دائماً يخاصم الشاعر واقعه المرير ويهرب الى واقع آخر ووجوه أخرى وأرض أخرى، فالشاعر انسان يحاول البحث عن متنفس اثناء كتابته القصيدة ويحصل هذا الخصام عند العديد من الشعراء، لكنه عند الشاعر "خليل الأسدي" لا ينقطع بسبب الظروف المعقدة التي عاشها الشاعر الذي رحل عنا قبل أكثر من عام على غفلة من الزمن بعد رحلة شاقة ومتعبة مع الحياة ومآسيها خاصة بعد إنهيار الجبهة الوطنية عندما كان الشاعر يعمل في جريدة طريق الشعب الى جانب صديق الصبا والشباب والشعر والبدايات الأولى الشاعر "هاشم شفيق" الذي شكل معه ثنائياً رائعاً في الشعرية العراقية بعد بداياتهم عندما نشروا أولى قصائدهم في جريدة طريق الشعب ليؤكدوا على قصيدتهم المتفوقة والمؤثرة التي انتبه لها شعراء كبار وتنبؤوا لها بمستقبل زاهر، كان خليل الأسدي في بداياته يكتب القصيدة العمودية ويجيد كتابتها لكنه بعد قراءات وحوارات مع أصدقائه تمكن من الإنتقال الى القصيدة الحرة أو ما تسمى بقصيدة التفعيلة ليبدع فيها وظل مخلصاً لهذا النوع الشعري الحديث الذي تمكن من لفت الأنظار اليه بسبب عمق الموضوع داخل القصيدة وصورها المكثفة ورشاقة جملته.
نشر الأسدي في بداياته قصيدة بعنوان "الأسلحة" وكانت القصيدة عبارة عن نبوءة لمستقبل العراق فالحرب والدمار الذي لحق بالبلاد قد تطرق اليهما في تلك القصيدة قبل سنوات طويلة من بداية المأساة العراقية ! وقبل سنوات ثلاث زرت بغداد مدينتي التي أعشقها فالتقيت بخليل الأسدي في اتحاد الأدباء، الصدفة وحدها قادتني الى رؤياه بعد أن فارقته قبل اكثر من عقدين من الزمن، كان خليل يرتدي ملابس رثة ويحتسي الخمر يومياً، ملامحه تؤكد على تدهور صحته أكثر ما كان عليه في سنوات التسعينيات، تحدثنا كثيراً عن الحياة ومعاناته المستمرة، حيث لا بيت ولا شيء يملكه داخل الوطن الذي عاش فيه كل سنين عمره وزج داخل مطحنة الحرب العراقية الإيرانية في سنوات الثمانينات اثناء خدمته العسكرية ليصاب بيده اليسرى في واحدة من المعارك وعطبت يده وظل يعاني منها حتى رحيله! كان الجوع ينخر في أحشائه في فترات كثيرة لكنه لم يساوم وظل مخلصاً لمبادئه في الحياة والشعر فهو الهادىء النبيل والشاعر الذي يكتب قصيدته بعد معاناة وألم وجوع وخوف وتشرد فهو شاعر الألم والحب بامتياز.
وبالرغم من ان الشاعر لم ينجز سوى أربع مجموعات شعرية وكتاب نثري واحد إلا أنه كتب الكثير من القصائد التي لم يجمعها بكتاب ليطبعها بسبب اهماله الشديد لحياته التي عاشها في سنواته الأخيرة بطريقة مؤلمة كان ابن شقيقته قد أرسل لي رسالة مع بعض الصور لخليل الأسدي وكيف يعيش في غرفة بائسة تفتقد الى أبسط مقومات العيش الكريم في قضاء المحمودية.. لقد رحل صاحب القصيدة الحرة الجميلة والباهرة التي يكتبها الشاعر خليل الأسدي، مات كجسد لكن قصائده باقية في وجدان الشعر العراقي والعربي. ففي القصيدة نراه يبذخ بصور عالية الشعر والتي تقفز من كل حرف من حروف القصيدة المتوهجة بإبداعها، وعندما يلوح الشاعر لماضيه بكفٍ تلفها الغيوم والضبابية فيكون بذلك حزيناً ويلفه الحزن الكبير، وينبذ الشاعر في قصيدته كل مباهج الحياة في انتظار خطوات ذكرى قادمة، فهو مازال لم ينس حبه الأول بعد عقود من الزمن المّر الذي مضى. مقطع يشع فيه الألم وتبرز فيه لوعة الحب. يقول الشاعر الراحل خليل الأسدي في قصيدة الحب وهي واحدة من قصائد مجموعته الشعرية الأخيرة "ويظل عطركِ في المكان":
ما كان يحزنني كثيراً
أنني لوحت للماضي بكف غائمة،
وأقمت في غزلات نفسي
نابذاً كل المباهج من نوافذها،
مترقباً خطوات ذكرى قادمة،
ذهب الجميع الى الأبد
وبقيت أنتِ
على وسادة ذكرياتي نائمة".

عرض مقالات: