كلما حدّقت ُ في وجعنا العراقي الدؤوب، تساءلت ُ: لماذا هذا الوجع لا يتعرف إلى نفسه إلاّ فينا؟ ومتى تتوفر له إمكانية المكوث في اكتماله؟ لنتحرر منه ومن باب السؤال وإطلاقه نحو الذات الميتافيزيقية، هل تصغي هذه الذات لسؤال الآخر؟ أم هي تكتفي بتمويله الذاتي للأسئلة ولا تصغي لغير أسئلتها هي؟! هذه الأسئلة وشقيقاتها لن أبحث لها عن أجوبة في أروقتها الفلسفية، فالسؤال الفلسفي يدور حول نفسه، مفسرا ومفككا تفسيره. ونحن في مسيس العطش نبحث عن مياه تليق بتصحر أجسادنا الظمآى. من هنا لا مفاتيح خارج الشعر المسكون بالدهشة أعني الشعر المصاب بلوثة الشعر..ولم أجد مرشحا للتحاور سوى الأستاذ والصديق الحميم
في أواخر القرن العشرين، في صحيفة محلية تصدر في البصرة حاورت الشاعر الموسوي على سعة صفحة كاملة ومنذ سنة وكلانا يبحث عن ذلك العدد وللأسف، وفي أوائل 2016 اتفقنا على صياغة أخرى.. أنا أسأل وهو ينتقي – وهذا مقترحي الذي لم يرفضه – أجوبة ً من قصائده.. وجعلنا السؤال والجواب على شكل جلسات أسبوعية، فهو يزورني في ضحى كل جمعة ونمضي وقتا من التاسعة حتى الواحدة والنصف في غرفة المكتبة.. نتحدث فيما بيننا ونتبادل الكتب ونقرأ نصوصنا ونخصص وقتاً لسؤال أو أكثر.. ثم نتركه فترة، لنخلّص المحاورة من ما لا نراه ضروريا..
في اليوم الأول من رحيله، انفردت ليلا مع مشروعنا البسيط وقررت إتمامه فتلك غدت مسؤوليتي أنا فقط للأسف!
 
أيها الوديع المسالم يا صاحبي ونديمي ودليلي إلى المنتآى أيها الموسوي الفراشة، أريدُ أنّ أدخل غرفتك من توصيفك لها، وليس مِن خلال ما أراه أنا، فهل ذلك في حيز الإمكان؟
-
هنا يصمتُ مجيد الموسوي يتأملني باسماً، يلتقط كتابا من الرف الثالث من مكتبتي، يتصفحه، يجلس على القنفة، يلتقط استكانة الشاي لومي بصرة، يرتشف منها يغمض عينيه، ويحلق هناك في صومعته يتأمل الأشياء وينقلها لي:"

كتبٌ وقراطيس مصفوفة
وتصاوير:
صورة طفل يمدّ لدميته يده
وعصافير صفراء، غابية تتخاطف في الدغل
وامرأة شبه عارية يتقاسمها الضوء والظل
نصفين
مشتعلين، وأشرعة تتجمد في أفق ٍ غائم ٍ
وخيول تحمحم عارية ً
وهي ترعى بمنفسح
السهل...
...
ثمة الشاعر المتوحد
يصغي لنبض خفي تسرّبه ُ الأرض
من جهة ما، ندى، وروح تهوّم في الصمت
تغشاه هادئة
كسراج مضاء"!

 والآن من أين نبدأ خطوة أولى، فأنت خاطبت العشب أولا.. ثم وصلت إلى "يقظة متأخرة" وبعد خطوات ثرة لملمت "دموع الأرض" وحين حثثت الخطى صحتُ بك إلى أين..؟ لمن تركتني يا نديمي .. نأيت َ قليلا ً لتقترب مني وهمست لي.. "لتأخذني أقدامي حيث تشاء".. وها أنا يا موسويّ الحميم أسألُك ثانية: إلى أين؟!
ها هو الموسوي يتوغل في بياض ٍ الوحشة وهو يرتل:"
سأبدأ من الزمن الذي لا زمن له
وأعرف أني سأنتهي إلى منطقة مجهولة
سأدخل غابة الأسئلة المحيّرة
وليس في الفؤاد جواب!
هكذا يبحر ربان الشعر
مشرّعا قلبه وروحه لموج المجهول
واضطراب الأنواء
وتقلبات الفصول..
أدخل وحدي.. أحراش المعاني
وأجمات الكلام، مؤملا ً بزهرة
تبرق في العتمات، فتحدثني عن البداية
لهب الدهشة الأولى
وخفقة الخلق".
 
يتعانق الشاعر المجيد الموسوي مع وردة البياض، تتقوس الوردة فوقه وهو يجثو ويتدفق صوته كشفق في ضحى بعيد:"
-
أبكي
بين يديك أيها المتعالي الجميل
فأنا عصفورتك المهيضة الجناح
أرفرف في فضاء قبتك الشاسعة
وأكتشف حريتي الوحيدة!
من النافذة: صباحا ً
وبروح الناسك النقية الأولى
أرقب الغيمة المرفرفة وهي تُمطر ُ
بغزارة كائناتها البيض.
 
يا صاحبي من خلال المشترك المتجدد بيننا منذ "48" عاما من الود والكتب واليوتوبيا والتواصل الحميم بين عائلتينا.. أراك منشغلا بالذي لا يراه سواك.. أعنني على تقريب صورة ما لا يراه سواك...؟ ومتى تكون رؤياك إليه؟
-
يضع منديلا ورقيا، في الصفحة التي كان يقرأها من كتاب "وصايا لابن عربي"، أختطف الكتاب من بين أصابعه، وأفتح الصفحة المعلّمة بالمنديل الورقي واقرأ السطر التالي:"
أحذر أن تنقطع عنه فتكون َ مخدوعا،لأن المخدوع َ مَن ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه.. تعلق َ الناس ُ بالأسباب، وتعلق الصدّيقون بولي الأسباب".
نتبادل النظرات ثم نقتسم البسمة.. ثم ترفرف فراشة صوت الموسوي:
-
في كل ليلة ٍ
من عالم مجهول ْ
يقترب ُ الوجه الطفوليّ
إلى نافذتي مغترباً وخائفاً..
يريد أن يقول شيئاً
ما الذي يريد
أن يقول ْ..؟
يدنو إليّ لاهثاً منكسرا ً
كأنما يريد أن يبوح شيئا غائما ً
لكنه يرتد ُّ كالمذعور
دامعاً ويختفي
في
عتمة
الحقول!

* أيها الموسوي يا مستشاري في المعرفة والحياة، ما قرأته للتو يعيدني إلى قصيدة قصيرة لك عنوانها "قمر آب":"

قمرٌ هادىٌ
يتدلى قليلا ً
قليلا ً
ويغمرني بشذاه
قمرٌ يتدحرج
في الغيم، أخضر
منكشفاً
ناعماً
كالمياه

* أعرف الكثير من سجاياك: التمعن في المهمل، الاشتغال على نبرة هادئة، زهدك فيما يتنافس عليه أذكياء الثقاف، تماهيك في ذرة رمل ٍ.. صفوك حين تبترد من الهجير بذلك الظل..
فهل نسجت من كل هذه الخيوط: خرقة ً للصوفي وماء ً للجرة؟!
يتأملني ثم يمسك بكلتا كفيه كفيّ، ويحدّق في اللامكان ويتهجد:

أكتفي بالقليل القليل
كوز ماءٍ
وكسرة خبز ٍ
وسجادة للتأمل
أفرشها آن َ يقترب الليل
والنجم يبرق مختلجا ً
في سكون المجرّة
وحدي
ترقرق عيني من الحزن والخوف
أدعو الهي
أجرني
أجرني
فمازلت أطمع ُ أن أتوسّد بين يديك
تراباً نقيا ً
وفيض بكاء ٍ
وقلبا ً ذليلا !

* أيها المجيد الموسوي.. لقد ورطنا كافافيس بلوثة أيثاكا، وتحدثنا حول ذلك كثيرا: العابر الاستثنائي شيخنا محمود عبد الوهاب وأنت وأنا.. هنا في هذه الحديقة.. في هذا البيت في ضحى تلك الجمعة السعيدة من أواخر آذار 2007 وكأننا نستأنف ما تحدثنا عنه قبل سنوات في مكتبة معهد المعلمين حيث كنت َ تدرّس اللغة العربية...هل تخليت الآن عن تلك المدينة النائية، بعد أن أعلنت في قصيدة لك "بيت بأقصى المدينة" وطبعا تقصد بذلك بيتك في منطقة القبلة.
يعقف الشاعر أصابعه ويرقصّها كأنه يعزف على بيانو.. يصمت ثم يردد:"

تركت البيت َ والكتب الثمينة والثياب
وعشب الحديقة
ومضيت ُ – وحدي – في متاهات الوحوش
بلا أنيس ٍ يدفع الضجر َ المميت َ
ولا دليل ٍ يكشف الليل الموارب َ
ليس لي إلا القميص الرث َ
أغسله ُ، وألبسه ُ
وأفرشه ُ
-
عِشاء ً آن َ يرهقني الطريق ُ
وبلغة ً من خبز أمي !
 
والآن.. الآن يا عبد المجيد بن سلمان الموسوي.. الآن أين وصلت َ؟
-
كم مشيت ُ – هناك - !
أعواما ً وأعواما ً..
وأعواما ً سألت ُ، إلى أن بت ُّ شيخا ً
طاعنا ً
حرضا
ولمّا أبلغن ّ
مدينتي
الأخرى !

* حدّثتك مرارا أن للمراثي في شعرك حصة كبيرة، وتناولت ذلك في مقالة لي عن شعرك
هل ترثي نفسك من خلال التراسل المرآوي بينكما: أنت وهم..؟! أم حالة سيكولوجية تكابدها بعمق كسؤال وجودي تترصده ويباغتك بغسقه الأبيض الصلد..؟ ووجودية هذا السؤال جماعية، وشاهدي في كلامي مجموعتك الشعرية الأولى "مخاطبات العشب" فأنت عنوّنت الفصل الأول "موت موّقت" والثاني "بياض أخير" والثالث "وردة الشوكران" أعني ما هو سر انشغالك بمهميمنة الموت التي سترافقك في كتبك الشعرية كلها؟ وأنت من خلال صداقتنا التي قاربت نصف قرن: إنسان ممراح، وديع مسالم، كما أصفك دائما. محب للجميع متصوف مع الأشياء بجمالية باذخة!
هنا يلقي نظرة على رفوف الشعر من مكتبتي، ويلتقط أحد دواوينه ويقرأ منه ُ:

أستيقظ أحيانا ً
منتصف الليل
لأبكي أيامي، مرتعبا ً
تسّاقط فوقي شهب ونيازك
من جهة ٍ مجهولة ْ
أستيقظ ُ
مأخوذا ً
بهواجس لا أعرف مصدرها
تأتيني منتصف الليل :
ترى كيف ألملم
روحي المرتعبة ْ ؟
ونداءات المجهول الوحشي
وكيف أهيئ روحي
لنداءات الخطوات
المقتربة ْ...!

وبدوري أنهضُ وأسحبُ "مخاطبات العشب"، وأفتح الصفحة المعلّمة بمنديل ورقي أبيض مطوي على شكل مثلث، يتناول الموسوي الكتابَ ويقرأ قصيدة "سؤال قديم":
حين نموت
هل سنغدو في التراب هادئين
ساكنين مثل ريح سكنت
وتسكن الاحلام
والافكار
والغناء؟
حين نموت
هل سنفنى في التراب
أم نقوم ُ في وريقة
أو برعم ٍ
أو نجمة ٍ
تخضرُ في حديقة السماء؟
نقرة.. نقرتان على باب غرفة: تعني مهيار يحمل صينية فيها فنجانين من القهوة الحلوة وقنينتين
من الماء المعدني وقطع من البسكت والجكليت.. يتبادلان التحية الثانية هو والموسوي الذي يحبه جدا.. أغمزه بعيني اليمنى فيجلس ليشاركنا الإصغاء.. بعد القهوة يستأذن مهيار فقد حان وقت مسلسل "توم وجيري" وهو مسلسلي المفضل أيضا.. هنا أتوجه بالسؤال التالي الى الموسوي:
-
صداقتنا عميقة واضحة، لكن عذراً: مَن أنت أيها الموسوي؟ منذ سنوات.. أعتقد تجاوزت العشرين عاما سميتّك: الوديع المسالم.. لكنني أحتاج التوغل في ينابيع الأولى.. لذا أكرر: من أنت يا صاحبي ودليلي؟

ينهض الموسوي يلتقط ديوانا آخر من دواوينه.. يتصفحه.. يعود الى الجلوس على مسند القنفة ويقرأ:
سأرسم ُ صورتي بيدي...

عرض مقالات: