يسمى عالميا فولكلور وهي كلمة مركبة  من "فولك" التي تعني الشعب وكلمة " لور" وتعطي معنى "الفن" وقد صيغت هذه المفردة المركبة على يد دارس الاقوال الشعبية وليم جونسن توماس عام 1846 لاستبداله بمصطلح "الآثار الشعبية" الذي كان سائدا في تلك الفترة. وكان من السائد ايضا إن مضمون مصطلح " الفن الشعبي " يتكون في وسط سكاني متجانس قد تتوفر فيه اللغة المشتركة والموقع الجغرافي والعرق الواحد  والظرف التاريخي. ثم تسري المنقولات الشعبية من جيل الى آخر حتى تتاصل في عمق الضمير الشعبي ويصبح الشعب هو المؤلف الوحيد لها. إلا أن الحضارات المتعاقبة قد غيّرت مصير هذه المفاهيم  فاصبحت الحاجة والدروس الحياتية المستنبطة هي المغذي الأعظم لنشوء وتطور المأثورات الشعبية.

كان وادي الرافدين مهدا أصيلا لانطلاق الفن الشعبي بمختلف اشكاله لأن مكوناته نشأت مع حياة الناس وهمومهم واكتشف العراقيون أهم العناصر المادية التي تكوّن الجسم الخارجي للفولكلور ومنها الطين النظيف الخالي من الرمل والشوائب ويسمى محليا "الطين الحرّي" الذي يوجد بكثرة في انهار العراق وضفافها وفروعها  وقد يكون مختلطا مع الانواع الاخرى من الطين  لكن الايادي الشعبية عرفت كيف تستخرجه وتميّزه عن بقية الانواع واكتشف العراقيون حركة الجسم والإيقاع  الداخلي للمادة والجسم البشري واضاف الى اكتشافاته صياغة الالواح الاخلاقية المستنبطة من التجربة الحياتية وأجوائها

الجمال.. والوظيفة

اجتهد العراقيون الاوائل والمعاصرون في الجمع بين الجمال والوظيفة بمنتجهم الشعبي في جانبيه المادي والروحي اضافة الى المعنى الذي ينضح من جوانبه. فخرج العراقي الاول الى العالم ليعلن ابتكاره القيثارة الاولى في التاريخ ليصبح هذا المنجز في عالم الموسيقى ابا وأما لجميع الوتريات القديمة والحديثة. واذا امعنا النظر في شكل القيثارة الاولى نجده معبأ بالمعاني التي كان الناس يعيشون في ظلها في حياتهم اليومية . فهي تتكون من مجموعة من الأوتار المصنوعة من مادة نادرة تكون مأخوذة على الأغلب من جسم حيواني.  ترتبط هذه الاوتار في الجزء العلوي من الآلة بما يشبه العمود الافقي الذي يرتيط برأس ثور مذهّب وينظر الى المستمعين بشيء من المرح. اعتاد العراقيون على  تربية المواشي لاسباب معيشية واقتصادية واكتسب الثور مكانة خاصة لانه يمثل الخصب وانتاج قوت الشعب  عن طريق حراثة الارض وتخصيب الابقار. وكانت المواشي هي الرمز الشعبي للثروة بل ان ثمة نوعاً من الصداقة نشأت تلقائيا بين المواشي واصحابها وكثيرا ما نرى ربة البيت او بناتها يبكين حين تضطر الاسرة  على بيع إحدى الابقار إثر عوز مفاجئ. بعد سطوة القيثارة  العراقية وانتشارها عالميا اصبحت لدينا رموز لحنية وموسيقية وفنية شعبية تتمثل في ظهور الدبكات العربية والكردية والكلدو آشورية والتركمانية التي يستطيع المواطن التعبير عن اعجابه بها دون موافقات برلمانية مستحيلة كما تريد المحاصصة المعيقة للتقدم اليوم.

الطين في خدمة المنزل

لقد برع العراقيون السالفون والمعاصرون في التعامل مع الطين لإطلاق الإنتاج الشعبي خدمة للاغراض المنزلية. فظهرت " البستوكة " وهي تسمية ذات اصل سومري لاستخدامها لاغراض شتى منها حفظ الاشياء التي تحتاجها ربة البيت وقد استخدمها الملوك  ونساؤهم لحفظ مصوغاتهم او الحاجات التي يرومون ان تدفن معهم في المقابر وقد عثر على نماذج منها الآثاريون المحدثون وما زالت تلك المقابر تعطي المزيد منها. ولم ينس المنتجون الماء الذي اعطاهم المادة الاولية فصنعوا الزير "يسمى محليا الحب ولديه ملحق صغير يوضع تحته يسمى بالحبّانة"  وكل من الحِب والحبانة يستخدمان لماء الشرب ويتم تبريده وتخليصه من الشوائب عن طريق الترشيح. وهي ذات الوظيفة التي تقوم بها "الشربة" او التنكة " كما تسمى شعبيا لكنها اصغر حجما. وثمة حكاية طريفة عن منتج شعبي آخر وهو " السدانة " وهي تستعمل لحفظ بعض الحاجات خاصة مادة الملح. الملفت ان السدانة لا تشوى بالنار مثل زميلاتها اللواتي ذكرناها، بل تترك في الهواء حتى تجف لكنها تبقى ضعيفة القوام، حتى ان ادب النكتة المرة العراقي  اطلق امثولة حوارية حول حال احد الاشخاص عندما يُسأل عن صحته فيصف حاله بانه " حال السدانة في  الماي " لأن السدانة غير صلبه بسبب عدم  شيها بالنار. لذا فاذا  نقعت السدانة في الماء فإنها تتهدم وتصبح بطبيعة الحال غير صالحة للاستعمال. ولم ينس الفن الشعبي المدخنون وجلساتهم فتم ابتكار وعاء اطلقت عليه تسميات مختلفة منها " السبيل" والتخم والبايب والشربة  وهي ادوات تحمل السيكارة او التبغ وتسهّل استعمالها وتسمى اليوم بالبايب وهي عبارة أجنبية تقبلها الناس بسهولة.

الروح المعنوية والاخلاقية في الفن الشعبي

إن ابتكار القيثارة الاولى على يد العراقيين  يدفع الى الاعتقاد بان الغناء العراقي قد نشط ارتباطا بوجود الآلات الموسيقية لكن ضعف التوثيق الآثاري او ندرته قد قلص فرص الإطلاع على نصوص الأغاني والإردودات الشعبية . لكن  الأمر تغير بحلول عصور الحكم الاسلامي والعصر العباسي بخاصة  بل إن ذلك قد شهد تطورا ملحوظا في فترة ماقبل الاسلام حيث انتعش الشعر العربي القديم وواصل تطوره في العصور الاسلامية اللاحقة وجميع الاغاني ارتبطت بالقيثارة وبناتها واحفادها من الوتريات الاخرى. ان قاعدة القيثارة قد انتشرت عالميا  في وقت مبكر ويقال ان نيرون عندما احرق روما كان يعبر عن فرحه  " وربما عن عقده النفسية " باستعمال قيثارة يدوية صغيرة ويغني على  انغامها للتعبير عن فرحه بالنيران التي تلتهم أجمل مدينة في العالم.

انتجت الروح العراقية النشطة والقلقة قيماً وأخلاقاً بعضها مثير للجدل والمتعة في آن. فأختلقوا الشخصية الشعبية " حرامي بغداد " الذي عرف عنه انه يستولي على الاموال من الاغنياء و يمنحها  للمحتاجين  وقد اصبح علي بابا وثيمته ذات طابع عالمي فهو نظير روبن هود الانكليزي وامتداد لحورس الفرعوني. إنها ثيمة تعبر عن تمرد الفقراء ضد المستغلين الاغنياء . ينظر الناس بإعجاب لهذه الشخصيات ليس لتشجيع اللصوصية بشكل عام بل لأن هذه الشخصيات تناصر العدالة لصالح الفقراء.

وهناك نوع آخر من اللصوص  استطاعوا تنصيب انفسهم " كحماة " للتقاليد والقيم الاجتماعية العالية. انهم من إفراز عصرنا الحالي. فالمواطن عبيد آل مبارك  من سكنة منطقة الحي اشتهر بانه لص محترف. قرر هو وجماعته السطو على بيت عروس تزوجت حديثا معتبرا انه سيحصل على كنوز العرس وعندما دخلوا البيت جمعوا كل من وصلت اليه اياديهم والعروس كانت نائمة وعندما جمعوا غنيمتهم تأخروا في شدّها لرفعها على اكتافهم  فخرجت عليهم العروس صاحبة البيت المسروق وعرضت عليهم استعدادها لمساعدتهم في مهمتهم  وتمنت لهم السلامة، لكن عبيد آل مبارك فكر مليا واستوعب المعاني العميقة لموقف العروس الكريم، فقرر التخلي عن فكرة سرقتها وارجع المسروقات اليها واعتذر منها. وثمة لص آخر من بغداد قرر هو وجماعته السطو على منزل وكان الظلام حالكا وعندما دخلوا المنزل تعثر هو بشيء ثقيل فأراد ان يعرف ما به فتناول شيئا منه وكان ملحا حفظه أهل البيت في سدانة، فتذكر الرجل الأمثولة العراقية التي تقول بعدم خيانة الملح واهله خاصة عندما يتذوقه في بيتهم  وقرر التخلي عن فكرة سرقتهم وخرج هو وجماعته من المنزل. لابد من التذكير بان هذه الامثلة وغيرها هي أمثلة من عصرنا وهي امتداد شرعي لتقاليد شعبنا  التي يجري تشويهها من قبل قوى تخشى انتعاش الروح الخيرة لشعبنا.