل عندما تمنى الثورة بهزائم مؤقتة".
وفي أهدأ المراحل، وكما يبدو، في أكثرها "عذوبة وسذاجة"، حسب تعبير ماركس، في مراحل "الركود الكئيب"، كان ماركس يعرف كيف يشعر باقتراب الثورة وكيف يرفع البروليتاريا حتى تدرك مهماتها الطليعية.
أما "أولئك المثقفون التافهون، ضيقو الأفق، الذين يسعون الى تبسيط ماركس فيعلّمون البروليتاريا، في أكثر المراحل ثورية، سياسة الجمود، يعلمونها أن تتبع "التيار" بوضاعة، أن تساند بوجل أكثر العناصر تذبذباً في الحزب الليبرالي الذي هو على الموضة !"، حسب قول لينين.
وفي نيسان 1871 كتب ماركس الى كوغلمان رسالة زاخرة بالحماسة، "رسالة نكون سعداء لو علقناها في بيت كل اشتراكي ديمقراطي روسي، في بيت كل عامل روسي يعرف القراءة"، حسب تعبير لينين.
إننا لنرى، هنا، أعمق المفكرين، وقد تنبأ بالفشل قبل ستة أشهر، ينحني أمام مبادرة الجماهير التاريخية !
وبوصفه مشاركاً في نضال الجماهير، ومتتبعاً لمراحله بكل الحمية والحماسة اللتين اتصف بهما، أخذ ماركس ينتقد من منفاه في لندن، الأعمال المباشرة التي يقوم بها الباريسيون "الجريئون حتى الجنون"، "المستعدون لاقتحام السماء".
لقد عرف ماركس كيف يحذر القادة من انتفاضة مبكرة. ولكنه وقف من البروليتاريا التي تقتحم السماء موقف مستشار عملي، موقف امريء يشارك في نضال الجماهير التي ترفع الحركة برمتها الى درجة عليا، على الرغم من نظريات وممارسات بلانكي وبرودون الخاطئة.
لقد رأى ماركس أنه ينبغي على الطبقة العاملة أن تحطم وتدمر "آلة الدولة الجاهزة" وأن لا تكتفي بمجرد الاستيلاء عليها. ففي 1 نيسان 1871، أي في أيام الكومونة بالذات، كتب ماركس الى كوغلمان يقول: "اذا ما تصفحت الفصل الأخير من كتابي (الثامن عشر من برومير) ستجد أن المحاولة التالية للثورة الفرنسية لن تكون، كما كان الحال قبل ذلك، نقل الجهاز البيروقراطي العسكري من يد الى أخرى، وانما تدمير هذا الجهاز. وهذا هو الشرط الأول لأي ثورة شعبية حقاً، وهو ما يحاول رفاقنا الأبطال في باريس أن يفعلوه".
وتلخص كلمات "تحطيم جهاز الدولة البيروقراطي العسكري" الدرس الرئيسي للماركسية في ما يتعلق بمهام البروليتاريا خلال الثورة تجاه الدولة. وهذا هو، على وجه التحديد، الدرس الذي لم يقتصر "التفسير" الكاوتسكي السائد للماركسية على تجاهله تماماً، بل وتحريفه تماماً، حسب قول لينين في (الدولة والثورة).
ويؤكد لينين على أنه "يجب أن نولي انتباهاً خاصاً لملاحظة ماركس العميقة أشد العمق من أن تحطيم جهاز الدولة البيروقراطي العسكري هو "الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقاً". ويبدو صدور فكرة ثورة شعبية عن ماركس أمراً مستغرباً، حتى أن البليخانوفيين والمنشفيك الروس، أتباع ستروفه، هؤلاء الذين يريدون أن يظهروا بمظهر الماركسيين، وصفوا تعبير ماركس هذا بأنه "زلة لسان"، فقد انحدروا بالماركسية الى درجة من التحريف الليبرالي المبتذل، بحيث لم يعودوا يرون شيئاً سوى معارضة الثورة البرجوازية بالثورة البروليتارية، وهم، فوق ذلك، يفسرون هذا التناقض بطريقة لا حياة فيها".
وكتب ماركس في رسالته المذكورة الى كوغلمان (12 نيسان 1871) إنه "مهما يكن من أمر، فان الانتفاضة الباريسية، حتى ولو قضى عليها ذئاب المجتمع القديم وخنازيره وكلابه السافلة، هي أمجد مأثرة قام بها حزبنا منذ انتفاضة حزيران".
ولم يخف ماركس عن البروليتاريا خطأ واحداً من أخطاء الكومونة، بل كرس لهذه المأثرة مؤلفه الهام (الحرب الأهلية في فرنسا) الذي مايزال، حتى الآن، مرشداً في النضال "من أجل "اقتحام السماء"، وأرعب بعبع "للخنازير" الليبراليين والراديكاليين".
ومن المحتمل أن يكون كوغلمان قد أعرب في جوابه الى ماركس عن بعض الشكوك، مشيراً الى أن القضية يائسة، والى ضرورة التمسك بالواقعية لا بالرومانتيكية، مقللاً من شأن ودلالات وتأثيرات الانتفاضة الباريسية.
وسرعان ما وجه ماركس (في 17 نيسان 1871) تأنيباً قاسياً الى كوغلمان قال فيه: "قد يكون من السهل جداً صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتماً الى النجاح".
وهكذا ففي أيلول 1870 قال ماركس عن الانتفاضة إنها ستكون ضرباً من الجنون، ولكن حين ثارت الجماهير اختار ماركس أن يسير معها، وأن يتعلم منها في غمرة النضال، لا أن يلقي مواعظ بيروقراطية.
وقد أدرك أن كل محاولة يراد منها مسبقاً تقدير نجاحات النضال بدقة تامة ستكون ضرباً من التدجيل أو ضرباً من الادعاء الفارغ الذي لا شفاء منه.
ونظر ماركس الى هذا التاريخ من وجهة نظر أولئك الذين يصنعونه، دون أن تتاح امكانية تخمين احتمالات النجاح مسبقاً بلا أي خطأ، لا من وجهة نظر مثقف تافه ضيق الأفق يلقي المواعظ الأخلاقية: "كان من السهل التنبؤ ... لم يكن ينبغي المجازفة ...".
إن رسائل ماركس الى كوغلمان تتسم بأهمية بالغة في فهم الخبرة الثورية وتحليل ماركس للأحداث العظمى في التاريخ المعاصر. ولا ريب أننا نجد هذه المنهجية متجلية، من بين مؤلفات أخرى، في نص ماركس الشهير الموسوم (الثامن عشر من برومير – لويس بونابرت) الذي كتبه عام 1852، وهو نص رفيع، جميل، ساخر، مليء بالخبر والدروس.
وكان هوغو وبرودون قد سبقا ماركس الى تناول انقلاب لويس بونابرت، غير أن الاثنين أخفقا في الكشف عن حقيقة الانقلاب الذي جاء بـ "المسخ" الى السلطة، وفي تشخيص الظروف والعلاقات التي مكنت شخصاً عادياً ومضحكاً من أن يؤدي دور بطل !
وفي الكشف عن النزعة الدكتاتورية يقول ماركس في مسعاه لتحليل البونابرتية: "صحيح أن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم ... إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط نراهم يلجأون في وجل وسحر الى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة ...".
وهكذا يتجلى درس آخر من دروس (الثامن عشر من برومير). فالدكتاتور لم يصل الى السلطة الا بفضل تضافر وتحالف القوى المستاءة من الوضع القائم، حيث هبت كل الفئات، وبينها البروليتاريا، لتختار الأمير الذي تجسدت فيه أمجاد الامبراطورية الأولى. ومن الطبيعي أن النظام "البونابرتي" الجديد بحاجة الى "شعبية" رخيصة، الى تجار سياسة وثقافة، الى آيديولوجية زائفة، وتاريخ مزور، وحاضر ملفق، حيث يتكاثر الدجالون، مثل نبت شيطاني، في أزمنة الفوضى، وهو ما يمكن أن نجد تجلياته في أيامنا المليئة بالمآسي والمهازل.
* * *
عرف ماركس أن يرى أنه لابد من كفاح ضارٍ تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ حتى في سبيل قضية يائسة، وذلك من أجل تثقيف الجماهير نفسها في مابعد، ومن أجل إعدادها لجولات الكفاح اللاحقة.
وقيم ماركس هذه التجربة الفريدة على نحو في غاية الدقة والواقعية والأمل بالمستقبل، دون أن ينسى أبداً أنه، هو نفسه، أقر، في أيلول 1870، أن الانتفاضة ستكون "ضرباً من الجنون". فقد كتب في رسالته الى كوغلمان في 17 نيسان 1871 يقول "إن الأوباش البرجوازيين الفرساليين وضعوا الباريسيين أمام أمرين لا ثالث لهما: إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة. ولو تمت الحالة الأخيرة لكان تفسخ معنويات الطبقة العاملة كارثة أعظم بكثير من خسارة أي عدد كان من الزعماء".
بوسعنا، اليوم، ونحن نحتفي بالذكرى الـ 147 لانتفاضة باريس المضيئة في التاريخ الثوري، أن نستعيد هذه الخبرة الغنية ونحن نخوض غمار التحدي والأمل والكفاح من أجل غاياتنا الساميات، بوسعنا أن نختتم هذه الاضاءة الوجيزة بالدعوة الى قراءة ما قدمه الينا ماركس في رسائله الى كوغلمان من دروس بليغة.
رايات كومونة باريس ستظل تخفق في سماء الثورة من أجل الاطاحة بعالم رأس المال .. ودروسها ستبقى غنية ترشد "مقتحمي السماء"، وهم يغذّون المسير نحو غد البشرية الوضاء!

عرض مقالات: