لم تكن السيدة ام جواد باحثة اجتماعية مهمتها تشكيل البنية التركيبية لمدينة صغيرة اسمها الهارثة ولم تكن مؤرخة معنية بأحوال تطور المدن ولم تكن تملك أي خبرة عن الواقع الاجتماعي في المدن العراقية الصغيرة لكنها امرأة انكليزية زارت مدينة الهارثة لأول مرة بعد مقدمها الى البصرة، فسحرتها الامكنة، بروعتها وكان هذا في عام 1959.
خلال ستة عقود من الزمان المتدهور اللاحق اصبح التغيير عميقا وعسيرا بهذه المدينة الجميلة. صارت الرؤية اليومية فيها تتركز حول بؤرة الصراع المسلح بين عشائر الهارثة اشكال جديدة من البؤس والخراب الاجتماعي – الاقتصادي نتيجة استبداد هذه العشيرة على تلك ونتيجة استبداد العشيرة على الدولة واجهزتها.
في محافظة البصرة وبالتحديد في شمالها أي بمدينة الهارثة بالذات نسمع بين حين واخر في هذا الزمان العراقي المعقد الناشئ عن تعقيدات الشكل الجديد من اشكال الصراعات العنيفة اللاحقة لأوضاع التاسع من نيسان 2003 الذي تجاوز كل ما هو متوقع بعد سقوط نظام دكتاتوري وحروب واصلها صدام حسين بالحديد والنار.
كل يوم من ايام الاعوام الخمسة عشر من السنوات الماضية نسمع اخبار صراعات عشائرية، دموية مسلحة، بالثقيل من انواع المدافع والرشاشات، مما يستدعي الباحثين في جامعة البصرة ومراكز الاحزاب ومؤسسات الدولة الاخرى ذات العلاقة ان لا تهمل مثل هذه القضية، بل توليها اهتماما زائدا في ضوء انها جزء من الواقع التاريخي الجديد الجاري بوطننا، كله، بعد نيسان 2003 وليس من الصواب بل الخطر، تجاهل هذا الواقع.
من المهم والضروري البدء بفهم ومعرفة تاريخ العشائر في هذه الناحية، التي تعتبر خط ارتباط ومواصلات بين البصرة والقرنة، بين البصرة والعمارة، بين البصرة وبغداد وغيرها من المدن العراقية، بمعنى ان أي صراع مسلح بين الكيانات العشائرية الهارثية يؤثر على جزء ليس صغيرا في مسيرة التاريخ العراقي وتقدمه.
مقالتي هذه اكتبها اليوم لتستدعي ذاكرتي عن زياراتي الكثيرة الى مدينة الهارثة خلال فترات مختلفة من عمري. أكثر الزيارات كانت سياحية واعمقها كانت لأغراض توسيع نفوذ الخلايا الشيوعية فيها خلال فترة انهيار النظام الملكي وبدايات النظام الجمهوري وقد وجدت في النوعين من هذه الزيارات شعباً كريماً فريدا متكونا من كادحين يعملون ليل نهار، من اجل تنمية الثروات النباتية والحيوانية، لتلبية حاجة الناس اليها من سكان محافظة البصرة كلها ، حيث يتناولون غذاءهم يوميا من منتجات العاملين في الهارثة.. اطيب انواع التمور وارقى انواع الاسماك والطيور، كما يمتازون بإنتاج ألذ انواع الحليب والزبد والقيمر لتغذية صباحات اغلب اهل البصرة ، إضافة الى توفير لحوم البقر والاغنام والاسماك. كان هذا الحال مرئيا وملموسا منذ زمان طويل حتى قيام الحرب العراقية - الايرانية إذ اخذ الانتاج الزراعي - الحيواني بالتناقص والتعقيد.
وجدت انطباعاتي خلال كل زياراتي القديمة عن اناس هذه المدينة انهم يحملون خطابا هاما من خطابات الاخلاق الانسانية الراقية، لم يكن فيها أي شكل من اشكال مفارقات الصراع المسلح بين افرادها او بين عشائرها إلا ما ندر. هذا النادر، بتلك الايام، لم يكن يتجاوز النموذج الطبيعي بين الناس والشعوب بكل مكان، لكن مع كل صعوبات حياة تلك الفترة والانظمة القاسية فأن منطقة الهارثة، في المدينة والريف على ضفاف الفرات وشط العرب وداخل الاهوار المحيطة واولها بصرياثا ركزت حياتها على انتاج القيم الانسانية الخاصة بها.
اتذكر في هذه اللحظات ان الانتقال الايجابي الرئيسي في حياة سكان الهارثة كان قد حدث إثر العملية التطورية الكبرى حين تم انشاء محطة الطاقة الحرارية لتوليد الكهرباء في البصرة خلال منتصف خمسينات القرن الماضي، ابان العهد الملكي، فقد وجد عدد غير قليل من عمال الهارثة فرص كسب العيش الكريم بالعمل في هذه المنشأة المطلة على نهري الفرات وشط العرب، ثم اعقبتها عام 1960 بعيد ثورة 14 تموز بتأسيس (معمل الورق) المطل على اهوارها حيث تم بناء نمط جديد من انماط الانتاج الاقتصادي ساعد في انهاض ورفع مستوى سكان اهوار البصرة عموما. توافرت فرصة الوعي الرئيسي لسكان المنطقة حين توافرت الفرصة الاولى لوظيفة مدير تنفيذي كفء ونزيه يتميز بالأخلاق الانسانية النادرة المثال لإدارة مشروع الطاقة الحرارية – الكهربائية الذي يشغله ابناء مدينة الهارثة انفسهم بشخص المهندس اسعد محمد رضا الشبيبي، فقد استطاع هذا المهندس – المدير خلال فترة قصيرة جدا تحقيق علاقات معدلة بين سكان الريف في الهارثة وبين تكنولوجيا الكهرباء حتى اصبح هذا المهندس رمزا من رموز المجتمع في الهارثة.
اول مرة تعرفت فيها على المهندس اسعد الشبيبي كان في مساء يوم من ايام ثورة 14 تموز عام 1958 حين اوكلت لي اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في البصرة القيام بمهمة عريف الحفل في المهرجان الجماهيري – الطلابي الكبير بساحة متصرفية محافظة البصرة، كان هذا المهرجان هو الاكبر بتاريخ مدينة البصرة حتى الان.
قدمت الخطيب الاول عبد الوهاب طاهر الذي كان ممثلا للحزب الشيوعي ثم الخطيب الثاني ممثلا عن الحزب الوطني الديمقراطي لا اتذكر اسمه الان مع الاسف ولست متأكدا ان اسمه عبد الامير المظفر، ثم قدمت الشاعر الشعبي المعروف زاهد محمد المقيم بتلك الفترة في البصرة، وبعدها القى السيد حميد الناصر كلمة مثقفي البصرة، ثم قدمت المناضلة نورية عباس كلمة رابطة المرأة العراقية، كما القى كامل سالم كلمة طلاب البصرة ثم تقدم الشاعر المهندس اسعد محمد رضا الشبيبي فألقى قصيدة عصماء اعيدت ابياتها مرات ومرات وكانبمطلعها:
عبد الكريم وكل الناس شاكرة
لك الصنيع الذي ما كان مرتقبا
الثائر الحر من يرقى بمجتمع
يصغي ويستجيب للذي طلبا
كنت على علم ان المهندس اسعد الشبيبي هو من الشيوعيين المنقولين من بغداد بعد اكمال دراسته في لندن وزواجه هناك من سيدة انكليزية ذكية جدا. كان الشاعر – المهندس قد انضم الى عضوية لجنة المثقفين في الحزب الشيوعي بالبصرة.
بعد انتهاء ساعة المهرجان اجتمعنا حميد الناصر وجاسم المطير وسلطان ملا علي من دون موعد بمنزل الرفيق اسعد الشبيبي وكانت زوجته الانكليزية في استقبالنا.. كانت تتكلم العربية بطلاقة تامة لكن ما اثار استغرابنا انها تجيد التحدث بلهجة بصراوية اصيلة، كما كانت ترتدي وقتذاك ملابس شرقية، بما فيها الفوطة البيضاء المنسدلة على رأسها مما دعا سلطان ملا علي الى اطلاق لقب جديد عليها احتراما لها بتسميتها (ام جواد..). دار الحديث في هذا اللقاء عن الثورة والكهرباء والهارثة وعن ذكريات اسعد الشبيبي في لندن اثناء دراسته الجامعية وعن مضمونها التكنيكي وما رافقه من ابداع ادبي – شعري اضافة الى نمو معارفه الاجرائية ومهاراته الهندسية مستذكرا استرجاعها واستثمارها بوجوده الحالي مديرا في محطة كهرباء الهارثة.
شعرت خلال الاحاديث ان اسعد الشبيبي يبني خياله على تمجيد الهارثة واهاليها الطيبين، بل الاكثر من ذلك وجدت لديه رغبة جامحة للسكن في الهارثة نفسها، ليكون قريبا الى مركز عمله وان يكون اكثر اجتهادا لخدمة الهارثة واهاليها. كانت قوة نفسية تدفعه الى ذلك مما جعل رفاقه الحاضرين جميعا مساندين لهذه الفكرة.
في اليومين اللاحقين كنت مع المهندس اسعد الشبيبي وزوجته نجول في الشارع الرئيسي بمدينة الهارثة بحثا عن مكتب دلالية او عن بيت للإيجار. لم يعتب علينا زقاق من ازقة المدينة وما وجدنا ما نريد، بينما كنا محاطين بعيون الناس تتطلع الينا، ثم وجدنا انفسنا امام ترحيب كبير حالما عرف احدهم شخص المهندس اسعد الشبيبي. جاء الكثير من الناس معربين عن سعادتهم بهذه الزيارة، ثم قام احدهم بطرح خروف امام قدمي اسعد الشبيبي مؤكدا ان عشيرته لن تسمح لنا بمغادرة المدينة إلا بعد تناول وجبة الغداء بمضيف العشيرة.
كان للمظهر الجماهيري العام في شوارع الهارثة في ذلك اليوم تأثير نفسي كبير على مدير الناحية، حيث خالط الناس المرحبين، معلنا عن استعداده لتخلية بيته وتسليمه الى اسعد الشبيبي.
ما زلت احتفظ بجمال ذلك اليوم وفصاحته وبلاغته عن وحدة الناس و ميلهم نحوها بالرغم من تعدد القبائل والعشائر والافخاذ.
في ما بعد نيسان عام 2003 اصبحت مدينة الهارثة مهملة اداريا وانسانيا رغم كونها تحتضن بعض كليات جامعة البصرة، بل اصبحت بلدة متخلفة خابية، يوما بعد يوم. ليس فيها أي شيء تأنس له روح المواطن. ليس هناك أي تطور اقتصادي ولم تتوفر الخدمات الاجتماعية حتى بأدنى مستوياتها السابقة لما قبل اندلاع الحرب العراقية – الايرانية بعد التوقف التام للوظائف الحكومية والاهلية، مما جعل العديد من افراد عشائر الهارثة منتظمين بعصابات ملثمة شأنهم شأن العصابات العشائرية المنظمة في القرنة والزبير وغيرها من العشائر الاخرى في المدن العراقية الاخرى، يتجهون نحو وظائف تكييفية من اختيارهم بممارسة اعمال السطو والنهب والسلب وتحولت اياديهم من الزراعة وتربية الحيوانات نحو السلاح لتكون مطارق الليل والنهار على الابواب المغلقة لفتحها بالقوة وقيامهم بالقتل والاغتيال والسرقة او اختطاف النساء بمعنى تحقيق انحراف عشائري من مكامن مضايف الخير الى بؤر الشر ملتمسين حيازة الاموال والثراء وفرض استبداد السلاطين الملثمين على مجموع الرعية العشائرية كي تركن الدولة الى طاعتها وتنقاد الى مطالبها.
غدا التاريخ الانساني لهذه البلدة مرهونا بأيدي المقاولين الفاسدين والنصابين وتجار السلاح وتهريب البضائع والمخدرات. لكل فرد من افراد العصابات المنظمة انتماؤه العشائري المركب وادواته الخاصة لمنافسة عشيرة او عشائر اخرى والصراع على النفوذ من اجل الحصول على قطعة ارض او قطعة حجر مختلف على عائديتهما او قيام صراع مسلح اثر تجاوز معزة او بقرة تغذت في هذا الحقل او ذاك حيث موروث و طقوس الزراعة العشائرية لا تجيز ذلك التجاوز مهما كان بسيطا او عفويا او متعمدا.
كما صارت الشعائر والمعتقدات الدينية والمذهبية الواحدة غير قادرة على تعديل الاوضاع الاجتماعية والتواصل من اجل ايجاد الحلول للمختلف عليها او بشأنها فقد غدت السلوكية الرأسمالية والركض وراء الثراء غير المشروع سلوكية طاغية على اناس وافراد من ابناء العشائر، من اشباه الاميين غير المالكين لأبسط انواع الوعي الاجتماعي، لا يجيدون غير حمل السلاح وتحدي العشائر المنافسة وتعكير الاوضاع الامنية في عموم المجتمع، بتحدي قوى الامن، الشرطة والجيش، بعد ان اصبح هؤلاء المتمردون قادرين على ابتكار مختلف اساليب القتال والغدر، تعلموها منذ ايام الحرب العراقية – الايرانية حيث تربى جيل جديد من شبان العشائر على الانخراط في كم كبير من السلوكيات الاستبدادية العبثية، غير الانسانية، غير المرتبطة ايضا بعوالم العشيرة العراقية وتقاليدها.
لم يعد شباب عشائر الهارثة او القرنة او الزبير (الجيل الجديد) يتفاعلون مع البيئة الاجتماعية – العشائرية، بل تم اخضاعهم بشكل او بآخر لوجهة جديدة مختلفة، كليا، عن وضعها في زمان مهندس الكهرباء اسعد الشبيبي. لا يستبعد ان تكون هذه الوجهة سلوكا نحو كيانات خارجية ذات مصلحة في الصراع العشائري داخل الوطن، سواء في البصرة او ديالى او الانبار وتكريت وغيرها, ليس من حصاد هذه الافعال غير الرصاص المنطلق من ايدي ابناء هذه العشيرة الى صدور ابناء تلك العشيرة.
لم يعد يوجد حل للنزاعات العشائرية، في هذه الأيام، غير بسط قوة الجيش والشرطة وفرض سلطة القانون بتوجيه ضربة ماحقة لهواة اللعب بالنار والسلاح وكل العصابات الخارجة على القانون. كما العمل والسعي لصلاح معاش الناس بمقادير من مشاريع زراعية وصناعية توفرها الدولة او القطاع الرأسمالي الخاص او كليهما لوضع جماهير الهارثة، كلها، في طريق البناء والاعمار والخير لأنه الطريق الوحيد القادر على القضاء على اعمال الشر والرذيلة، الذي كان يحلم به المهندس اسعد الشبيبي، حين كان بالهارثة مواطنا يكرس كل جهده اليومي من اجل اهاليها الطيبين قبل انتقاله الى وظيفته في بغداد مهندسا بالطاقة الذرية ليجعل مفاعل تموز في جسر ديالى خيرا سلميا عميما لكل الشعب العراقي، لكن النظام الدكتاتوري اراد ان يكون بالضد من احلام اسعد الشبيبي بتحويل المفاعل الى انتاج ذري يستخدم بحروب صدام حسين اللاحقة. اختطفوه في اواخر سبعينات القرن الماضي وضاعت جثته النبيلة مع الضائعين والضائعات من ابناء الشعب، المناضلين و النبلاء.
عاد عصر العشائر منذ قيام الحرب العراقية – الايرانية متواصلا، اليوم، بما يحمل من صراعات ونزاعات مسلحة في الكثير من الارياف والمدن العراقية، و بما تحمله عشائر العراق من اصول وافخاذ وفروع لبلوغ الرتبة القصوى من التسلح ومن تنظيم العصابات الملثمة، مخزونة في قلوبهم وعقولهم معاداة الدولة واجهزتها الامنية، مما جعل اهوال العصابات اقوى واوسع، حتى الآن، من منافع الاجهزة الامنية، العاجزة عن استخراج السلم الاهلي و تحويله من الخطط الورقية الى التطبيق الفعلي على الأرض، بين الناس انفسهم.
هل يظل الشعب العراقي، الى وقت طويل، بانتظار شهامة ونجابة الجيش والشرطة الوطنية لتحقيق أمن المواطنين كمهمة اولى..؟

عرض مقالات: