هكذا ولدت الوطنية العراقية بازاء تحديات الكولونيالية الغربية، لتلحق بالنزعات الوطنية المماثلة في مصر والجزائر، وتونس الخ...، لكنها على خلاف ذلك ولدت على اساس اتفاق وتفاهم سني-شيعي، نعني تحديداً اتفاق قوى اجتماعية فاعلة، قوامها تجار المدن وشيوخ العشائر، والنخب العسكرية - الإدارية المتحدرة من الإدارة العثمانية.

كانت بنية الدولة الوليدة ثنائية: دولة الانتداب الحاضرة بشكل مندوب سام، وجيش بريطاني، وجهاز من المستشارين الاغراب، ودولة وطنية، ملك، وجهاز اداري ووحدات عسكرية من عناصر عراقية. وكانت هذه الثنوية تجمع مصالح القوة الكولونيالية في جانب، وشروط تقرير المصير المحلي، في جانب آخر.

هذه الثنائية في تركيبة الدولة في الحقبة الكولونيالية، تركت أثرها في سيرورات تكوين الدولة وبناء الأمة. هاتان العمليتان (1- تكوين الدولة، 2- بناء الامة) متطابقتان الى حد كبير، في المجتمعات المتجانسة، ولكنهما مفترقتان أو تنعمان باستقلال نسبي عن بعضهما في المجتمعات اللا متجانسة (او المبرقشة كما افضل تسميتها).

ابتداء تكوين الدولة يتعلق بنظام المؤسسات والرقعة الأقليمية للكيان السياسي الجديد، بدستوره وقوانينه وبنى السلطة (الوزارة، الإدارة، الجيش، الشرطة) العملة، العاصمة، العلم وما شاكل.

أما بناء الأمة فيتعلق بإرساء الآليات الضرورية لضمان رضى ومشاركة شتى الجماعات الأثنية والدينية والثقافية، واندراجها في المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية.

بالطبع هاتان العمليتان متداخلتان رغم تباينهما. العملية الاولى (تكوين الدولة) تؤسس الدولة كجهاز للأدارة والحكم، والعملية الثانية (بناء الأمة) تؤسس الدولة كممثل لجماعة قومية (ذات تجانس) أو وطنية (تقطن إقليما موحداً).

ولسوف نرى كيف ان هذه الثنائية ستفعل فعلها في كل حقل. ابتداء تكوين الدولة يبدأ بتحديد الرقعة الجغرافية، أي تثبيت الحدود، وإنشاء مؤسسات الدولة كالجهاز الإداري الوزارات، المؤسسة العسكرية، نظام التعليم الحديث، نظام القضاء، الدستور، البرلمان، والمؤسسات الرمزية: العاصمة، العلم، والمؤسسات الاقتصادية (العملة، البنك المركزي)والنواظم الاقتصادية بما في ذلك الضرائب.

وقد أمضت عملية بناء هذه المؤسسات لتكوين الدولة كجهاز سياسي للحكم، عدة سنوات، تميزت باضطرابات كبرى تمثل ردة فعل دول المنطقة بعامة، والمجتمع الأهلي المتشظي بخاصة، ازاء الدولة الجديدة.

يقول لونكرك وهو عسكري إداري ومؤرخ بريطاني خدم في العراق، عن فترة التكوين هذه: "الوضع الدستوري للمنطقة (العراق) ملتبس. ثمة سيادة تركية لا تزال قائمة، رغم إنها كامنة، وثمة انتداب، تقبله بريطانيا ويرفضه العراق نفسه، وثمة نظام ملكي دستوري لكن الدستور لم يسّن بعد، وثمة معاهدة مبتغاة مع بريطانيا، لكنها لم تكتب بعد"(1).

فمثلا ً اعترض كل الجيران على حدود العراق: إيران اعترضت حول كردستان وشط العرب، تركيا اعترضت على ضم الموصل، والسعودية على منطقة الحياد، وبريطانيا نفسها على الكويت. وبالطبع كان من المحال على اي جماعة اهلية (محلية) ان تثبت رقعة الأقليم (العراقي) هذا الشرط الأساس لأي دولة حديثة، بدون القدرة العسكرية البريطانية المتفوقة. ودخلت دولة الانتداب في نزاع مع الدولة المحلية في صراع حول وتيرة، وحدود بناء المؤسسات، فمثلا بريطانيا اعترضت على توسيع الجيش وأبقته في حدود 7500 جندي، كما جوبهت خطط التجنيد العام (بدل التطوع) بمعارضة بريطانية (للحفاظ على اعتماد العراق على القوة العسكرية البركولونيالية) ومعارضة القبائل لسبب اخر يتصل بالخوف من أخذ الأبناء للخدمة، وحرمان الأسر الفلاحية من القوة البشرية المنتجة. ونشب صراع آخر بين الاثنين حول الدستور الذي ربطت بريطانيا المصادقة عليه بأبرام المعاهدة العراقية –البريطانية.

هناك تصادم آخر بين شقي الدولة الكولونيالية، البريطاني والعراقي، دار حول النظام القضائي، حيث دفع البريطانيون بإتجاه تقسيم العراق الى قضاء حضري خاضع للقانون الوضعي، وقضاء قبلي خاضع للعرف العشائري. كان هذا التدبير في العرف البريطاني، وسيلة إقتصادية كفوءة للحكم Cost-effective ruleيتكفل فيه مشايخ العشائر بإدارة القضاء والامن في الأرياف، وتتولى فيه القوة الجوية البريطانية معاقبة العصيان، أي عصيان(2).

لم يمر تكوين مؤسسات الدولة بلا تمردات واعتراضات محلية وتمردات قبيلة عربية ضد الحكم البريطاني أو تمردات إثنية (تمردات الشيخ محمود البرزنجي –السليمانية) ضد تأسيس الدولة (أعوام 1920، 1924، 1930) او احتجاجات حضرية ضد المعاهدة البريطانية أو اعتراضات وفتاوى دينية (من النجف) تحرم على الشيعة الخدمة في الدولة، اعتراضاً على النفوذ البريطاني، لا تصادماً مع فكرة وجود دولة عراقية. لكن هذه السيرورة حظيت ايضاً بدعم حضري –قبلي، توطد بالتدريج. منابع هذا الدعم تعود الى عمليات بناء الامة، أي ادراج شتى الجماعات في بنية الدولة، وفتح باب المشاركة السياسية، والادارية والاقتصادية والثقافية أمام هذه الجماعات. وبالفعل اشتملت أول وزارة عراقية على مزيج عربي –كردي، شيعي–سني، ويهودي (موسوي) كما ان البرلمان العراقي نظم على اساسس تمثيل المحافظات، وافراد حصة للموسويين (اليهود)والنصارى (المسيحيين)، حسب منطوق دستور 1925.

لكن العملية الاهم، هي استخدام السلطة التوزيعية للدولة كمالك لرقبة الارض، في خلق طبقة واسعة ومتعددة المشارب من ملاك الارض ثم طبقة رجال الاعمال. وشكلت هاتان الطبقتان الاساس الإجتماعي الاقتصادي لبناء الأمة ذات الاغلبية الريفية (76 في المائة من السكان)وكانت هذه الطبقة الجديدة تضم شيوخ القبائل العرب، والأغوات (زعماء قبائل الاكراد)، وسادة واشراف شيعة وسنة، فضلاً عن تحول النخب السياسية من الضباط والإداريين، بل الملك فيصل نفسه، الى ملاك اراضي. وبخلق طبقة ملاكين متماسكة وموالية، توفرت الدولة الوليدة على اداة جبارة لدمج شظايا الجماعات الأثنية والمذهبية والدينية المتنافرة.

ويلاحظ ان تركيب طبقة ملاك الارض يوازي تقريباً التركيب المذهبي- الديني والاثني: نحو 48في المائة من الشيعة، و20 في المائة من الاكراد السنة، و18في المائة عرب سنّة، فضلاً عن وجود تركمان وآشوريين وسواهم، في صلب هذه الطبقة(3). التي وجدت في استقرار الدولة حماية لحقوق الملكية الجديدة للأرض، كما وجدت في المشاركة في مجلس النواب والأعيان وسيلة لضمان وتمثيل مصالحها. ورغم ان هذه المصالح كانت جزئية، مأخوذة على انفراد، فإن تنوع طبقة ملاك الأرض، ضمن الاندراج المتوازن لشتى الجماعات وعمل بالتدريج، على تسهيل بناء الأمة.

معنى ذلك ان انفتاح النظام السياسي على تمثيل شتى الجماعات، والمشاركة في الثروة الاقتصادية، الارض أولاً فرأس المال في إطار اقتصاد السوق الحر، أتاحاً للدولة كجهاز للحكم، ان توسع وظيفتها من مجرد جهاز تحكم الى كيان يمثّل أمّة قيد التكوين.

لعبت المؤسسات والمنظومات المركزية للدولة كالمدارس والجيش، او الإدارة والبرلمان دورها في عمليات المجانسة والتوحيد. ولعل تطوير الشبكات الحديثة للاتصالات والمواصلات (بناء الطرق، الملاحة التجارية، سكك الحديد)ساهم في تقليص العزلة السرمدية بين المجموعات الحضرية والريفية، وخروج المدن، المنغلقة على ذاتها من عزلتها السابقة لكي تنشط وتتفاعل في فضاء وطني مشترك ناشئ حديثاً.

وشرعت الخطوط الفاصلة بين الاحياء المغلقة داخل المدن بالتلاشي، وظهرت أحياء جديدة قائمة على المهن الحديثة، لا العصبيات الفارطة. كما ان استقرار القبائل نهائياً في الارض وتفتت الاتحادات القبلية عجل في تفكيك هذه "الدويلات" القبلية.

ولعل ما سهل عمليات بناء الأمة ان الوعي بالانتساب الاثني والديني والمذهبي، كان وعياً ثقافياً بقي، باستثناء الكرد، غير مسيّس، فبؤرة الولاء عصر ذاك، وكانت على الدوام (ولا تزال بحدود معينة) مرتبطة بالتنظيم الاجتماعي المحلي كالعشيرة والجماعات القرابية (الأسر الممتدة للسادة والاشراف)، والقرية، وعصبيات المدن. وضمن هذه التشكيلات الاجتماعية كانت الطبقات او الشرائح القديمة (ما قبل الحديثة) تنشط وتفعل فعلها: الارستقراطيون، الاشراف، التجار، الشيوخ والأغوات، الحرفيون (الاصناف)، ومن هؤلاء نشأت طبقة الملاك ورجال الأعمال الجدد (التجار، الصناعيون، المصرفيون، والمقالون).

بقي ان نضيف ان عمليات الاندراج في بناء الأمة لم تكن سلسة دوما ولم تكن طوعية دوما بل اتسمت في فواصل مهمة باستخدام وسائل العنف السافر، باستخدام القوة العسكرية: قمع حركات الكرد (ابتداء من 1924)، او تمردات القبائل ضد الخدمة العسكرية (1934)، او قمع حركة الآشوريين (1936)، او تهجير اليهود (1948). لكن المجرى العام، رغم هذه الفواصل، تميز بقدرة الدولة المركزية على بناء اللحمة بين الأجزاء المبعثرة وان عمليات الاندراج أو التكامل اتصفت بالديناميكية(4).

ولعل ابرز معلم على نجاح مسعى الدولة في بناء الأمة ان الانقسامات الاجتماعية- الطبقية، خلال حقبة الأربعينات والخمسينات: الفلاح بأزاءالمالك الإقطاعي، العمال بإزاء رأس المال (الأجنبي والمحلي)، الطبقات الوسطى الحديثة المعتمدة بأغلبها على التعليم (بيع المعرفة) بإزاء الطبقات القديمة، ولدت حركات ثورية عارضت النظام الملكي على اساس أيديولوجي-اجتماعي، تعبيرا عن الاحتجاج على الإقصاء السياسي والاقتصادي. وكانت مرجعيتها في ذلك شعب ضد حكومة، فلاحون ضد اقطاعيين وعمال ضد رأسماليين ووطنيون ضد حكم كولونياليين أغراب، في إطار عراق موحد.

ثالثاً الحقبة الجمهورية: دول تفتيت

لا تنمو الأمم على الأشجار، فهي لا تنتمي الى حقل الطبيعة، بل الى ميدان التنظيم السياسي –الإجتماعي –الثقافي نتاج عمليات مقصودة لتكوين الدولة وبناء الأمة، وهي تتأسس بأشكال عدة: تنشأ الأمم أولاً من وجود جهاز سياسي مركزي لا قبل له بالاستمرار لولا وجود تكنولوجيا عسكرية، ووسائل اتصال متطورة، وتنشأ ثانياً من وجود نظام اتصال ثقافي موحِّد (اللغة، المؤسسات التعليم، الجرائد، الكتب، ولاحقاً الإذاعة، الخ. . . )، وتقوم ثالثاً على قاعدة نظام اتصال مادي (طرق ووحدات انتاج، وتجارة، واسواق)، متداخلة، متكاملة، في رقعة محددة، شريطة ان يكون الجهاز السياسي، والحقل الثقافي والفضاء الاقتصادي –التداولي مفتوحاً على المشاركة أمام الجماعة الوطنية اللا متجانسة من حيث الإثنية، او الدين، او المذهب او اي معلم من معالم تعيين الجماعة الوطنية وتجانسها. وتلعب الدولة دورا حاسماً في توطيد هذا التجانس، او زعزعته وتخريبه.

عرضنا في أواخرالقسم الثاني السابق كيف ان دولة الحقبة الملكية، ابتداء من الفترة الكولونيالية، وحتى سقوطها (1921-1958) نجحت في لملمة الأبعاض الاجتماعية، وادراجها في عمليات تكامل بانية لأمة لم يكن لها وجود سابق سوسيولوجياً وسياسياً.

عمليات التكامل هذه افضت الى خلق طبقات جديدة: ارستقراطية ملاك الأرض متعددة الأثنيات والاديان والمذاهب. وطبقة كبار رجال الاعمال المتنوعة بالمثل، وكانت هذه ركيزة النظام السياسي واعمدة تلاحم الأمة. علاوة على ذلك نشأت طبقات اخرى تقف دون تلك، والابرز بينها هي الطبقات أو بالأحرى الشرائح الوسطى التي كانت بالقياس للطبقات العليا تقع في اسفل السلم الاجتماعي جوار الحرفيين المتحولين الى عمال مأجورين في المدن وابناء قبائل المتحولين الى فلاحين اشبه بالاقنان يزرعون بأسلوب المحاصصة، أو يهاجرون الى مدن الصفيح ليوسعوا صفوف الهامشيين.

كانت هذه الشرائح الوسطى مقصاة ومستبعدة عن المشاركة السياسية، فأحزابها الأيديولوجية محظورة، وهي في عمل سري، أو شبه علني، وافكارها تُعَدُ هدّامة، برطانة ذاك العصر، وهي تنظر الى طبقات الأعيان والشيوخ والأغوات والأثرياء الجددنظرة أزدراء الى قوى محافظة، استغلالية، بل متخلفة، فضلاً عن كونها تابعة اي لا وطنية، بحكم علاقاتها ببريطانيا والاحلاف العسكرية. ثمة هوة اجتماعية-ثقافية تفصل بين الاثنين برزخ لم يسع احد الى عبوره، او ردمه بالكامل. جاءت ثورة تموز1958، في معنى من المعاني كحركة تمرد باسم ولصالح الطبقات الوسطى والشرائح الدنيا، تدعمها طبقة واسعة من عمال المدن والفلاحين أشباه العبيد.

ولو تناولنا هذا الحدث وما تلاه لا من منظور ثنائية ثوري-محافظ، بل من منظور آخر هو بناء الأمة، لوجدنا ان هذا الحدث العاصف، قلب بنى الدولة وقوام التشكيلات الاجتماعية والعلاقة بين الاثنين رأسا على عقب. أدت الحركة الى فتح جزئي لأبواب المشاركة المغلقة امام الطبقات الوسطى وتلبية ابرز مصالحها الاجتماعية –الاقتصادية والسياسية: غلق القواعد الأجنبية، الخروج من حلف بغداد، الإصلاح الزراعي، قانون النفط الوطني، قانون المرأة. مقابل هذا التطور الجديد، ولد حكم الطبقات الوسطى العسكرية-المدنية خللاً في عمليات الاندراج والتكامل الوطني البانية للأمة. ومثلما عجز الاعيان عن الاستجابة للتغيرات الاجتماعية في العهد الملكي، فقد عجزت الحكومات " الثورية " المتعاقبة عن ارساء مؤسسات مفتوحة وبديل اجتماعي جامع لبناء الأمة. وفتحت الباب أمام اختلالات متعاقبة بحكم طبيعتها كنظام تسلطي.

ولهذه النقطة أهميتها التاريخية، إذا تذكرنا أن سلك الضباط، أو الجندي –السياسي بتعبير حنا بطاطو، كان العنصر المهيمن على هذا التحول في القمة، وأن هذا السلك منقسم أيديولوجياً، ولا يتميز بالتنوع الإثني –المذهبي للطبقات القديمة، فعناصره سنية في الغالب. وان الصراعات المستديمة بين كتل الضباط بميولها السياسية المتناقضة وانتماءاتها الجهوية الضيقة (عصبوية مدن، أو أحياء، أو جهات)(5). غطت على المشهد السياسي في انقلابات متتالية. خلاصة ذلك ان سلك الضباط باحتكاره السلطة، اقصى الشرائح المدنية من الطبقات الوسطى، أو أدرج فئات منها بحدود ضيقة، وأخفق في توحيد هذه الأخيرة، ما أدى الى الفشل التام في تمثيل التنوع الإثني والديني المذهبي، بل حتى الجهوي، للمجتمع العراقي. وأخلّ بسيرورات بناء الأمة بفعل طابعه المنغلق سياسياً. فأول إجراء للجندي السياسي، كان الغاء العرش، وهو عنصر التوازن بين السلطات وقتذاك، والغاء البرلمان قناة التمثيل، والغاء المحكمة الدستورية، وحصر السلطات بيد السلطة التنفيذية. هذا الانسداد سيستمر، بشكل أو بآخر حتى نهاية حكم البعث أثر الغزو الأمريكي عام 2003.

الواقع ان حنا بطاطو كان أول من اشار مبكراً الى الاختلال المتواصل في بناء الامة نتيجة ذلك خلال هذه الحقبة الجمهورية، وشاركه في ذلك عدد وافر من المؤرخين ممن درسوا الدور المركزي للجندي السياسي. فالغاء المؤسسات التشريعية واحلال نظام المحاكم العسكرية عوض القضاء المدني، وإزالة المحكمة الدستورية، قضى على الفصل النسبي بين السلطات، وباتت السلطة التنفيذية هي المرجع الأعلى، وتحولت سيادة الشرعية من التفويض الانتخابي والاصل النبيل للعائلة المالكة ونخب العهد القديم الى اعتماد ايديولوجيات شعبوية (الشعب، الثورة، القومية العربية، الماركسية)(6).

عند دراسة تركيبة نخب الدولة في الفترة الزمنية الممتدة من عام 1958-1979، يلاحظ ثلاثة اتجاهات رئيسة: صعود دور الضباط المحترفين، انحسار تمثيل القطاعات الشيعية والكردية، أخيرا التحول من نخب تنحدر من الشرائح العليا الحضرية للطبقات الوسطى الى فئات قروية (او بلدات طرفية) من الشرائح الدنيا للطبقات الوسطى(7).

كانت الشرائح العليا من الطبقات الوسطى تميل في الإطار العراقي، عصر ذاك، الى اعتماد الدولة كناظم، لكنها كانت تنزع الى الحفاظ على اقتصاد السوق (خلال 1958-1963)، اما الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى، فكانت، بفعل اعتماد حراكها الاجتماعي والاقتصادي على الدولة، الى تمجيد الدولة كغاية في ذاتها، وميلها الى توسيع سلطة الدولة للهيمنة على المجال الاقتصادي- تندرج عمليات تأميم رأس المال الوطني في عهد عبد السلام عارف (1963-1965)، في هذا الإطار. والمفارقة ان هذا العهد ترك رأس المال النفطي الغربي بلا مساس(8).

من هنا اقتران غلق النظام السياسي دون التمثيل الواسع لمكونات الأمة بغلق الحقل الاقتصادي أمام القطاع الخاص واحتكاره من جانب الدولة على يد فئات طرفية من الشرائح الدنيا للطبقات الوسطى.

الأكثر من ذلك ان الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى، بجناحيها العسكري، او المدني، لجأت بسبب ضعفها، وتكوينها الثقافي، الى شبكات القرابة، الجهوية و/او /القبلية، دافعة الاحتكارات الفئوية للمجال السياسي والحقل الاقتصادي الى مديات أبعد. وبفضل عائدات النفط المتزايدة، غدت الدولة كهيئة للحكم منفصلة نسبياً، حسب تعبير بطاطو، عن علاقات القوى الناجمة عن الثروة الإجتماعية(9)، وباتت مديات المشاركة السياسية والاقتصادية رهن بالدولة المختلة من حيث هي ممثل للجماعة القومية (او الوطنية). لعل افضل مثال يساق في هذا الباب، انفجار التمردات المسلحة للحركة الكردية، وبروز الاسلام السياسي الشيعي برداء طائفي في هذه الفترة تحديدا(وهو ما سنتناوله بتفصيل أوسع في القسم الرابع من هذا البحث).

تلك هي ثمار الحقبة "الثورية" من حكم المؤسسة العسكرية. ولا نغالي اذا استنتجنا من تاريخ حقبة البعث(1968-2003)، ان مسار بناء الأمة حافظ على عوامل الاختلال نفسها لكن بمستوى اعلى: انغلاق النظام السياسي، وهيمنة الدولة على اقتصاد السوق، وقد تفاقمت هذه الميول بفعل الحروب المتصلة، الحرب العراقية – الأيرانية (1980-1988)، حرب الكويت (1991-1995)، والحصار (1995-2003) أو بفعل التمردات الكبرى (انتفاضات الكرد والاسلاميين الشيعة عام 1991). او بفعل عمليات التهجير لقطاعات من الشيعة (1974، 1980-1981) والمعسكرات الإجبارية للأكراد (1987 وصاعداً).

وينبغي، تفادياً للبس، تحليل بنية الدولة، وطبيعة التحولات السوسيولجية التي نتجت عن هذه الحقبة، وآثارها السياسية لجهة بناء الأمة.

نميل، في هذا البحث، كما في مباحث اخرى سابقة الى توصيف النظام البعثي بأنه نظام توتاليتاري (شمولي)، المتميز بإندماج الحزب الجماهيري بالدولة، والهيمنة على الاقتصاد، وفرض واحدية ايديولوجية، ومنظومة ثقافية مركزية تحتكرها الدولة وفق النموذج التوتاليتاري الأوربي، ولكن، خلافا لهذا الاخير، يتميز النموذج البعثي بعناصر سلطانية، تقربه من الحكم الأسرى (السلالي) جرّاء امتزاج الاشكال الحديثة للعمل السياسي الجماهيري، بالعصبيات الأولية (القرابية)، كوسيلة للتنظيم، والتماسك والضبط والولاء(10).

مجمّع الحزب –الدولة، والحزب - الاسرة، والدولة –الأسرة، وتداخل الشبكات القبلية للقرابة في ثنايا هذا النسيج، أسبغت جميعا على مؤسسات الدولة طابعاً جديداً، وفاقمت المركزية المفرطة واكسبتها سمات جديدة. فالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية انحصرت بيد هيئة ذاتية التعيين، هي (مجلس قيادة الثورة)، واعلن الحزب عن نفسه بوصفه "الحزب القائد" للدولة والمجتمع (مصطلحات مستعارة من الخطاب الأيديولوجي الستاليني). واندمجت القيادة القطرية بكامل عضويتها في مجلس قيادة الثورة، فألغت الثنوية السابقة (11).

لم تكتف الدولة التوتاليتارية، القرابية باحتكار الحياة السياسية، بل سيطرت ايضاً على معظم ميادين انتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية (رغم خصخصة جزئية وتخفيف بعض الضوابط عام 1987) وعلى انتاج الثقافة وتوزيعها (التعليم، وسائل الإعلام، وصناعة الثقافة)، بل حَوَت في جوفها معظم الروابط الاجتماعية الحديثة (نقابات العمال، الجمعيات، النقابات المهنية، إتحادات رجال الأعمال، غرف التجارة)، فتحولت بذلك الى لوياثان (وحش) كلي القدرة وكلي الحضور. وتحقق لها ذلك بفضل عوائد النفط والطفرة النفطية (1973 فصاعداً)، التي مكّنتهامن بناء ماكنة جبارة للسيطرة(12). فنمت الاجهزة البدوقراطية، والمؤسسة العسكرية نمواً سريعاً هائلاً، الاولى لتوزيع المنافع على المجتمع والثانية للسيطرة على المجتمع ولأداء الوظائف المتوسعة. نمو المؤسسة العسكرية كان الاسرع(من 62 الفا الى 430 الف جندي من خلال 1970-1980(13). ثم قفز الى المليون خلال الحرب مع إيران). وتحولت النخب المهيمنة على الإدارة والمؤسسة العسكرية –الأمنية، الى ما يشبه طبقة -عشيرة، فريدة، قائمة بذاتها(14). وأنمت الدولة، ورعت فئات ضيقة من المحاسيب لتندرج في عداد الطبقات المالكة العليا (على ضيقها)، مقابل الولاء المطلق للدولة، وزاد عدد أصحاب الملايين من 23 (عام 1958)الى 800(عام 1980)، وبحلول نهاية الحرب مع إيران كان ثمة 3000 عائلة من هؤلاء تملك ثروة اجتماعية هائلة، محصورة في مناطق ضيقة(15).

وتفيد الدراسات غير المكتملة عن تشكيل الطبقة العليا، اعتماداً على عينات عشوائية، أن جلّ الافراد والعوائل ضمنوا ارتقاء السلم الاجتماعي بفضل الصلة القرابية /القبلية، أو بحدود اقل الانتساب الحزبي، او كليهما. وقد حصلت إعادة هيكلة كبرى لهذه الطبقة خلال حقبة البعث، من حيث الانتماءات الإثنية والدينية المذهبية، لصالح فئات ضيقة سنية عربية مع استثناءات فردية، انتقائية لعوائل كردية وشيعية(16).

نمو لوياثان الدولة، استجر تحولات اجتماعية ستترتب عليها انقلابات في الثقافة المجتمعية، وتمزقات في النسيج الوطني، وانعطافات في الرؤى والسياسية، فأولا تحول العراق من مجتمع زارعي منتصف القرن العشرين الى مجتمع حضري فائق، إذ نما سكان المدن من 36في المائة الى 72 في المائة بفعل الهجرة المتصلة، اكثر مما بفعل النمو الطبيعي، ما حول المدن الى أرياف موزعة، اما الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى، فقد نمت من 34في المائة الى 55في المائة من سكان المدن خلال عقدين من حكم البعث. وكان هذا هو الفضاء الاجتماعي الارأس لنمو لحزب القائد الحاكم(17).

رغم الفورة النفطية بقيت الشرائح الهامشية واسعة خصوصاً في المناطق المهملة، ناهز حجمها نصف المليون (مع تغيرات طفيفة هبوطاً وصعوداً). لكن الفوارق الاقتصادية بين المناطق والإثنيات، والمذاهب، هي اخطر من الفوارق بين الطبقات(18).

خلاصة ذلك تضخم المدن وتحويل أحيائها الى ما يشبه "القرى"، تضخم الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى وانهيارها (خلال الحصار)، تمزق النسيج الوطني واحتدام المعارضة اليسارية، والكردية، والاسلامية الشيعية. سنركز على هذه الاخيرة أدناه.

استخدم الحكم الحرب العراقية الايرانية لبناء "وطنية عراقية" تلتحم بالايديولوجيا القومية الرسمية للدولة. كانت الحرب أداة فعالة خلال أعوام ١٩٨٠-١٩٨٨، لكن حرب الكويت ١٩٩٠-١٩٩١ فصمت العلاقة بين الاثنين و افضت الى الانتفاضات الشيعية في الجنوب و الكردية في الشمال. الحرب تشترط وحدة الامة، الانتفاضة تنطلق من انهيار هذه الوحدة.

amazia barsm, my: the war generation: on nationalism. State nayionalism. Rather than ethnic

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- Lonrgrigg, Iraq 1900-1950, p.134-135.

2- T. Dodge, Inventing Iraq, p. Sluglett, Britain in Iraq, p.

3- انظر جداول بطاطو Batatu، حول تركيب طبقة ملاك الارض ص 47-48.

اما عن مشاركة ملاك الارض في البرلمان انظر ص 103.

4- Ph. Marr. P. 127, 143-146. Batatu, p. 27, 32, 807.

5- بطاطو Batatu، ص 807- مار Marr، 282-283- خدوري(1969) ص 86 وسلغليت Slaglett (1990) ص 108.

6- Hopwood et al. p.20-30. Qwen (1992) p. 197-200, 206-212.

7- Lenczaswki (1975) p. 118-121, MEJ (1970), p. 284 & passim.

8- انظر خدوري- العراق الجمهوري، عبد الجبار – الدولة والمجتمع المدني.

9- Batatu p. MERIP, No. 172, v.21, p. 14-23 – Beblawi & Luciani (eds) v.2, p.10-14.

10- نعتمد في تحليل التوتاليتارية على عدة مراجع اهمها: Franz Neumann, Behemoth

Hana Arendt, Origins of Totalitarianism انظر كتابنا: التوتاليتارية، معهد دراسات عراقية، بيروت، 2008، ترجمة حسني زينه.

11- Heine, in , Hopwood, p. 19-36, Trip p. 37-50. حول مواد الدستور، انظر: الوقائع العراقية، تموز 1970، العدد 1900، دستور العام 1970، المواد 31-45.

12- Slugletts (1990) p. 206-207, Slugletts (1994), p. 35-6.

13- Nasrawi (1994), p. 92-93.

14- Batatu, p. 10-13, Slugletts (1990) p. 114-136.

15- Chaudry, in, Harik’s Sullivan, p. 152-155.- Chaudry, MERIP, No. 172, 1941, p. 14-23.

16- عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني (1995)، ص 233 وما يليها.

17- حول سكان المدن انظر موجز الاحصاء السنوي في العراق، 1992، ص 37، 39، 41، 74، 94.

18- هذه عبارة كان يكررها على مسامعنا البروفسور بول هيرست Paul Hirst، استاذ الفلسفة السياسية في كلية بيركبك، جامعة لندن. وكان يورد امثلة غزيرة عن حدّة هذه الصراعات كماً ونوعاً، بالقياس الى الصراعات الطبقية.

عرض مقالات: