تبدأ مذكرات الروائي الكولومبي غابرييل غاريا ماركيز بعتبة نصية تقول: "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وانما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه". ومن وراء هذا القول ننغمر في متن حكائي طويل يبلغ مداه "624" صفحة من القطع المتوسط، كما جاء في طبعة دار "ميريت" القاهرية وبترجمة صالح علماني الاستاذ المتخصص في أدب امريكا اللاتينية ذي اللغة الاسبانية الكاريبية على وجه التحديد، وليست الاسبانية المدريدية المعروفة لدى سيرفانتس ولوركا التي طالما تطير منها ماركيز، اذ نعثر في مذكراته على جوانب حذرة لهذا التطير الطريف، الامر الذي يذكرنا بالفوارق المعروفة بين لغة شكسبير الاليزابيثية وبين لغة قومه الانكلوسكسونيين.

تبدو، في الوهلة الاولى ان هذه المذكرات هي صياغة حياة شاملة متكاملة لحياة ماركيز منذ الطفولة أو النشأة الاولى حتى حصوله على جائزة نوبل في ثمانينات القرن الماضي، ولكن مثل هذا لم يحدث، بل نجد اننا امام فوضى حياتية ذات وميض فسفوري يشي بعوالم الادب والصحافة والسياسة والفن، فالمذكرات تبدأ وتنتهي الى حد ما بثيمة استذكار ماركيز لامه القادمة الى العاصمة "بوغوتا" من بلدة بعيدة، وهي تطلب منه ان يرافقها من أجل بيع البيت القديم في بلدة نائية أخرى. هنا نتعرف على ماركيز الشاب الذي انقطع تواً عن مواصلة الدراسة في كلية الحقوق، غير آسف على مستقبله المعيشي بعد نشره ست قصص قصيرة في الصحافة استحقت حماس أصدقائه واهتمام بعض النقاد. وكان ماركيز وقتذاك صعلوكا حقيقيا ومجربا في فوضى التدخين والسيلان الزهري، فضلا عن تخلفه عن الخدمة العسكرية.

تمضي بنا الثيمة المذكورة، ثيمة بيع البيت ومرافقة أمه الى أغوار ومنعطفات عديدة، كمرجعياته الاولى في دراسته الثانوية وحبه الشعر والخطابة والرقص والغناء، لنتساءل: هل ثمة عقدة اوديبية بين ماركيز وامه كما جاء في نظريات التحليل النفسي لسيغموند فرويد؟ الجواب في تقديرنا العام، يحتمل نعم، وربما في آن واحد، فالمذكرات على الرغم من ثقل حجمها الا أنها لا تفصح عن هذه العقدة الخطيرة الا من خلال حكايات متعددة خالية من الاستفاضات الا في ما ندر، ليبدو لنا ماركيز الشاب منصاعا لقرارات امه عبر واقعتين مهمتين الاولى في اصرار الام على تعليم ماركيز العزف على آلة الاكورديون بدلا من آلة البيانو، وهي التي فشلت طيلة ست سنوات من تعلمها، على الرغم من اعتراض العمة المسنة العزباء بان يكون الاكورديون هو آلة الرعاع.

 اما الواقعة الثانية فتدور حول مستقبل ماركيز حينما اكمل دراسته الثانوية، اذ كان ابوه يطمح الى دراسة ابنه اللغة الانكليزية/ كلية اللغات، في حين رأت الام ان هذه الكلية محض وكر للمسيحيين اللوثريين متذرعة ايضا بأنها لا تخرج الا القضاة والحكام المتجبرين. وحول هذه الواقعة يعترف ماركيز على شرف ابيه قائلاً: ان أحد اخطاء حياتي ككاتب هو عدم تكلم الانكليزية.

فوضوية ومثيرة هذه المذكرات خصوصا في جوانب المحرم او المسكوت عنه، في تاريخه الشخصي، أو ما يتعلق ببناء شخصيته الثقافية أو كيف أصبح روائيا من العيار الثقيل في اول قارة عرفت الكولنيالية "الاستعمار" في العالم من خلال الغزو الاسباني والبرتغالي، قبل ان تزحف جيوش الاتراك والهولنديين والانكليز والفرنسيين نحو دول البلقان وآسيا وافريقيا. انه لا يتوانى عن ذكر غائطه الثقيل الرائحة حينما كان طفلا في القماط، او الاطلالة على عاهراته من الصبايا المتعددات في حله وترحاله المعروف في دول متعددة كسويسرا وفرنسا والجزائر وكوبا والمكسيك، مع انه لا يذكر سطرا واحدا عن زوجته المصرية القبطية "مدام مرسيدس ماركيز" التي ربما صنعت مجده الشخصي من وراء الاستار، وهو العاطل المهني الدائم عن العمل، الا بما يرد من قلمه السحري في الصحافة او مطبوعاته السردية قبل الحصول على جائزة نوبل، وهي بالكاد كانت تسير أموره الحياتية والمعيشية والابداعية، كما يرويها ماركيز في حياته المنفلتة والعنيدة.

وأخلص من كل ذلك ان غابرييل ماركيز قد امتدت الصنعة او ما يعرف بسر المهنة لديه كأي حرفي معروف في النجارة والحدادة والسراجة، لا يعلمها حتى لأولاده أو المقربين منه شخصياً، على العكس من المساح والطبيب والمهندس والبيطري الذي يتعلم مهنته ضمن دراسته الاكاديمية، او وفق مسارات النجاح والفشل وهذا الشائع والمألوف لكل المبدعين في العالم، كما جاء في مذكرات ورسائل ونظريات ميكائيل انجلو وليونارد دافنشي ستانسلافيسكي وبريشت ونجيب محفوظ ورفعت الجادرجي حينما قرأنا خطاباتهم المهنية والفكرية بحالة متقدمة من حواسنا الخمس.

غاربييل ماركيز كان ضنينا ومتقشفا في هذا العرف المهني. انه لم يذكر لنا سوى بعض الشعراء السابقين والمسايرين واللاحقين لمسيرته، وهم للأسف أسماء لم نقرأ لهم شعرا مترجما في العربية حتى نتعرف على خصالهم الشعرية أو مسيرتهم الابداعية، مع قائمة قصيرة للبعض من الادباء العالميين، أمثال فرانز كافكا في "المسخ" وفيدور ديستويفيسكي في رواية "القرين" مع ايجاز قصير لرواية "الرجل الثالث" لغراهام غرين. وتبجيل كبير لسوفوكليس في "اوديب ملكاً" وانرديه جيد في "مزيفو النقود" وموبيسان في "كتلة الشحم" وهكسلي في "مباراة شعرية" وأشياء متفرقة من ريلكه وبول فرلين، مع كراهية معلنة لرواية "دون كيخوت" لسيرفانتسن الاب الروحي للرواية العاملية المتعارف عليها تأسيسا وتجريبا وحضوراً، ضمن العديد من الآراء والخطابات النقدية في العالم. ولكن ماركيز وضمن هذا الولع الفوضوي الاثير يعتقد بان قراءته "الف ليلة وليلة" في طبعتها الخاصة للكبار قد تستثير بعض اللمعان الآلهي لانه كان يفكر على الدوام بأن الكبار الجديين، لا يمكنهم ان يصدقوا ان هناك جناً يخرجون من القوارير، أو أن الابواب تفتح بتعوذة من الكلمات. وضمن فوضى ماركيز ذات الوميض الفسفوري في مذكراته، نتعرف ايضا على تجربته الصحفية في أرقى صحيفتين محليتين داخل بلدة كولومبيا وهما "السبيكتادور" و"التيمبو" اللتان عاش في ظلهما لردح طويل من الزمن مبتكرا عمود "الزرافة" في الاولى، وحاضراً في سد الفراغ في الثانية، من حيث التعليق او الافتتاحية، حتى وان لخص قصة بوليسية لـ "آرثر كونيل دويل" او اغاثا كريستي فبعدهما يجلس ثملا بالاحساس بان الارض تدور فعلا حول الشمس.

اما عن تجربة ماركيز السياسية والفكرية، فقد اختصرها بحجم المذابح والدمار الذي حاق ببلده الكولومبي الصغير ذي الاربعة ملايين نسمة، قبل ان ينال استقلاله المعلن بين المحافظين الدمويين والليبراليين في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، بشواهد وافعال وخطابات يندى لها جبين الانسانية، خصوصا في حرب الالف يوم الدموية في عشرينات القرن الماضي التي لعب فيها جده "الماركيز او الكولونيل الاول" بطولة كبيرة في ذلك الزمن، ولم تنل استحقاقاتها المعروفة حتى في التقاعد المعيشي، كما قرأنا روايتي ماركيز الاثيرتين: "خريف البطريارك/ الكولنيل في عزلته" او احداث 9 نيسان 1947 حينما عم الدمار والخراب والنار العاصمة الكولومبية، بعد اغتيال الزعيم المنتخب خورخي اليس بيتيان في ظل المؤتمر الامريكي لدول القارتين في ذلك الزمن، وكان من ضمن الحاضرين لهذا المؤتمر في هذه العاصمة طالب الحقوق الكوبي فيديل كاسترو وطالب الطب ارنست جيفارا اللذين تواروا ضمن هذه المذبحة في امكنة مدججة بالامن والسلاح، حينما كان يعتقد بأن الاول هو من اشعل الحرائق في العاصمة الكولومبية، بالرغم من مسوغات غابريل ماركيز في دحض الاعتقاد.

وفي هذا الشأن يقول ماركيز: لست شيوعيا ولا حزبيا بالمرة، ولكنهم يعيرونني بقول منسوب الى لينين " اذا لم تتدخل في السياسة، فان السياسة تتدخل فيك في نهاية الامر". ولعل هذه الخلاصة المقطرة في هذا القول تثبت ان ماركيز كان ماركسيا جدليا الى حد النخاع، حتى وان توارى في اقاصيصه المثيرة ورواياته المعروفة تحت ما يسمى بـ "الواقعية السحرية" التي تنتصر في الاخير الى عموم الجياع والفقراء في قارة ملح البارود او في البراري والجبال الانديزية، كما فعل اسلافه العظام من امثال نيرودا، وبورخيس وكانتربير وروبين داريو.

وحول تأثير عمله الصحفي في كتابة التحقيقات الصحفية في الجريدتين المذكورتين، يقول ماركيز: "ببرود اعصاب وشيء من الذكاء الفطري استثمرت حادث الناجي الوحيد من الطرادة الحربية في البحر الكاريبي لاكتشف شخصيته الحقيقية بعد غرق زملائه السبعة وهو ما دعاني الى التفكير للمرة الاولى في امكانيات الريبورتاج الصحفي، ليس كوسيلة باهرة لتقديم المعلومات وانما اكثر من ذلك كجنس ادبي ولن تنقضي سنوات طويلة قبل ان اخوض تلك التجربة بنفسي وان اتوصل الى الايمان مثلما اؤمن اليوم اكثر من اي وقت آخر، بان الرواية والريبورتاج الصحفي هما ابنان للام نفسها".

وهذا هو التصريح الصحفي حول روايته الشهيرة "حكاية غريق" التي انتمت مرجعياتها الى حوار صحفي مكتنز مع الناجي المذكور، وهو ما كلفه الغربة والابتعاد عن وطنه حتى مماته في المكسيك عام 2014 بفعل التوليتاريا العسكرية التي ما زال تأثيرها وصداها قائما حتى اليوم.

ترى، لماذا لم يصرح غاربييل ماركيز حول حيثيات نتاجه القصصي والروائي العريض الذي يربو على 17 كتابا طيلة أعوامه التي ناهزت على 78 عاما من السنين؟

تقول والدته قبل موتها في عمر السابعة والتسعين، بعد ان وقفت على مجده الفسفوري الاثير في كل العوالم التي وطأها هذا الابن المبدع، وبعد عقود طويلة من غياب ماركيز عن ناظريها او مذ فشل بيع البيت القديم: "أنا من باركت له السفر لمدة اسبوعين الى جنيف، أعلم ان رحلته لا تتعدى اربعة ايام فقط ولكن غابيتو لا يخدع احدا. وكل ما في الامر ان الرب نفسه يضطر احيانا الى جعل الاسابيع سنين".

وبهذا تكون مذكرات غاربييل ماركيز جولة نفسية في آفاق رحبة من الادب والمعرفة.