كنتُ في مراحل دراستي كلِّها في العراق قريباً من كلِّ معارِض لحزب البعث، لذلك كان التلامذةُ الشيوعون من أصدقائي المقرّبين. لأنهم كانوا في السبعينات الأكثرَ شجاعةً ومعاندةً لمخططات الاتحاد الوطني البعثي للطلاب. ولفرط علاقتي بهؤلاء الأصدقاء ظنَّ بعضُهم أن لي انتماءً للحزب الشيوعي، على الرغم من تديّني المتشدّد منذ بداية حياتي، وانضمامي للحركة الإسلامية مبكراً، وانهماكي في مسؤوليات تنظيمية متنوعة.
تواصلتْ علاقتي بأصدقاء رائعين من الشيوعيين العراقيين بعد عودتي للعراق، مثل: مفيد الجزائري، ورائد فهمي، وجاسم الحلفي، والمرحوم كامل شياع الذي أحببتُه كثيراً، لأني كنتُ أرى صورتَه مرآةً لمتصوّفة بغداد، كما أتلمس في دفءِ روحه وتعبيرات جسده دفءَ السلام الباطني الذي كانوا يعيشونه.
طالما تساءل بعضُ تلامذتي وأصدقائي عن الألوان المتنوّعة وأحياناً المتضادّة لعلاقاتٍ لا ترسم خارطتَها معتقداتي، ولا تتحكّم ببوصلتها ديانتي، وصداقاتٍ لا تنتمي إلى بيئة دراستي وتكويني، خاصة وأنا أعيش في مجتمع تقليدي، وأنتمي الى مؤسّسة دينية محافظة هي الحوزة، في حين أن معظمَ أصدقائي خارج هذه المؤسسة. أصدقائي مختلفون، ففيهم الملحدُ والمؤمن، المسيحيُّ والمسلم، السنيُّ والشيعي، العلمانيُّ والإسلامي، المحافظُ والإصلاحي.. وغيرُ ذلك. وأقول لهم دائماً: المهم عندي أن يكون الصديقُ إنساناً صدوقاً أجد فيه مشتركاً يتوحّد به مع معنى إنساني جوهري في كياني. أصادق كلَّ إنسان أجتمع معه على معنى إنساني كبير، أصادق كلَّ إنسان ينشد كلَّ ما هو جميل لحياة الإنسان، ويعمل على بناء عالَم أمثل يتحرّر فيه الإنسانُ من اللاعقلانية والتعصّب والعدوان.
قرأتُ بعضَ مقالات المرحوم فالح عبدالجبار، ولفت انتباهي ذات مرة بحثٌ له نشره فيما بعد في أحد كتبه، يشير فيه إلى ما يتفوّق به كتابُ "اقتصادنا" للسيد محمد باقر الصدر، ومنهجِه المتماسك المتين في الكتابة والنقد، على كتاب "الاقتصاد" للسيد محمد الشيرازي، كون الكتاب الأخير ليس سوى معطياتٍ مشتّتة، لا تنتظم في سياق منطقي، ولا تبتني على منهج متماسك، ولا تنتمي لأي علم. فاحترمتُ عقلَه ودقةَ تقييمه، لأني كنتُ على دراية بالكتابين قبل ذلك. أما كتابُ اقتصادنا للصدر فأنا خبيرٌ به، لأني كرّرتُ تدريسَه مرات عديدة. وأما كتابُ الاقتصاد للشيرازي فطالعتُ أكثرَه، فمللتُ منه، لأني وجدتُه مرتبكاً مضطرباً، عصيّاً على التصنيف في الاقتصاد أو الفقه أو غير ذلك، فضلاً عن أنه يقدّم فهماً مبسّطاً لكلّ شيء. لذلك أعجبني تقييمُ فالح، إذ وجدتُه انتهى إلى رأي كنتُ انتهيتُ إليه من خلال خبرتي الخاصّة بالكتابين والكاتبين. وصرتُ بعد ذلك كلما عثرتُ على مقالة أو كتاب لفالح أحرص على قراءته.
كان أولُ لقاء لي بفالح في مؤتمرٍ للمعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت، بداية تموز2003 حول احتلال العراق. لم تكن صورةُ فالح في ذهني كما رأيت، لم أنجذب إليه لأول وهلة، ربما لأن مخيلتي تشبّعتْ بصورة أصدقاء من اليسار العراقي والعربي لم أعثر على ملامحهم في فالح، وربما لأني رأيتُ فيه رجلاً شامخاً صارماً، يطرح أفكارَه بكلّ عناد، يعلن قناعاتِه بصراحة، ولا يتحدّث بلغة الكنايات والتلميحات والإشارات. مساحاتُ النقد في عقله تبدت لي في أول لقاء بلا أسوار وقيود، لا يتردّد في نقد المعتقدات والمفكرين والأفكار، ولا يكترث كثيراً بما قيل أو يقال.
توثقتْ علاقتُنا عبر مهاتفات ومراسلات ولقاءات كثيرة، فكلّما جاء إلى بغداد يهاتفني فنلتقي، وكلما ذهبتُ إلى بيروت أهاتفه وأزوره، ومن عادته الاحتفاءُ بمن يزوره، فيصرّ على ضيافته في بيته أو المطعم. وجدتُ بيتَه مضافةً للعراقيين القادمين من الوطن والمنفى، تعرّفتُ على أصدقاء يقيمون عدة أشهر ببيته في الحازمية ببيروت. وكانتْ الصديقةُ فاطمة المحسن زوجتُه تفيض على الكلّ حميميةً ورقة، أتذوّق في مشاعرِها نكهةَ ما تفيضه أفئدةُ أمهاتنا في جنوب العراق. كم كان يسعدني أن ألتقي فاطمةَ بمعية فالح في زياراتي المتكرّرة لبيروت، والشحيحة إلى لندن. فاطمة أديبةٌ وناقدة ذاتُ بصيرة نافذة، وقارئةٌ ذكية، أغتنم اللقاءَ معها لمزيد من التعرّف على جديدِ الأدباء والأدب وقيمةِ الأعمال المتنوّعة للروائيات والروائيين.
كلّما تحقّق لي لقاءٌ بفالح أجده يفكّر بعمل جديد، يخطّط له، ويلاحق الطاقات الشبابية العراقية المهملة، ويحاول أن يستعين بحضورهم المباشر في الوطن، بغيةَ اصطياد البيانات والمعلومات الإحصائية لأبحاثه ميدانياً. تعلّم أكثرُ هؤلاء الشباب الكتابةَ والبحثَ بعد مدة من عملهم مساعدين له.
أجده كلَّ مرّة يكدح كفلاحٍ عاشقٍ لنكهة تراب الأرض، ومدمناً على زراعتها. كان يعاني من مرض القلب، لكنه ظلّ ذلك البدوي الذي لم تروّضه الحياةُ بكل نكباتها وجروحها العنيفة، لذلك طالما تنكّر للضعف الطبيعي الذي يأسر كلَّ كائن بشري.
لبث فالح على الدوام يعمل بما يفوق طاقةَ جسده، فهو يكتب ويُدرّس ويدير مركز: "دراسات عراقية: معهد الدراسات الاستراتيجية"، وهو مؤسّسة للأبحاث والتعليم في بيروت، بمساعدة فريق مساعدين صغير. كان يهتم بتأهيل تلامذة الدراسات العليا في الجامعات العراقية من شمال العراق إلى جنوبه، ويوفر لهم فرصةَ تعليم لمدة شهر، يكفل خلالها المعهدُ كلَّ نفقاتهم، بغيةَ إعدادهم باحثين، على يد مجموعة من الأكاديمين الخبراء. وقد طلب مني أكثر من مرة ترشيحَ بعض الشباب المتميزين من تلامذتي لينخرطوا في هذه الدورات، وبالفعل اقترحتُ عليه نخبةً منهم، وكنتُ أتابع مدى استفادتهم، فأخبرني بعضُهم أنه مع دروس فالح عبد الجبار اكتشف طرائقَ مختلفةً للتفكير والكتابة والتعبير. يحرص فالح على اكتشاف الشباب العراقيين الموهوبين، ويحاول أن يواصلَ تدريبَهم في إطار برامجه البحثية المستمرة.
وعلى الرغم من أن فالحَ كان منهمكاً في إدارة المعهد وتطوير برامجه، غير أنه لم يكفّ عن التأليف والكتابة، فقد استمر لسنوات طويلة يكتب مقالةً أسبوعية لجريدة، كان آخرُها الحياة الصادرة في لندن، وكنتُ أحرص على مطالعة مقالاته، وتوزيعها على تلامذتي وأصدقائي أحياناً. وهو يكتبها بلغة ثرية، تتدفّق فيها يقظةُ عقل نقديّ حرّ.
تنوّعت أعمالُه بين الترجمة والتأليف، وأظن أن أهمَّ ما قدّمه فالح للمكتبة العربية هو ترجمتُه الفريدة ُلكتاب رأس المال لكارل ماركس من الإنجليزية إلى العربية، وهو عملٌ مرهق تواصل 20 سنةً كما أخبرني. وعندما سألتُه عن اطلاعِه على الأصل الألماني وإفادته منه في ترجمة الكتاب أخبرني: إنه يعرف الألمانيةَ، لذلك طابق الترجمةَ مع الأصل الألماني. فسألتُه أين ومتى تعلّمتَ هذه اللغةَ الصعبة، قال: في معهد ألماني بدمشق متخصّص بتعليمها، وأضاف: ثم تطوّرت من خلال مطالعاتي واختلاطي بمتحدثين بهذه اللغة في أسفاري.
يوظّف فالح حضورَه الفاعل في الحوار والكتابة والتعليم وغيرها بغية تغيير العالم، اقتداءً بمعلمه كارل ماركس الذي كان يدعو الفلاسفةَ للكفّ عن تفسيرِ العالم وتكثيفِ الجهود لتغييره. لم ينشغل فالح بما انشغل به مفكرون وباحثون عراقيون وعرب معروفون، ممن دفنوا عقولَهم الفذّةَ وتكوينَهم العلمي الجاد بالميتات من مطمورات وبائدات، ولم يدفن جهودَه في ما لا صلة له بالواقع المرير لآلام المجتمع وخيباته، بل كرّس جهودَه لدراسةِ الواقع وتحليلِ متطلباته المعرفية الراهنة، وكان الأسرعَ استجابةً للمتغيرات المريعة، فهو لم يتجاهل الشأنَ الديني، ولم يعدّه شأناً خارج اختصاصه، بل استعمل كلَّ ما يمتلكه من تكوينٍ علمي وخبرةٍ بحثية في السوسيولوجيا السياسية في المجال الديني، واتجهتْ بوصلةُ عمله في الحوار والبحث والكتابة لتناول الحضور اللافت للدين في كلَّ حقول الحياة في بلادنا بعد عامِ 2003، وصعودِ التطرّف والعنف الديني، فشكّل عدّةَ فرق ميدانية للبحث، وعقد عدةَ ندوات لذلك، وتمحورتْ كلُّ جهوده في هذا المضمار، فكان آخرُ أعماله كتابٌ ثمينٌ عن التجربة المريرة لدولة داعش، وذكر لي أنه استطاع اصطيادَ بياناتٍ ومعلوماتٍ مباشرةٍ من الموصل والرمادي والرقة وغيرها أيام دولة داعش، بمعونة فريق باحثين شباب متطوعين، كانوا يجمعون البياناتِ ويرسلونها بتكتم وسرية شديدة. وظل فالح حتى اليوم الأخير من حياته وفياً لالتزامه بهموم المواطن والوطن. إذ نقلتْ لنا الكاميرا كيف انهارَ قلبُه ثم سكت إلى الأبد، وهو يتحدّث لفضائية عن مواجع العراق.
أحب كلَّ صديق عقلاني جادّ مثابر يعمل على فضح ظلام العالم، مهما كان اعتقادُه. لذلك أحب فالح عبدالجبار، ليس لأنه صديقٌ عقلاني ذكي صبور، ليس لأنه يعمل على فضح ظلام العالم فقط، بل لأنه أغربُ صديق في خارطة صداقاتي الواسعة، وربما أقل صديق تجمعني فيه مشتركاتٌ مزاجيةٌ واعتقادية. أنا مؤمنٌ وفالح غيرُ مؤمن، فهمي للدين لا يتطابق وفهمه، رؤيتُنا للعالم مختلفة، الإطارُ المرجعي لتفكيرنا ليس واحداً، سياقاتُ تكويننا متباعدة.
فالح شامخٌ في شخصيته، عنيدٌ في تفكيره، وثوقياتُه الفكرية والايديولوجية والسياسية لا تقلّ عن وثوقياتي الإيمانية، لذلك عندما يتحدث أستمع إلى لغةٍ لا تخلو من مقدّمات جزمية ونتائج يقينية حاسمة، على الرغم من أن حضورَ الجزميات في علومِ الإنسان والمجتمع أقلُّ بكثير من العلوم البحتة والطبيعية.
فالح كان أكثرَ صديقٍ يستفزّ عقلي ليوقظَه، فمثلاً بعد أن أهديتُه نسخةً من الطبعة الأولى لكتابي: "إنقاذ النزعة الانسانية في الدين"، تأمّل العنوان، فقال مستنكراً: وهل هناك إنسانيةٌ في الدين؟! فأجبتُه على الفور: نعم، وهو ما يشرحه ويدلّل عليه كتابي هذا، وغيرُه من كتاباتي التي ستأتي. وأظن أن جوابي هذا كان متعجلاً، وكان ينبغي أن يكون: نعم ولا، لأن لكلِّ منا، أنا وفالح، مفهومَه الخاص للدين، أنا أرى الأثرَ الإيجابي للدين، بوصفه حاجةً وجوديةً يفرضها الاغترابُ الميتافيزيقي للكائن البشري، وهو يرى الأثرَ السلبي للدين، بوصفه يعبث بحياةِ الكائن البشري.
كل عقل يستفز عقلي يوقظ ما هو نائم فيه، أحترم فالح لأن عقلَهُ الشجاع كان يستفزني جداً، ولأنه كان لا يستحي أن يقولَ كلَّ ما يعتقد به وإن كان مستفزاً.
تحتفي المجتمعاتُ المتحضّرةُ بأعلامها الملهِمين الكبار، فتنشر آثارَهم وتعرّف بها في حياتهم، وتوّفر لهم أفضلَ الفرص، وتقدّم لهم ما يؤمن لهم حياةً حرةً كريمة، لأنها تدرك أن قيمةَ الأوطان تُكتسب من رصيدها الحقيقي بحضورِ هؤلاء الأعلام ومنجزِهم الكبير، لكن أكثرَ الناس في مجتمعنا لا يهمّهم الاحتفاءُ بالملهِمين الكبار في وطنهم، وإن كانوا يحتفون بأعلام ينتمون إلى أوطان أخرى، وتنفق وزاراتُ الثقافة والتربية والتعليم والمؤسّساتُ الأدبية والفكرية الحكومية وغيرُ الحكومية ميزانياتٍ فلكيةً من دون أن تخصّص جوائزَ لتكريم المفكرين والمبدعين من ذوي المنجز المميز. وكلُّ من فازوا من العراقيين بجوائز ثقافية وأدبية كبرى، مثل جائزة الملك فيصل، والأمير زايد، والشيخ حمد، وسلطان العويس، فازوا بها في دول أخرى، ولم يعبأ بهم أحدٌ من المسؤولين في حكومة وطنهم.
أظن أن الحروبَ المقيمةَ في بلاد الرافدين، منذ نصف قرن تقريباً، خلقتْ مناخاتٍ يختنق فيها أكثرُ الناس، فلم يتعلم الناسُ في وطني محبةَ أنفسهم، ومحبةُ النفس تنتج بالضروة محبةَ كلِّ شيء جميل ينتمي للأهل والوطن. لذلك يسرف البعضُ، وكأنه يتلذّذ، بازدراءِ كلِّ شخصية عراقية لامعة، وتسفيهِ كلِّ منجز مميز، لأنه لا يدرك القيمةَ الوطنية للشخصية الاستثنائية إلا بعد فقدانها.
الناسُ في وطني يثير ذعرَهم كلُّ عقل شجاع حرّ، يقوّض الأسوارَ ويهدم الجدرانَ المنيعة التي تختبيء داخلها عقولُهم المغلقة، ويخافون من أن يبدّد النورُ ظلامَ معتقداتهم، أو يخرجهم صوتُ العقل من سباتهم.
مات فالح عبدالجبار فجأةً، وكلُّنا سيباغتنا الموتُ فجأة. الموتُ حدثٌ وجودي مريع، بل هو الحدثُ الوحيد في حياة الإنسان الذي يكفُّ فيه الكذبُ عن أن يظلّ كذباً. كلُّ ما سوى الموت ثرثرةٌ لو قارناه بالموت. لا يهزّني حدثٌ كموت صديق. كلُّ موت بالنسبة لي ليس موتاً، إلا موتَ الصديق القريب للعقل أو القلب، لأنه ضربٌ من موتي الوجودي.