طريق الشعب
يمر الاقتصاد اللبناني بأزمة كبرى، لا تطول مؤشّرات اقتصادية مثل النمو والبطالة فقط ، قد يُمكن حلّها بسياسات مالية أو نقدية جديدة، بل هي أصبحت أزمة بنيوية تطول قدرة الاقتصاد على رفع الإنتاجية وتطوير التكنولوجيا ووسائل الإنتاج والبنية التحتية والتصدير واستخدام العمالة الماهرة ورفع مستوى المعيشة للمواطن المتوسّط. وكل هذا يعني ترسّخ منحى طويل الأمد من التراجع الاقتصادي وفقدان لبنان موقعه أيضاً.

وقد بيّن التقرير الأخير حول التنافس أن كثيراً من المؤشّرات ليست في وضع سيئ فقط، بل أيضاً ذات منحى تراجعي. فحالياً يحتلّ لبنان المرتبة 105 في العالم، والمرتبة الأخيرة في المنطقة العربية.
ان على قوى المعارضة الديمقراطية طرح البرامج البديلة والإنقاذية تحضيراً لمسارين محتملين: الأول، حصول أزمة كبرى وانهيار اقتصادي يؤدّي إلى أزمة سياسية كبيرة تتطلّب أن تأخذ قوى جديدة دورها في عملية الإنقاذ. والثاني، تحضيراً للانتخابات المقبلة التي من دون شكّ ستصل إليها الأحزاب الحاكمة الحالية مُنهكة من ألعابها، وغير قادرة على تجديد نفسها، لا كمّياً ولا نوعياً. وفي هذا الإطار، وكجزء من المعارضة الديمقراطية، على اليسار، وخصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني، أن يطرح برنامجاً للتغيير يحشد حوله الطبقات والقوى المتقدّمة في المجتمع، التي لم تعد ترى في النموذج الاقتصادي والسياسي الحالي فضاءً تعمل فيه من أجل تحقيق مصالحها. لم يعد ممكننا اليوم البقاء في الماضي بذريعة انغلاق طرق المستقبل.
وهناك ثلاثة خيارات مختلفة، على الرغم من تقاطعها في بعض البنى والسياسات، يمكن أن يتبعها اليسار في هذه الفترة.

أولاً: الديمقراطية الاجتماعية

اتباع سياسة ديمقراطية اجتماعية مبنية أساساً على دولة الرعاية الاجتماعية كما على الاقتصاد المُختلط. في هذا الإطار، يتطلّب الأمر نظاماً ضريبياً هائلاً ونظاماً متطوّراً لإعادة التوزيع. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق من دون أن تكون القاعدة المادية للاقتصاد متطوّرة. في الحالة اللبنانية الوضع ليس كذلك وإن أي إعادة توزيع للمداخيل من دون الأخذ بالاعتبار الحاجة إلى تطوير الاقتصاد ستكون آثارها سيّئة.

ثانياً: الديمقراطية الاشتراكية.

يتضمن برنامج حزب العمّال البريطاني الجديد، إجراءات أكثر جذرية تذهب أبعد من الديمقراطية الاجتماعية التقليدية من حيث طرحه الملكية المشتركة بين الرأسمال والعمل للشركات الكبرى، وطرحه مفهوم «العائد الاجتماعي» الذي يحوّل جزءاً من عائدات الرأسمال إلى المجتمع لبناء البنية التحتية والاجتماعية على أنواعها. جون مكدونال، سكرتير خزينة الظلّ، كان واضحاً في وضع مسألة الملكية كأولوية عندما أعلن في مؤتمر حزب العمّال في أيلول أن «السلطة تأتي أيضاً من الملكية». نحن نؤمن بأنّ العمّال، الذين يخلقون ثروة المؤسّسات، يجب أن يشاركوا في ملكيّتها... سنقوم بإمرار تشريعات تطول الشركات الكبيرة لتحويل الأسهم إلى «صندوق ملكية تضميني». وسوف يتمّ الاحتفاظ بالأسهم وإدارتها بشكل جماعي من العمّال. وستمنح حقوق المساهمين للعمّال الحقوق نفسها التي يملكها المساهمون الآخرون... وسيتم دفع الأرباح مباشرة إلى العمّال من الصندوق... وبهذا، سيكون لنحو 11 مليون عامل رأي أكبر، وحصّة أكبر في مكافآت عملهم".

ثالثاً: اشتراكية السوق.

إن الخيارين السابقين يتطلّبان اقتصاداً متقدّماً. وهو أمر ركّز عليه كارل ماركس وفريدريك إنجلز، حيث إن «اشتراكية التوزيع» المبنية على اقتصاد غير متطوّر ليست قابلة للاستمرار وهي طوباوية. إن أي سياسة اقتصادية لليسار في لبنان، اليوم، يجب أن تنطلق من تشخيص أن الرأسمالية اللبنانية لم (ولن) تحقّق التقدّم الصناعي والتكنولوجي اللذين يزيدان الإنتاجية والفائض الاقتصاديين نحو قيام دولة الرعاية الاجتماعية و/أو مجتمع الملكية المشتركة، وصولاً إلى الإشتراكية. وان الحاجة الآن هي إلى «دفعة كبيرة» وتحويل الثروة الريعية إلى تراكم رأس المال وإلى التقدّم التكنولوجي. والطريقة لتحقيق ذلك هي استعمال النظام الضريبي لاستغلال القطاعات الريعية وتحويل الموارد وإعادة التوزيع، ليس للاستهلاك، بل إلى التصنيع وتطوير القوى المُنتجة من خلال سياسة صناعية وتكنولوجية للدولة. وبهذا يتمّ تحقيق هدفين في آن: نزع سيطرة القلّة على الثروة والدخل المتركّزة في الريع وإقامة اقتصاد متقدّم . سياسياً، إن حمل اليسار مشروع القفزة الكبرى لإقامة اقتصاد عالي الإنتاجية عبر اشتراكية السوق و«إدارة وتسيير الرأسمالية اللبنانية»، يمكن أن يجذب الشباب المُتعلّم والعمّال والموظّفين والرياديين وبعض الرأسماليين المتنوّرين الذين يعانون كلّهم اليوم من سيطرة الريع الخامل على الاقتصاد، ما يمنع حالياً التقدّم والرفاه وتحقيق آمال الكثيرين في مستوى معيشة أفضل يتماشى مع القدرات الكامنة في لبنان، والتي يُبدّدها الرأسمال الريعي والتجاري ونظام إعادة التوزيع الطائفي.

*- باختصار عن موقع الحزب الشيوعي اللبناني