هل مرضت هذه المدينة؟
-
قُل ماتت!
جملتان داخل سيارة تاكسي أقلتني من ساحة سعد الى الفندق في مركز المدينة. الجملة الأولى قلتها أنا متسائلا ومصدوما. الثانية تكرم بها السائق.
كنتُ غريبا كعادتي، أدور في شوارع هذه المدينة وأحيائها الملغومة دائما بعواء خفي. تصنع قدماي دائرة مشوَّهة ضيِّقة، هي دائرة غربتي الشقيَّة في تيه ممطوط، فوضى لا متناهية، خراب، أجرجر في سكراته خطاي مثقلا بالأسى، وبي شيء من لسعات تلك الغربة القاسية، رنّةَ العزلة المُميتة. لعنة الـ "لماذا" المتسللة ببطء من قلب تلك المدينة الرحوم.
لم تعد البصرة أُمّا، جفَّ حنانها مع جفاف الحياة، مع مرضها، أو مع موتها بحسب السائق البصري.
ظللت أدور طوال نهار أجرب، على الرغم من موجة الحر وأكوام النفايات المنتشرة في كل مكان، وموت أنهر المدينة و.....!
همست لنفسي ساخطا: لكنني لم أبدأ بعد، صدمتي ما زالت مبكرة. هناك بطء عقيم، موت غير محسوس، أُقايضُ إشاراته المرئية بالصمت، وأتجرع عذابه المزمن بدرجة صبر تبدو مناسبة لهذياني، فكلما دخلت شارعا أو زقاقا في هذه المدينة أشعر أن النهار سيدوم إلى الأبد، وكلما جلست في مقهى بائس أظنني أنتظر عزاءات قادمة. الحياة في البصرة دهور عجاف، حُقبٌ غامضة مكررة، ريافة لا طائل منها. انتظار مضن، لا يحكمه معنى.
لكنها، في أمسها القريب كانت السحر كله والجمال كله، كانت هي الحياة. هذه المدينة لا تُدمِّر سحرها بسهولة، فسر خرابها هو أن لها صحبة متجددة مع النكبات. فصول لا تنتهي من الغزو والاجتياح والحروب والأوبئة والطغاة والاهمال. بقعٌ سود مصنوعة من قلوب لا تعرف باصورا، فتركتها كمخلفات عديمة الجدوى في سجل الأحوال المدنية، وفي عيون سائق التاكسي وحمالي سوق الخضارة وصيادي السمك على شط العرب.
هل لفظت هذه المدينة أنفاسها وتفسخت؟ هل باتت أثرا لا غير؟ لكن حتى ذلك الأثر أو بقاياه، ما زال يحتفظ به سائق التاكسي، لن يدعه يهرب من قلبه، كأنه يتحسس نهايته الحزينة، كأنَّه ما زال يذكّره بما ستؤول إليه المدينة اذا ما فقد ذلك الأثر الشح!
نامي يا بصرة الذاكرة. لن يوقظك صخبٌ ولا ضجيج ولا مزادات. لم يعد هنا هرجٌ ولا مرجٌ، لا هرجٌ ولا مرجٌ في سوق هرج! أصوات الباعة اختفت، وحوارات المتبضعين خفتت، وقلبك ما عاد يعج بذلك الفسيفساء القديم. نهايات غدت مألوفة كنهايات "الكسلة"، و"المكايد"، و"سفرات الأثل"، وجلسات الطرب، والحوارات، وهلاك المقاهي.
وداعا بصرة الأمس.