وأنا أدخل اتحاد الأدباء ألتقيته عند الباب يتكئ على عصاه، كان ذلك في أواخر الثمانينيات وكانت الحرب العراقية الأيرانية للتو قد وضعت أوزارها مخلفة وراءها الآلاف من القتلى والثكالى والأرامل والأيتام، وبعد أن ألقيت عليه التحية تحدثنا في ممر الإتحاد الذي يؤدي بنا الى الحديقة كانت إبتسامته وروحه الهادئة تضيف الى شاعريته الفذة الكثير، أنه الشاعر الراحل رشدي العامل الذي رثى نفسه ورثى بلاده قبل رحيله عبر قصيدته المؤلمة والجميلة "مات المغني" والتي تتجلى في صورها الشعرية قساوة الأيام والخوف على البلاد من الكوارث التي ستلحق بها بعد خسارات وفقدان ختمت بالمرض الذي رافقه لسنوات طويلة حتى رحيله.
كان "أبو علي" شاعراً يسارياً ملتزماً وقد انتمى الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ بدايات شبابه الأولى ولم يجامل يوماً نظام البعث الذي كان باستمرار يعتقله ويزج به في السجون، وكان قد عمل سنوات في جريدة طريق الشعب وعندما ينتقل في أقسامها يشعر بروحه تهدأ وتطمئن من وحشتها، وبعد انهيار الجبهة الوطنية في أوآخر سبعينيات القرن الماضي لم يغادر الشاعر رشدي العامل العراق وظل يعيش وحيداً بعزلته التي اختارها لنفسه حتى تفاقم عليه المرض وتوقف قلبه في خريف عام 1990 بعد رحلة طويلة ومريرة داخل الوطن مليئة بالسجون والقيود والإضطهاد والقمع والقهر والتي انتصر عليها الشاعر بقوة قصيدته وروحه الصافية المفعمة بالمحبة لوطنه العراق فأنشد في واحدة من قصائده يقول: "أنت باقٍ مكانك هذا الوطن لم تقل ذات يوم نهاجر".
ينتمي العامل الى جيل ما بعد الرواد الذي يمثله حسين مردان ويوسف الصائغ وسعدي يوسف، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يمثل مدرسة شعرية قائمة بذاتها، مدارس شعرية علمت الشعرية العربية على التجديد والدهشة والإبداع الذي يتدفق من نصوصهم الباهرة في جمالها وموضوعاتها التي دائما ما تنتصر الى الإنسان، وواحدة من وظائف الشعر العظيمة هي الانتصار للفقراء والمظلومين في الأرض عبر فكرة القصيدة التي يقوم الشاعر بضغطها، لم يكن "ابا علي" شاعراً فحسب إنما هو شدة من الورد متنقلة تجوب الفضاءات، كان دافئاً محباً مخلصاً.
في قصيدة رشدي العامل الجميلة "مات المغني" يقف الشاعر بوجه السلطة، يمقتها بكل شجاعة، فهو الشاعر والمغني الذي مات داخل القصيدة في شجى آلامها وحروفها ونقاطها، لكنه لم يمتْ في ضمير كل من عرفه أو قرأ قصائده، هو نقطة مضيئة في الشعرية العراقية وعلامة فارقة في شعرنا الحديث. في المقطع أدناه من قصيدة الشاعر الكبير رشدي العامل يسترجع سنوات العذاب وهو على حافة الموت فكانت سنواته عارية دون وتر ولا صوت يغني والأيام لا تتمكن من عبور أرصفة الشوارع وثمة سجن وسجان وكوة باب السجن التي يرى من خلالها أمه وأصحابه ويتسلم من تلك الكوة الخبز الذي يدسه له السجان، ثم ترحل السنوات وتعود أشد قسوة وأشد ظلما من سابقاتها، فيعود الشاعر طفلا يسرق التفاح من بستان الجارة، ويلثغ الراءات وتفتنه الحكايا! أنها صورة للألم الذي عاشه الشاعر وصورة الشعر بعين الشاعر حين يجسد آلامه وآلام شعبه ووطنه عبر قصيدة تضيء أحرفها كل دروب النضال الصعبة، يقول الشاعر رشدي العامل في قصيدته، مات المغني:
وطني وقد مات المغني
هل نستعيد حكاية السنوات عارية
بلا وترٍ يرافقها، ولا صوتٍ يغني
هل تعبر الأيام أرصفة الشوارع
أوجه الأطفال، أثقال الرجال
وكوة في باب سجني
منها أرى أمي وأصحابي
ومنها يدفع السجان لي خبزي وكفاف اليوم
منها ترحل السنوات عني
وتعود مثقلة السلال
أعود طفلاً، اسرق التفاح من بستان جارتنا
وأمنحه الصبايا، طفلاً بريئاً الثغ الراءات تفتنه الحكايا..

عرض مقالات: