لم تدرس حسب علمي الأرضية التي يفرش الرسامون عليها ألوان لوحاتهم، سواء اكانت الأرضية أداة تمسك باليد، ام طاوله يفرش عليها عوالم ألوانه، كنت أتامل عددًا من هذه التكوينات في عدد من مراسم الفنانين العراقيين والهولنديين، فوجدتها أمكنة تتشكل فنيًاعلى خشبة مسرح الألون، وليس العكس، فاللون هو الذي يفرض أداته، فوجدتها كما لو أنها لوحات في طور التشكل، لوحات يصنعها اختلاط الالوان بعيدًا عن قصدية الفنان أوأهدافه، ألوان على هيئة كائنات غارقة في ذاتها تنتظر اختلاطها لتلد لونًا جديدًا، كما لو أن اللوحة اداة اليد سريرًا لممارسة الجنس فالألوان الحارة والباردة تنتج شيئا مغايرًا، ألواننا نحن في حالات وجودنا كائنات أمام مبهمة الرسام، لذا هي تمارين وجودية للتعامل مع اللون، وطريقة لقراءات طاولة قبل ان تتحول ألوانها إلى دراما.

هذه الأداة المثقلة بالألوان قبل أن تذهب إلى اللوحة هي خشبة مسرح تتحرك عليها جينات الكائنات المتخيلة، لتصيرها بعد أن تحملها الفرشاة كيانات لونية، وما ان يضعها الفنان على قماشة اللوحة حتى تنسى أسماءها، لتصبح موضوعًا، وعندما تتحرر من كينونة الأداة تصبح كائنات  تجريدية لقضايا وأفكار موضع السؤال الذي ينشده الفنان. لم أقرأ موضوعًا عن اختلاط الألوان، عن هذه الصيرورة الغامضة، عن النسب وحجم اللون وكميته، قبل أن تحملها الفرشاة إلى ما يريده الفنان منها، فاللوحة بثر زمني يسكن فيها الماضي بينما يتطلع سطحها للحاضر..

شاهدت ما يشبه الحكاية المجسَّدة بحواس الفنان لدى رسامين عراقيين، ما زلت أتامل ثلاث خشبات لمسرحة ألوانهم: واحدة للفنان علي طالب "هولندا"، والثانية للفنان سعد علي "بلجيكا"، والثالثة للفنان فيصل لعيبي "لندن"، كنت اتلصص على هذه الخشبة اليدوية أو طاولة الصيرورة الكونية كما لو أنها الطين الذي سيخلق منه الفنان كائنات اللوحة الكونية، حركة لليد متنقلة استجابة للعين بأمر من الدماغ، حركة منتقلة من خيال المادة اللونية إلى الواقعية الفنية، حركة تجسد كائنات الخيال الفني. فللألوان ثلاث حركات: واحدة يلقي بها التيوب بكل طاقته اللونية كما يفعل الفنان كارل أبل، "وقد شاهدت ذلك في راي أمستردام، ألون باردة تعيد المسافة تشكيلها ككتلة لها طبيعة تخطيطية" والثانية حين توضع الألوان بقصدية على خشبة تُمسك باليد وعليها يجري الفنان تمارين اختلاطها الأولى وهي تقع تحت حركة اليد والرؤية، وهو "ما يعمله العديد من الفنانين العراقيين اللذين شاهدتهم"، والثالثة اشتراك الألوان في البنية العامة للوحة كما لو كانت اللوحة أرضا زراعية مهيأة لإنبات البذور، لتصبح خلاصتها جزءًا من بنية كونية الاخصاب.

ما شدني إلى هذه الرؤية المزدوجة هو اختلاط اللوان حين يمتزج على الخشبة اليدوية بقصدية الرغبات الأولي للمواد، وحين يأخذ الفنان منها جزئيات ويعمد إلى خلطها ثانية بادراك الفكرة التي سينفذها، أجد ثمة عالما يتشكل، الذي اثارني حقيقة هو الإنتقال من العفوية إلى الإرادة، ومن الرؤية الطبيعية للون  إلى الرؤية الفنية، وكأن قوى أخرى تساهم في اختيار درجات معينة من الالوان المختلطة للتعبير عن الفكرة المبهمة كي تتضح ملامحها ،هذا الانتقال من المكان الأرضي إلى فضاء اللوحة واحد من أعمال المخيلة التي تعيد تركيب مضمون الأشياء وشكلها، ربما يمكن القول أن هذه اللحظة التي يرفع الفنان بها الوانه بفرشاته ويدمجها في فضاء اللوحة هي من أكثر اللحظات تركيزًا على معنى التوازن والجمالية. إن ما يميز "الفنية" بطرية أو بأخرى، أنها تتم بإرادة وليست عن طريق العفوية أو الصدفة المحض، فثمة اختبار مكاني يتعلق بين لوح اليد واللوحة،هذا الانتقال بكتلة معلقة بالفرشات مسند إلى يد مرتبطة بحس مجسد، إلى وضعها في مكان ما في فضاء اللوحة، هي الطريق الفيزيائي الذي يعيد تركيب الأشياء المفترقة والمتخيلة، سواء كانت اشياء مادية كاللون، أو اشياء موضوعاتية كالدلالة.

عرض مقالات: