يقدم الباحث والناقد "ثامر الحاج أمين" في كتابه الموسوم "سيرة وجع عراقي" سفراً منوعاً وممتعاً في حياة الشاعر الراحل "علي الشباني 1946-2011" الأدبية على وجه الخصوص، إذ أعدّ وجمّعَ أوجه نشاطات الشاعر في الشأن الأدبي في حياته الضاجة بالثقافة والفعل والإبداع، وبوّبها في خمسةِ فصولٍ بيّنت دور وتأثير الشاعر في الحياة الثقافية العراقية كونه من مجددي القصيدة الشعبية العراقية التي بلور فيها طريقة خاصة بقول الشعر شكلت تياراً في الشعر الشعبي نلمس أثره الآن في أجيال مبدعة شابة تكتب شعراً من نمط القصيدة الشبانية التي فتحتْ لها أفقاً كان متوارياً في غيبِ اللغةِ والواقعِ.    

في الفصل الأول اختار المعد نماذج من مقالات الشاعر الأدبية والصحفية، إذ عمل عند إطلاق سراحه من سجن الحلة أواخر ستينات القرن الفائت في مجلة "ألف باء" وكتب الكثير من المقالات أورد بعضا منها وفيها ينظّرْ للشعبية كأداة رائعة في الشعر ويحلل علاقة اللهجة المحكية بالفصحى ولغة المدن التي أسماها – الوسيطة - والتي كان يعّول عليها كونها لغة المستقبل كما جرى ذلك مع جميع لغات الأرض، ومن هذه الرؤيا التي بلورها في شعره نجد أن لغة قصائده بالرغم من دفقها وكأنها تخرج من القلب والعقل بسلاسة الماء، هذه اللغة مكتوبة بوعي ثقافي ومعرفي عميق يربط حركة الشعر العامي العراقي الحديثة "مظفر والجيل بعده وعلي منه" بحركة الشعر العامي العربي وخصوصا في لبنان ومصر حيث أزدهر ورفد الأغاني والأناشيد أعذبها ووجد قبولاً رسمياً بالعكس من التضييق عليه في العراق بحجج تبدو لغوية لكنها تبطن لموقف سياسي كون غالبية شعراء تلك الفترة هم من شعراء اليسار العراقي وهذا ما لم يستطيع الشباني قوله في مقالات عام 1970 لكننا سنجده في مقالاته الأقرب بعد الاحتلال الأمريكي 2003 والمنشورة في الصحافة الرسمية في أعوام الانفجار الصحفي الأولى إذ أشر بوضوح إلى مسببات منع الشعر الشعبي وقتها.

كما تكشف مقالاته الأدبية عن ناثر مرهف الحس، رسم بقلمه لوحات لأمكنة مدينته "الديوانية" في صيرورتها التاريخية من خلال عيني الطفل الذي كانه، فصور الجسر والأب والحقول والأحداث في زمن شبابه حيث تفتح على حلم الثورة وتموز واليسار، كما صور في مقالات قصيرة عذاب السجن وغربته ووحشته وقوة الروح المقاومة.

وفي مقالات أخرى أو قطع نثرية أخرى صور العديد من الشخصيات شعراء ككزار حنتوش، والحصيري، أبو ضاري، عريان السيد خلف وغيره مبدياً رأيا نقدياً بأشعارهم وأثرها وسماتها، كما صوّرَ في قطعتين سرديتين جميلتين متخيلا شخصية "عبد الكريم قاسم" و " شخصية رسام من المدينة "علي نوير". قطعتان من أجمل ما أبدعه في السرد كنص مفتوح، ولا أدري كم شعرت بالأسف لأن علي الشباني انشغل عن هذه الموهبة والقدرة التي لا تقل عن قدرته الخالقة في ميدان القصيدة الشعبية.

وفي مقال خَصَّ فيه القصة القصيرة بالديوانية نشره عام 2002 تتبع فيه محاولات كتابة القصة في المدينة في خمسينيات القرن الماضي وكيف حاول شاب متحمس من اليسار تقليد كتاب القصة المعروفين وقتها كفؤاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان، وذو النون أيوب، وحدد أسباب فشله، وأسباب صعوبة كتابة هذا الجنس الأدبي، وتابع ذلك إلى السبعينات حيث ظهر كتاب قصة في المدينة وذكر أسماء بعضهم متحاشيا طبعا كتاب قصة من المدينة أصبحوا معروفين عربيا خارج العراق بسبب الرقابة. في محاولة رائدة لتدوين مسار هذا الفن في الديوانية.

يخصص الباحث "ثامر حاج امين" الفصل الثاني وهو من أطول الفصول لما كُتِبَ عن الشاعر من مقالاتٍ ودراساتٍ شملتْ بشكلٍ رئيس أشعاره الشعبية المتكونة من ديوانيه "أيام الشمس 2001 دار نينوى دمشق" و "هذا التراب المر حبيبي 2010 دار الرواد بغداد" إذ يتبين من الدراسات الأهمية التجديدية لقصيدة "علي الشباني" العامية التي شكلت لوناً ونمطاً مختلفاً في القصيدة الشعبية، و اختار الباحث مقطعاً قصيراً من دراستي الطويلة عن الشاعر، كما انتقى مقاطع من دراسات للدكتور حسين سرمك والشاعر ريسان الخزاعي ومقالات لكاظم غيلان والعديد من الدارسين. كما انتقى العديد من المقالات التي تناولت أشعاره الفصحى وديوانه الوحيد "النار في المحبة" الذي صدر في تسعينات القرن الماضي. وهذه المقالات المكثفة والمقاطع من الدراسات الطويلة تقدم فكرة بسيطة عن عمق أشعار الشباني وشاعريته.

في الفصل الثالث يقدم الباحث نماذج من الرسائل التي كتبها الشاعر لأصدقائه وزملائه الكتاب والشعراء تكشف عن روح الشاعر المتوقدة والمشغولة بالمحبة والثورة والإنسان في محنة وجوده الملتبس، والرسائل موجهة إلى كاتب هذه السطور وإلى الناقد الدكتور حسين سرمك والشاعر عريان السيد خلف والشاعر مظفر النواب، كما هنالك رسالة موجهة من الشاعر مظفر النواب إلى الشاعر علي الشباني. كما حوى الفصل على نماذج من محاولات الشباني في ميدان القصة القصيرة وهي قصص مكتوبة بروح الشاعر والتقاطاته وبلغة مرهفة وبناء قصصي معقول، ومن الجميل أرشفتها في هذا الكتاب كي يطلع القارئ على سعة عالم الشاعر الأدبي وتنوع اهتمامه.

في الفصل الرابع انتقى معد الكتاب عددا من الحوارات التي أجريت مع الشاعر، ومن الملاحظ أن أغلب الحوارات تمتْ عقب الاحتلال الأمريكي 2003 ونُشِرَتْ في الصحف العراقية، بعضها يتعلق بالشعر وصيرورته وتطور القصيدة العراقية الحديثة كما هو في حوار الشاعر "كاظم غيلان" وفي حوار أخر أعتبره مهما وحيويا أجراه كاظم سيد علي 2004 يستدعى المحاور؛ التاريخ النضالي للشاعر وظروف سرقة مطبعة ثانوية في الديوانية وطبع بيانات ضد سلطة البعثيين الدموية عقب 8 شباط 1963، واعتقاله وحياة السجن والأجواء السياسية والثقافية ومن هذا المسار يستطيع القارئ تلمس الكيفية التي بُنِي فيها الشاعر سلوكاً وموقفاً وإبداعيا وتناسق هذه البنية النضالية الثورية مع أشعاره التي تعد ثورية وجديدة بالمنطق الأدبي،

وفي لقاء أخر أجراه الشاعر "سعد علوان" وفي معرض إجابته عن سؤال يتعلق بما لديه وبمَ يحلم الآن وكان ذلك في عام 2008 يتنبأ الشاعر بالفصل الأخير من حياته الضاجة اللاهثة حيث قضاه في العزلة التامة والذبول والموت وحيداً في نهايته المأساوية، وحيداً وسط مدينته وأهله، فيجيب مختتماً إجابته المقتضبة:

"مع الكهولة ورجحان العقل وانحدار العمر في السفح الثاني من الجبل تبرد الحماسات ويسكن القلب ويلتفت الشاعر إلى ماضيه الإبداعي وعطائه. أنه التأمل الأخير ومحاولة إيجاد المبرر الحياتي للكتابة وامتحان الخلود، واكتشاف أن  في كل هذه السنين لا يوجد ارتواء في حياة الشاعر لذا فقد تأخذ الأشياء طعمها اللاذع النهائي وقد ينتهي الرجل "الشاعر" وهو يحكي مع روحه بصمت.. بصمت.. قبل أن يغادر".

في الفصل الخامس والأخير يقدم الباحث نماذج قصيرة من قصائده مقتطعة من ديوانيه العاميين وديوانه الفصيح.

لا يسعني في ختام الكلام إلا أن أرفع قبعتي لجهد الصديق الباحث والناقد ثامر الحاج أمين في انتخاب مواضيع الكتاب وتبويبه المتناسق وطبيعة الانتقاءات التي قَدْمَتْ صورةً وافيةً عن حياةِ الراحل وأشعاره وثقافته في صفحات الكتاب الـ "278" من القطع الكبير.

في الأخير لا بد من الإشارة إلى المتاعب التي تجشمها الباحث في طباعة الكتاب إذ تخلى المتبرع عن دفع التكاليف حال تمام المشروع فاضطر الباحث إلى طبع نسخ محدودة قصد التوثيق.